اعترف الدين الإسلامي بالمسيحية بوصفها إحدى الديانات الكتابية ذات الأصل الإلهي. واتسمت العلاقة بين النبي والمسيحيين بالود والتسامح في أغلب فتراتها. على الطرف الآخر، حظي المسلمون المهاجرون إلى الحبشة بدعم النجاشي. وتمتع نصارى نجران بهامش واسع من الحرية، التي سمحت بها الدولة الإسلامية في العهد النبوي.
لكن، لم تبق العلاقة بين الحكومات الإسلامية المتعاقبة وبين الرعايا المسيحيين هادئة دائمًا. تعرض المسيحيون للعديد من حملات التضييق والاضطهاد. نلقي الضوء في هذا المقال على أهم تلك الحملات، لنرى كيف تسببت الظروف السياسية في تأجيج نيران التعصب الديني والطائفي عبر القرون.
المرجعية الدينية
مثلت حقبة النبوة و"الخلافة الراشدة" المرجعية الدينية الأهم في كيفية التعامل الإسلامي مع المسيحيين في العصور اللاحقة. وردت العديد من الأحاديث والروايات التي حددت شكل التعامل مع المسيحيين وغيرهم من أهل الكتاب. حضت بعض الروايات على احترام حقوق "الذميين" -اليهود والمسيحيين- في العيش وممارسة الطقوس الدينية، فيما ضيقت بعض الروايات الخناق عليهم. من روايات النوع الأول، الحديث الوارد عن النبي "من قتل معاهدًا لم يرح رائحة الجنة، وإن ريحها توجد من مسيرة أربعين عامًا"، وحديث: "من آذى ذميًا فأنا خصمه، ومن كنت خصمه خصمته يوم القيامة". ومن روايات النوع الثاني ما ورد في صحيح مسلم من قول النبي: "لا تَبْدَؤوا اليهود والنصارى بالسَّلام، وإذا لَقِيتُمُوهُمْ في طريق، فاضْطَّرُّوهُمْ إلى أَضْيَقِه".
تُعد العهدة العمرية (ميثاق الخليفة الثاني عمر بن الخطاب) أحد أهم النصوص المرجعية التي يُحتكم إليها بخصوص التعامل الإسلامي مع المسيحيين. كتب عمر نص هذا الميثاق للمسيحيين في مدينة إيلياء(أورشليم أو القدس) عقب الاستيلاء عليها سنة 15ه. ورد في ذلك الميثاق "...هذا ما أعطى عبد الله، عمر، أمير المؤمنين، أهل إيلياء من الأمان، أعطاهم أمانًا لأنفسهم وأموالهم ولكنائسهم وصلبانهم... أنه لا تسكن كنائسهم ولا تهدم، ولا ينقص منها ولا من حيِّزها ولا من صليبهم ولا من شيء من أموالهم، ولا يُكرهون على دينهم، ولا يضارّ أحد منهم... وعلى أهل إيلياء أن يُعطوا الجزية كما يُعطي أهل المدائن...".
تحكي بعض القصص عن المعاملة العادلة التي لقيها المسيحيون في فترة الخلافة الراشدة. تتحدث واحدة من الروايات عن انتصاف عمر بن الخطاب لأحد المسيحيين المصريين الذين ظلمهم والي مصر عمرو بن العاص، وأن عمر قال وقتها مقولته المشهورة: "متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمّهاتهم أحرارًا؟!".
على الجهة المقابلة، تحدثت بعض الروايات أن بعض الصحابة سافر إلى بلاد الشام، فمر على مسيحيين "وَقَدْ أُقِيمُوا فِي الشَّمْسِ، وَصُبَّ عَلَى رُءُوسِهِمُ الزَّيْتُ، فَقَالَ: مَا هَذَا؟ قِيلَ: يُعَذَّبُونَ فِي الْخَرَاجِ...". الأمر الذي يفسر ما ذكره أحمد أمين في كتابه "فجر الإسلام" من "أنّ بعض الولاة لم يكن يرعى تعاليم الدين وتسامحه في الذميين. فكان يسومهم سوء العذاب فاضطروا أنْ يفروا من دينهم إلى الإسلام".
عصر الأمويين والعباسيين
عرف التاريخ الإسلامي حملة الاضطهاد الأولى للمسيحيين زمن خلافة عبد الملك بن مروان المتوفى 86ه. يذكر تقي الدين المقريزي في كتابه "تاريخ الأقباط" أن الجزية حُصلت من الرهبان المسيحيين للمرة الأولى في الإسلام في عهد ولاية عبد العزيز بن مروان على مصر. مارس الولاة الذين قدموا بعده مزيدًا من الضغوط على الأقباط. يقول المقريزي: "لمّا ولي مصر عبد الله بن عبد الملك بن مروان. اشتد على النصارى... وأنزل شدائد لم يُبتلوا قبلها بمثلها...".
تشدد الأمويين مع المسيحيين استمر زمن خلافة عمر بن عبد العزيز. يذكر الأسقف المصري ساويرس ابن المقفع المتوفى 987م في كتابه "تاريخ البطاركة" أن عمر بدأ خلافته متسامحًا مع المسيحيين "ولكنه بعد ذلك بدأ يفعل السوء، وكتب كتابًا إلى مصر مملوءا غمًا... يقول فيه: من أراد أن يقيم في حاله وبلاده فليكن على دين محمد مثلي ومن لا يريد فيخرج من أعمالي. فسلموا له النصارى ما بأيديهم من التصرفات وتوكلوا على الله وسلموا خدمتهم للمسلمين... ودخلت اليد على النصارى من الولاة والمتصرفين والمسلمين في كل مكان، كبيرهم وصغيرهم، غنيهم وفقيرهم...". نجد شاهدًا على ذلك التشدد فيما ورد في كتاب "المصنف" لعبد الرزاق الصنعاني المتوفى 211ه. ذكر الصنعاني أن عمر بن عبد العزيز "كتب إلى عروة بن محمد أن يهدم الكنائس التي في أمصار المسلمين...".
تزايد الاضطهاد الأموي للمسيحيين في عهد الخليفة يزيد بن عبد الملك. يذكر ابن تغري بردي في كتابه "النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة" أن والي مصر في عهد يزيد "...ورد عليه كتاب الخليفة يزيد بن عبد الملك بن مروان بكسر الأصنام والتماثيل، فكسرت كلها ومُحيت التماثيل من ديار مصر وغيرها في أيامه". يتحدث المقريزي أيضًا عن موجة الاضطهاد التي لاحقت الأقباط في عهد يزيد، فيقول: "...واشتد أيضًا أسامة بن زيد التنوخي -متولي الخراج- على النصارى، وأوقع بهم وأخذ أموالهم، ووسم أيدي الرهبان بحلقة حديد، فيها اسم الراهب، واسم ديره، وتاريخه، فكل من وجده بغير وشم قطع يده. وكتب إلى الأعمال بأن من وجد من النصارى وليس معه منشور، أن يؤخذ منه عشرة دنانير، ثم كبس الديارات وقبض على عدة من الرهبان بغير وسم فضرب أعناق بعضهم، وضرب باقيهم حتى ماتوا تحت الضرب، ثم هدمت الكنائس وكسرت الصلبان ومُحيت التماثيل وكُسرت الأصنام بأجمعها...".
يذكر الراهب القمص بطرس البراموسي في كتابه "مختصر تاريخ الآباء البطاركة الرعوي" في السياق نفسه أن والي مصر "...كلف المسيحيين بأن يرسموا على أيديهم اسم الوحش بدلًا من علامة الصليب وتجاسر وطلب ذلك من البطريرك، فأبى البابا وطلب مهله ثلاثة أيام وفيها حبس نفسه في قلايته وسأل الرب يسوع ألا يتخلى عنه في هذه الشدة...".
تعرض الأقباط لموجة أخرى من الاضطهاد زمن الخليفة العباسي المأمون. ضاق المصريون بحالهم وبما تعرضوا له من ظلم وتنكيل، وثاروا على الدولة العباسية فيما عُرف باسم ثورة البشموريين. واجه المأمون الثورة بحزم، ونجح في القضاء عليها بعد أن سحق الثوار. تحدث بعض المؤرخين عن نتائج تلك الهزيمة فقالوا: "منذ ذلك الحين، جعل الله الأقباط صغارًا في جميع أنحاء مصر ودمر سلطتهم ولم يستطع أحد أن يغضب السلطان ويعارضه".
عرف العصر العباسي موجة أخرى من الاضطهاد للمسيحيين زمن حكم الخليفة المتوكل على الله. أنهى المتوكل الخلاف حول قضية خلق القرآن. وقدم نفسه للعامة باعتباره المدافع عن السنة والدين. لم يكن من الغريب أن يواصل الخليفة العمل على الترويج لحملته الدعائية سنة 235ه عندما أصدر مجموعة من القرارات المقيدة لحرية رعاياه المسيحيين. يذكر الطبري المتوفى 310ه تفاصيل تلك القرارات في كتابه" تاريخ الرسل والملوك". يقول: "وفي هذه السنة أمر المتوكل بأخذ النصارى وأهل الذمة كلهم بلبس الطيالسة العسلية والزنانير وركوب السروج بركب الخشب... وأمر بهدم بيعهم المحدثة، وبأخذ العشر من منازلهم، وان كان الموضع واسعًا صير مسجدًا، وإن كان لا يصلح أن يكون مسجدًا صير فضاء، وأمر أن يجعل على أبواب دورهم صور شياطين من خشب مسمورة، تفريقًا بين منازلهم وبين منازل المسلمين، ونهى أن يستعان بهم في الدواوين وأعمال السلطان التي يجري أحكامهم فيها على المسلمين، ونهى أن يتعلم أولادهم في كتاتيب المسلمين، ولا يعلمهم مسلم، ونهى أن يظهروا في شعانينهم صليبًا، وأن يشمعلوا -يمشوا ناحية اليسار- في الطريق، وأمر بتسوية قبورهم مع الأرض، لئلا تشبه قبور المسلمين...".
الدولة الفاطمية
عُرف الخلفاء الفاطميون الأوائل بالتسامح مع المسيحيين واليهود. كان هناك الكثير من الذميين الذين عُينوا في مناصب الوزارة والإدارة بالدولة. لكن، انقلب الوضع رأسًا على عقب في زمن خلافة الحاكم بأمر الله المتوفى 411ه. قاد الخليفة الغريب الأطوار حملة اضطهاد واسعة ضد المسيحيين الخاضعين لسلطته في مصر وبلاد الشام.
يتحدث المقريزي في كتاب الخطط عن سبب اضطهاد المسيحيين زمن خلافة الحاكم، فيقول: "نزل بالنصارى شدائد لم يعهدوا مثلها، وذلك أن كثيرًا منهم كان قد تمكن في أعمال الدولة حتى صاروا كالوزراء وتعاظموا لاتساع أحوالهم وكثرة أموالهم فاشتدّ بأسهم وتزايد ضررهم ومكايدتهم للمسلمين فأغضب الحاكم بأمر الله ذلك، وكان لا يملك نفسه إذا غضب...". يذكر المقريزي في كتابه "اتعاظ الحنفاء بأخبار الأئمة الفاطميين الخلفاء" أن حملة الاضطهاد بدأت سنة 395ه عندما "قُرئ سجل في الجوامع يأمر اليهود والنصارى بشد الزنار -حزام- ولبس الغيار -ثوب مخصص-...". يذكر شمس الدين الذهبي المتوفى 748ه في كتابه "سيّر أعلام النبلاء" أن موجة الاضطهاد الطائفي تعالت سنة 402ه عندما أمر الخليفة المسيحيين "بتعليق صليب في رقابهم زنته رطل وربع بالدمشقي... وأن يدخلوا الحمام بالصليب وبالقرمية -خشبة كبيرة-، ثم أفرد لهم حمامات، وأمر في العام بهدم كنيسة قمامة وبهدم كنائس مصر".
قام الحاكم بأمر الله بعد ذلك بتعقب بطاركة الكنيسة فحبسهم وألقى بهم للوحوش المفترسة. وفي سنة 403ه "...أمر النصارى بلبس السواد وتعلق صلبان الخشب في أعناقهم، وأن يكون الصليب ذراعًا في مثله، وزنته خمسة أرطال، وأن يكون مكشوفًا بحيث يراه الناس، ومُنعوا من ركوب الخيل، وأن يكون ركوبهم البغال والحمير بسروج الخشب والسيور السود بغير حلية، وأن يَسدّوا الزنانير ولا يستخدموا مسلمًا ولا يشتروا عبدًا ولا أمة، وتتبعت آثارهم في ذلك، فأسلم منهم عدّة...".
وصلت تلك الموجة الطائفية ذروتها سنة 404ه عندما أمر الخليفة الفاطمي رعاياه من اليهود والمسيحيين بترك دولته والرحيل إلى أراضي البيزنطيين. تراجع الحاكم فيما بعد عن هذا القرار، وتسامح بعض الشيء مع المسيحيين. تسبب ذلك الاضطهاد -ولا سيما هدم كنيسة القيامة- في اندلاع موجة هائلة من الغضب الأوروبي ضد المسلمين، ولم يمر وقت طويل حتى تحركت أولى الحملات الصليبية باتجاه الشرق الإسلامي.
العصر المملوكي
استمد سلاطين المماليك شرعية حكمهم من واقع كفاحهم المستمر ضد أعداء الإسلام، سواء كانوا من الصليبيين أو المغول. من هنا، عرف العصر المملوكي عددًا من موجات الاضطهاد الموجه للرعايا المسيحيين. حاول المماليك أن يظهروا كحماة لبيضة الدين، واستنفذوا وسعهم في تحويل السكان لاعتناق الدين الإسلامي.
وقعت موجة الاضطهاد المملوكي الأولى للمسيحيين في زمن حكم الملك الناصر محمد بن قلاوون. يتحدث أحمد بن علي القلقشندي، في كتابه "صبح الأعشى في صناعة الإنشاء"، عن ملابسات تلك الموجة، فيقول: "أمر -يقصد السلطان- بجمع النصارى واليهود، ورسم ألا يستخدم أحد منهم في الجهات السلطانية، ولا عند الأمراء، وأن تغير عمائمهم، فيلبس النصارى العمائم الزرق، وتشد في أوساطهم الزنانير، ويلبس اليهود العمائم الصفر... وغلقت الكنائس بمصر والقاهرة، وسمرت أبوابها، ففعل بهم ذلك، وألزموا بأن لا يركبوا إلا الحمير، وأن يلف أحدهم إحدى رجليه إذا ركب، وأن يقصر بنيانهم المجاور للمسلمين عن بناء المسلم. وكتب بذلك إلى جميع الأعمال ليعمل بمقتضاه، وأسلم بسبب ذلك كثير منهم".
شهد ذلك الاضطهاد إصدار مرسوم سلطاني أُلزم فيه المسيحيون ببعض الأمور الغريبة. ومنها "...أن يجزوا مقادم رؤوسهم... ولا يدخل أحد منهم الحمام إلا بعلامة تميزه عن المسلمين في عنقه: من خاتم نحاس أو رصاص أو جرس أو غير ذلك...وتلبس المرأة البارزة منهم خفين: أحدهما أسود، والآخر أبيض!".
تزايُد الاضطهاد المملوكي للمسيحيين تسبب في دفع العامة للمشاركة في حملات التضييق في بعض الأحيان. يذكر المقريزي في أحداث سنة 721ه أن المماليك أزالوا جميع المباني الملاصقة لكنيسة الزهري. وكانوا يريدون أن تسقط هذه الكنيسة القديمة دون أن يمدوا يدهم إليه، "وصارت العامة من غلمان الأمراء العمّالين في الحفر وغيرهم، في كل وقت يصرخون على الأمراء في طلب هدمها، وهم يتغافلون عنهم، إلى أن كان يوم الجمعة التاسع من شهر ربيع الآخر في هذه السنة... تجمع عدد من غوغاء العامة بغير مرسوم سلطاني وقالوا بصوت عالي مرتفع: الله أكبر ووضعوا أيديهم بالمساحي ونحوها في كنيسة الزهري وهدموها حتى بقيت كومًا، وقتلوا من كان فيها من النصارى، وأخذوا جميع ما كان فيها". يذكر المقريزي أن هؤلاء "الغوغاء" ذهبوا بعد ذلك للكنائس القريبة فنهبوها وهدموها، وتوجهوا بعدها للكنيسة المعلقة فحاصروها وكادوا أن يفتكوا بمن اعتصم بها لولا أن جماعة من العسكر المملوكي تمكنت من اللحاق بهم وتفريقهم.