تردم المصادر التاريخية السريانية فجوات كبيرة في التواريخ العربية الإسلامية تتعلق بطبيعة وهوية الحركات الاحتجاجية في كردستان القديمة في الحقبة العباسية الأولى، والتي توصم في بعض الأحيان بالزندقة، وهي الصيغة الإسلامية لمصطلح "الهرطقة" اليوناني. ومن حسن حظنا أن تاريخ البطريرك ديونيسيوس السرياني احتفظ بتفاصيل نادرة حول ثورة الأكراد ضد الخلافة العباسية في عهد الخليفتين المأمون والمعتصم، وربط ربطاً منطقياً ثورة المهدي الكردي بحركة بابك الخرُّمي، الموصوم بالمروق والزندقة.
ثورة مهدوية
يوضح البطريرك السرياني الهوية الدينية لثورة الأكراد بأنها ثورة مهدوية، حيث يقول: "هؤلاء الأكراد تسلموا من آبائهم فكرة قيام ملك يدعى المهدي المنتظر، الذي سيقود الشعوب إلى الإيمان بالله، وأنه سيورّث ملكه لآخر تستمر خلافته إلى ما لا نهاية. والمؤمنون به، سيُبعثون بعد موتهم بأربعين يوماً ويعودون إلى ذويهم، ومن ثم ينتقلون إلى مكان مجهول".
ويتابع البطريرك السرياني في تاريخه: "وقد ظهر في هذه الأيام (أواخر القرن الثامن الميلادي، ومطلع القرن التاسع) ذاك المدعو المهدي وكان يضع برقعاً على وجهه، ويدعي حيناً بأنه المسيح، وحيناً آخر بأنه الروح القدس، وكان عدد أتباعه وأمواله يزداد يوماً فيوماً، واجتمعت عنده زرافات زرافات من الأمم باسم النهب والسلب، واتخذ مقراً له في جبال الأكراد المنيعة، وانتشرت عبادته في الجزيرة وأرمينيا، ودمر بازبدي (آزخ الحالية) وطور عبدين، وكان يفتك بالجميع دون تمييز، وقد عبده المجوس واعتبروا كل من لا يعبده غريباً، حتى أن الخليفة المأمون خاف منه".
حفيد أبي مسلم الخراساني
ترد في أحد المصادر العربية الإسلامية إشارة مهمة إلى أن المهدي المذكور هو حفيد القائد الكردي أبو مسلم الخراساني. يقول المؤرخ الحسن بن علي بن إسحاق الطوسي، المتوفى سنة 485هـ، في كتابه "سير الملوك" إن أتباع الخرمية "كان أول ما يتفوهون به في محافلهم ولقاءاتهم إظهار الأسف والحسرة على قتل أبي مسلم، صاحب الدولة، ولعن قتلته دائما والصلاة على المهدي بن فيروز ابن فاطمة بنت أبي مسلم الذي كانوا يدعونه الطفل الحكيم أو الفتى العالم".
وكردية أبو مسلم الخرساني صرح عنها الشاعر العباسي أبو دلامة في قصيدته التي هجاه فيها بعد إعدامه حيث يقول: "أبا مُجرِمٍ ما غَيَّرَ اللهُ نِعمَةً عَلَى عَبدِهِ حَتَّى يُغَيِّرَها العَبدُ". إلى أن يقول: " أَفي دَولَةِ المَهدِيِّ حَاوَلتَ غَدرَةً ألا إنَّ أَهلَ الغَدرِ آباؤُكَ الكُردُ"!.
ويوضح الطوسي أن الركيزة التي بنى عليها الخرمية مذهبهم هي أنهم "ألقوا عن كواهلهم كل ضروب الإجهاد والإرهاق ونبذوا شعائر الدين الإسلامي وفرائضه من قيام وصلاة وصيام وحج ومجاهدة أعداء الله عز وجل، والاغتسال من الجنابة، وتحريم الخمرة، والتمسك بالزهد والتقوى وكل ما هو فريضة".
قتل المهدي الكردي
يبدو أن ثورة المهدي الكردي، التي كانت تحتمي بجبال كردستان المنيعة، امتدت لتصل إلى بلاد الجزيرة الفراتية وتحديداً إلى منطقة طور عابدين، أحد مراكز السريان الرئيسية. "وعندما جاء الأكراد لنهب دير قرتمين والقرى المجاورة، في مناطق طور عابدين، أخذت الغيرة الحاكم المسلم الحسن الذي كان يحترم جداً معتقدات المسيحيين، فباغتهم بالهجوم فاندحر الأكراد وهزموا، واضطر ذاك الذي ألّهوه إلى الهروب مع نفر من أمام الحسن، إلى منطقة إسحاق بن آشوط الذي قبض عليه وسجنه"، يقول البطريرك ديونيسيوس.
ولا معلومات حول إسحاق ابن أشوط هذا، ولكن كما هو واضح فهو زعيم مسيحي سرياني يقيم في منطقة طور عبدين بدلالة اسمه، لأن أشوط اسم سرياني لا لبس فيه يعني شهر شباط. وهناك قرية في منطقة طور عبدين تدعى باسحاق بالسريانية، أي منطقة إسحاق أو بيت إسحاق، ربما لها علاقة بإسحاق ابن أشوط هذا.
ويتابع البطريرك السرياني: "لكن الأكراد هجموا على بيت إسحق لإنقاذ ملكهم، إلا أن إسحاق بادر إلى قطع رأس المهدي وأخذه مع أمواله وأفراد أسرته وهرب. فلما دخل الأكراد لم يجدوا سوى جثة المهدي".
أثار مقتل المهدي الكردي غضباً عارماً بين أتباعه، فقرروا الانتقام بأي طريقة كانت، وكان من حسن حظهم أن القائد السرياني إسحاق ابن أشوط دخل في صراع مع السلطة العباسية، وبات مطارداً منها، الأمر الذي شجع الأكراد من أتباع المهدي الكردي لأن يكمنوا لذويه وأفراد أسرته، وقد فضحت امرأة كردية أمر الكمين، وبثت الخبر في قرية بيت إسحاق، فما كان من شقيق زوجة إسحق، وكان راهباً، إلا أن دخل حصن القرية مع جماعة من الناس واعتصموا به.
حصار قلعة السريان
يروي البطريرك تفاصيل الحصار الذي تعرض له سريان المنطقة من جانب المقاتلين الأكراد، وهي الرواية التي لا تخول من مبالغات إعجازية.
يقول إن الأكراد قاتلوا الموجودين داخل الحصن، ولم يكن مع المسيحيين سوى الحجارة. ويضيف: "التجأ المؤمنون إلى البيوت محتمين بصلاة ذلك الراهب العفيف المقترنة بالركوع، والذي كان يتضرع إلى المسيح وهو حامل صندوقاً يحتوي على ذخائر القديسين. وكانت أخته تحثه على المزيد من الصلاة وقد ألقت رضيعها أمام الرب وناشدت المسيح قائلة: أرأف بعبيدك من أجل هذا الطفل الذي ما زالت أثار المعمودية في وجهه".
ويتابع: "لما أوشك الأكراد على دخول الحصن بسبب احتراق الأبواب، أخذ راهب آخر رمحاً مثل فنحاس، وألقى بنفسه من السور ووصل إلى زعيمهم وطعنه، باسم الله، وقتله دون أن يستطيعوا إلحاق الأذى به، وأمضى المؤمنون الليل ساهرين. أما زوجة إسحاق التقية، فقد قررت الموت ولا السقوط بأيدي الوثنيين الأكراد، فتقلدت سيفاً مذهباً لكي يجذبهم لمعانه فيقتلوها، واستعدت للخروج مع مطلع الصباح. غير أن الرب الذي يستجيب من يدعوه بإيمان، جعل الأكراد يتراجعون عن مهاجمة الحصن الذي أوشكوا أن يستولوا عليه ويوجهوا أنظارهم إلى نهب الذين في المنطقة".
هذا الهجوم المباغت وقع في غياب القائد السرياني إسحاق بن أشوط، ولكنه حين علم بما جرى لحصنه ومعقله؛ أرسل قوة من المشاة إلى الحصن، ولكنهم فوجئوا بحجم النهب الذي تعرضت له القرية، ووجدوا الشباب السريان مستغرقين في الصلاة، وسيوفهم مربوطة مع بعضها. في إشارة إلى استعدادهم للقتال حتى الموت.
وفي اليوم التالي، وصل القائد إسحق مع جيشه النشط، ووجد الأكراد قد تعبوا من القتال، ولذلك لم يسمعوا صوت حرسهم حين نبهوهم لوصول حيش إسحاق ابن أشوط، فلما حاولوا الهروب لم يتمكنوا بسبب الثلوج. الأمر الذي مكَّن إسحق من قتلهم جميعاً.
قيادة بابك "راعي البقر"
يقول البطريرك السرياني إن خليفة المهدي الكردي كان يدعى هارون، ولكنه سرعان ما قتل على يد الحاكم العباسي المدعو علي، ثم تسلم قيادة الثوار الأكراد بعد مقتل هارون، القائد الجديد بابك، الذي يسميه البطريرك ديونيسيوس بـ "راعي البقر"، وهو المعروف في المصادر الإسلامية باسم بابك الخرمي.
والمعلومات عن بابك في المصادر العباسية كثيرة ومتناقضة وغامضة، وكلها ترميه بالزندقة، من دون التحقق من طبيعة حركته وأصلها، ولكن بعض المصادر ومنها "البدء والتاريخ" للمطهر بن طاهر المقدسي المتوفى نحو 355هـ، ربطته بأحد ورثة الحركة الخرمية. ونستطيع أن نخمن بأن الصراع الذي تحدث عنه المقدسي على قيادة الطائفة الخرمية، أتى بعد مقتل هارون ابن المهدي، بين شخصين من مدعي الرئاسة أحدهما يدعى عمران والثاني جاويذان.
وبحسب مؤرخي تلك الحقبة العباسيين فإن جاويذان استقطب بابك إلى جانبه وقربه إليه بسبب كفاءته، وبعد مقتل جاويذان تسلم الزعامة من بعده، وقد خاض القتال ضد العباسيين مدة عشرين عاماً إلى أن نجح القائد التركي للخليفة المعتصم المدعو الأفشين بالقضاء على ثورة بابك واعتقاله وسوقه إلى سامراء، حيث أعدم فيها عام 838م.
ويشير البطريرك السرياني إلى أن بابك دخل في طاعة الامبراطور البيزنطي ثيوفيلوس وقاتل العباسيين تحت راية ذلك الإمبراطور. ويبدو أن زعيماً كردياً آخر قام بعد بابك يدعى موسى، تحدث عنه البطريرك في أحداث سنة 842م، وقال: "وفي هذا الشتاء احتشدت الجيوش في منطقة باقردى لمحاربة موسى المتمرد زعيم الأكراد، فاحتمل أبناء المنطقة ضيقاً شديداً بسبب الجنود الذين كانوا يحلون في بيوتهم يأكلون ويشربون، فعم الغلاء فبيع كيل الملح بأربعين قرشاً وأوقيتا جبن بقرش، وخمسون جوزة بقرش، في حين كانت المنطقة تصدر الجوز والجبن. ولم يتمكن الفرس، يقصد بذلك العباسيين، من الأكراد، لأن الأخيرين لا يخرجون للقتال إلا بعد أن يأكلوا ويشربوا ويناموا، في حين جمدّ البرد القارس الفرس وتناثرت أصابعهم، وقتل منهم نحو 15 ألفاً".
غموض وتأويلات
ساهم غموض المعلومات حول حركة المهدي الكردي، وعدم ربط بابك الخرمي بها؛ بخلق الكثير من الأوهام حولها، الأمر الذي فتح باب التخمين والاجتهاد، حيث اعتبر شيوعيو الشرق الأوسط أن الحركة الخرمية هي أول حركة شيوعية في التاريخ، متخذين من اتهامات خصومهم لهم دليلاً على شيوعيتهم وإباحيتهم، حيث زعم معظم المؤرخين العباسيين أن الحركة المقصودة هي في جوهرها حركة إباحية، يجتمع فيها الرجال والنساء في يوم معين ويمارسون المشاعية الجنسية، وهذه تهمة تتكرر حيال أي حركة مخالفة، فقد وصم بها المانويون قبل ذلك، ثم وصمت بها فرق إسلامية باطنية، وهي بلا شك وسيلة لشيطنة المخالفين.
والغريب أن الآذريين المعاصرين، وهم قبائل تركية وصلت إلى أذربيحان بعد الثورة الخرمية بقرون، يزعمون أن بابك الخرمي هو آذري منهم، وهذه المزاعم مرتبطة بالحقبة السوفييتية التي حاولت البحث عن الشيوعية في تراث شعوب المنطقة، بذلك ضاعت حقيقة أن بابك الخرمي كردي من أكراد منطقة أذربيجان، وأن حركته امتداد طبيعي لحركة المهدي الكردي الذي انفرد البطريرك السرياني ديونيسيوس بأخباره.