عاش اليهود في بلاد الرافدين منذ آلاف السنين. حظيت تلك الأرض بمكانة مهمة عند اليهود باعتبارها الموطن الأول للنبي إبراهيم، حسب المعتقدات الدينية، ولكونها المكان الذي شهد سبي أسباط بني إسرائيل في زمن الإمبراطوريتين الآشورية والبابلية. تعرض اليهود العراقيون للكثير من المتاعب والتحديات في العصر الحديث. كيف وصل اليهود للعراق؟ وكيف عاشوا على أرضها في العصور الحديثة؟ وما هي الأسباب التي حدت بهم لهجرة بلاد الرافدين بعد مئات القرون من استيطانها؟
كيف وصل اليهود للعراق؟
يذكر العهد القديم أن النبي إبراهيم خرج من بلاد الرافدين ثم سافر إلى مصر وبلاد كنعان، وأن ذريته انتشرت في منطقة فلسطين وتمكنت من تأسيس دولة موحدة بها في القرن العاشر قبل الميلاد. انقسمت تلك المملكة وتعرض الجزء الشمالي منها للهجوم من قِبل الإمبراطورية الآشورية في القرن الثامن قبل الميلاد. وبعدها هوجم الجزء الجنوبي من قِبل الإمبراطورية البابلية في القرن السادس قبل الميلادي. على وقع الهزيمتين، تم نفي الآلاف من بني إسرائيل إلى بلاد الرافدين فيما عُرف باسم السبي الآشوري والسبي البابلي على الترتيب. تحدث العهد القديم عن الظروف التي عاش فيها اليهود في العراق. على سبيل المثال، جاء في سفر المزامير: "على أنهار بابل هناك جلسنا، بكينا أيضاً عندما تذكرنا صهيون".
كيف عاش اليهود العراقيون في العصور الحديثة؟
بقي اليهود في العراق على مر القرون. وعاشوا تحت صفة "أهل ذمة" بعد دخول الإسلام إلى بلاد الرافدين، كما أن المزيد منهم قدموا إلى العراق بعد سقوط الأندلس في أواخر القرن الخامس عشر الميلادي. برزت مكانة اليهود العراقيين في العصر الحديث في مجالات التجارة والمعاملات المالية على وجه التحديد، ومارسوا الكثير من المهن الحرة مثل الطب والصيدلة، كما أنهم اشتغلوا بكثافة في بعض الصناعات البسيطة مثل صناعة الأثاث والأحذية والأخشاب والأدوية والأقمشة والتبغ والجلود. وكذلك وصلوا إلى رئاسة بعض اللجان المسؤولة عن التجارة في بغداد. وكان رئيس صيارفة الوالي المعروف باسم "صراف باشا" يهودياً في أغلب الأحيان، واشتهر من بين هؤلاء الصيارفة ساسون بن صالح بن داود الذي تقلد هذه الوظيفة أعواماً طويلة.
على الصعيد الديموغرافي، انتشر يهود العراق في أغلبية المدن والقرى العراقية ولا سيما بغداد والموصل والبصرة وكركوك. وكانت لهم علاقات تجارية وثيقة بالهند وإيران. وازدهر هذا الدور عقب افتتاح قناة السويس في مصر سنة 1868. تحدثت الباحثة الإسرائيلية فيوليت شاماش -وهي من مواليد بغداد سنة 1912م- في كتابها "ذكرياتي في الجنة: رحلة في بغداد اليهودية" عن الأوضاع المتميزة التي عاشها يهود العراق في النصف الأول من القرن العشرين. تقول إنه من بين كل التجمعات اليهودية في الشرق الأوسط، كان يهود العراق الأكثر تكاملاً واندماجاً في المجتمع، والأكثر عروبة، والأكثر ازدهاراً
في السياق نفسه، تذكر الباحثة خيرية قاسمية في كتابها "يهود البلاد العربية" أن اليهود العراقيين عاشوا في بلاد الرافدين كسكان أصليين وليس كرعايا دول أجنبية، كما أنهم اعتادوا على التحدث بالعربية أو الكردية في المناطق التي يقطنها الأكراد. وكذلك، واظبوا على استعمال الأسماء العربية مثل فيصل وغازي، ولم يلجؤوا إلى التسمي بالأسماء التوراتية إلا في أضيق الحدود.
من جهة أخرى، احتفظ اليهود بحقهم في ممارسة شعائرهم وطقوسهم الدينية بحسب اللوائح والتنظيمات التي أقرتها القوانين العثمانية. على سبيل المثال، احتفظ اليهود العراقيون بخمس مزارات دينية في أرض العراق، وهي مرقد النبي ناحوم في القوش شمال نينوى، وقبر عزرا أو العزير بين مدينتي القرنة والعمارة جنوب العراق، ومدفن النبي حزقيال بين مدينتي الحلة والنجف، ومرقد يوشع كوهين بجانب الكرخ في بغداد، ومرقد الشيخ إسحق الغاووني بجانب الرصافة في بغداد. واشتهرت كذلك عدد من المعابد ودور العبادة اليهودية، ومنها كنيس "مئير طويق" الذي يقع في الجانب الشرقي لنهر دجلة من بغداد، وعُرف بكونه أحد مراكز تسجيل اليهود العراقيين الراغبين بالهجرة إلى إسرائيل فيما بعد، ومقبرة الحبيبية في مدينة الصدر في بغداد والتي تُعدّ أكبر مقبرة لليهود في العراق.
النزوح من العراق
تغيرت أوضاع اليهود العراقيين كثيراً في أربعينات القرن العشرين، وذلك بالتزامن مع بوادر تأسيس دولة إسرائيل. خاضت الدول العربية الحرب ضد إسرائيل، وبالتبعية تم استهداف اليهود الذين يعيشون على أراضي تلك الدول.
في اليوم الأول من يونيو 1941، وقعت حادثة الفرهود في العراق. والتي سقط على إثرها نحو 3000 بين قتيل وجريح من يهود بغداد. وتسببت فيما بعد في تسريع وتيرة الهجرات اليهودية من الأراضي العراقية. رغم مرور ما يزيد عن الثمانين سنة على وقوع تلك الحادثة الدامية إلا أن ملابساتها لا تزال غامضة إلى حد بعيد.
هاجر الآلاف من اليهود العراقيين في تلك الفترة. وفي مارس سنة 1950م، صدّق البرلمان العراقي، في مجلسيه، الأعيان والنواب، على القانون الرقم 1 لعام 1950م، والذي اشتُهر بـ "قانون إسقاط الجنسية" عن اليهود. ونص القانون على السماح لمن يرغب من يهود العراق في ترك العراق نهائياً بأن يهاجر رسمياً وشرعياً، في مقابل توقيعه على استمارة بالتنازل عن جنسيته العراقية. وأعطى القانون اليهودَ العراقيين مهلة عامٍ للتفكير والتسجيل لطلب الهجرة، كما نص القانون على نزع الجنسية العراقية عن اليهود الذين غادروا العراق في فترات سابقة من دون الحصول على إذن، أو بوسائل غير مشروعة، ما لم يعودوا خلال شهرين. وقدَّمت الحكومة العراقية تبريرها من أجل تقديم هذا القانون إلى البرلمان. وقالت إن "الأسباب الموجبة" هي أنه "لوحِظَ أن بعض اليهود العراقيين أخذوا يتذرَّعون بكل الوسائل غير المشروعة من أجل ترك العراق نهائياً، وإن وجود رعايا من هذا القبيل، مُرغَمين على البقاء في البلاد، ومُكرَهين على الاحتفاظ بالجنسية العراقية، يؤدي إلى نتائج لها تأثيرها في الأمن العام، وإلى خلق مشاكل اجتماعية واقتصادية، فقد وجد أنه لا مندوحة من عدم الحيلولة دون رغبة هؤلاء في مغادرة العراق نهائياً وإسقاط الجنسية العراقية عنهم".
زاد استهداف اليهود العراقيين بالتزامن مع وصول النظام البعثي إلى السلطة في أواخر ستينات القرن العشرين. تم اتهام العشرات من اليهود بتهمة التجسس لحساب إسرائيل. تسبب ذلك في دفع الكثير منهم لمغادرة العراق بعد فترة من التردد. وتشير إحصاءات رسمية إلى أن الأغلبية الغالبة من اليهود العراقيين الذين تركوا العراق في تلك الظروف العصيبة توجهوا إلى إسرائيل. وإلى أن 219 ألف يهودي إسرائيلي يعودون بالأساس إلى أصول عراقية. ومنهم الكثير من الشخصيات المشهورة والمؤثرة في المجتمع الإسرائيلي مثل زعيم طائفة اليهود السفارديم الحاخام الأكبر عوفاديا يوسف، ووزير الدفاع الأسبق بنيامين بن إليعازر.
تسببت كل تلك الأحداث في غياب العنصر اليهودي -بشكل شبه كامل- عن المشهد العراقي. يوضح سعد سلوم مؤسس معهد دراسات التنوع الديني في بغداد التناقص الحاد في أعداد اليهود العراقيين فيقول: حتى سنة 2012، سجلت في كتابي عن الأقليات في العراق وجود ستة يهود فقط في العراق. وقبل مدة رحلت عن عالمنا امرأة يهودية مسنة ليتبقى خمسة أفراد فقط. ومع وفاة آخر طبيب يمثل الأقلية العراقية اليهودية، صرنا على وشك وضع ختام لوجود يهود بابل الألفي وتلاشي طائفة دينية تجذرت لقرون في بلاد ما بين النهرين. اليهود الأربعة الذين تبقوا في بغداد، هويتهم غير مكشوفة، وربما فقط السلطات وبعض المقربين يعرفونها، ولا يذهبون للمعابد ولا يعلنون عن ديانتهم". وأضاف: "يخشون القتل، فهناك من لا يفرق بين الإسرائيليين واليهود. في السنوات المقبلة ومع تقادم أعمار هؤلاء الأربعة، فإن العراق سيكون من دون أي وجود يهودي".
من الجدير بالذكر أن هناك بعض الأصوات العراقية التي دعت لعودة اليهود العراقيين إلى بلادهم مرة أخرى. في يونيو سنة 2018، رد الزعيم الشيعي مقتدى الصدر على سؤال ورد على مكتبه في مدينة النجف عما إذا كان يحق لليهود ذوي الأصل العراقي العودة إلى العراق بعد هجرتهم إلى فلسطين المحتلة منتصف القرن الماضي. أجاب الصدر خطياً "إذا كان ولاؤهم للعراق فأهلاً بهم".