عراقيون من الصابئة المندائية خلال أحد طقوس التعميد في نهر دجلة قرب العاصمة العراقية بغداد.
عراقيون من الصابئة المندائية خلال أحد طقوس التعميد في نهر دجلة قرب العاصمة العراقية بغداد.

تحتفل طائفة الصابئة المندائيين هذه الأيام بعيد البرونايا. يُعرف هذا العيد بأسماء مختلفة ومنها البنجة -والتي تعني الرقم خمسة باللغة الفارسية- وعيد الخليقة. يُعدّ هذا العيد واحداً من أربعة أعياد سنوية كبرى عند المندائيين.

هذه الأعياد هي: العيد الكبير "دهواربا"، ويوم التعميد الذهبي "الدهفة ديمانه"، وعيد الازدهار "الدهفة حنينا"، فضلاً عن عيد البرونايا. من هم الصابئة المندائيون؟ وما هو عيد البرونايا؟ وما هي الطقوس التي يمارسها المندائيون في أيام هذا العيد؟

 

من هم الصابئة المندائيون؟

 

يذكر الباحث عزيز سباهي في كتابه "أصول الصابئة المندائيين ومعتقداتهم الدينية" أن هناك آراء مختلفة فيما يخص تحديد الأصول الأولى للدين المندائي. يذهب أصحاب أحد الآراء إلى أن المندائيين ظهروا في منطقة جنوب العراق، وأنهم تأثروا بالثقافات البابلية والسومرية المحيطة بهم، في حين يذهب آخرون إلى أن المندائيين الأوائل ظهروا في أرض فلسطين، وأنهم اضطروا إلى الهجرة إلى العراق بعد نشوب الصراع بينهم وبين اليهود هناك.

إسلاميا، ذُكر الصابئة ثلاث مرات في القرآن وبشكل متشابه، كما في سورة البقرة: "إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ". وقد عُرف العديد من المندائيين في الحضارة العربية الإسلامية. كان منهم كل من ثابت بن قرة المتوفى 288ه، الذي اشتهر بعلمه الواسع في مجالات الفلك والهندسة والرياضيات، والمؤرخ هلال الصابئ المتوفى 448ه، الذي تولى ديوان الإنشاء ببغداد لفترة وصنف كتاب "تحفة الأمراء في تاريخ الوزراء".

يوضح الريشما، وهي أعلى رتبة دينية عند الصابئة المندائيين، ستار جبار حلو الزهيري، رئيس ديانة الصابئة المندائيين في العراق والعالم، أهم العقائد التي يؤمن بها المندائيون. يقول: المندائيون يعتقدون بأن ديانتهم هي أول الديانات التوحيدية على الإطلاق. ويؤمنون بآدم أبي البشر، الذي كان أول من اصطبغ/ تم تعميده على يد الملائكة في "عالم الأنوار". يعتقد المندائيون كذلك بمجموعة من الشخصيات المقدسة التي تحظى بمكانة رفيعة. ويُعدّ كل من آدم، وشيث، ونوح، وسام بن نوح، وإدريس/دنانوخت، أهم هذه الشخصيات. ويعتقد المندائيون بأن يحيى بن زكريا هو آخر الأنبياء.

اعتمد المندائيون اللغة الآرامية الشرقية لتدوين نصوصهم المقدسة. ويُعد كتاب جنزا ربا -والذي يعني الكنز العظيم- أهم كتبهم المقدسة على الإطلاق. ويعرف المندائيون يوم الأحد على كونه اليوم الأقدس في الأسبوع. ويحتفلون بعدد من الأعياد، من أهمها رأس السنة المندائية. ويمكث فيه المندائيون في بيوتهم لمدة ست وثلاثين ساعة متواصلة، وعيد البرونايا أو عيد الخليقة، وعيد الازدهار الذي يحتفلون فيه بذكرى تيبس الأرض وجريان الأنهار وتفتح الزهور إيذاناً بنزول آدم إلى الأرض! فضلاً عن عيد التعميد الذهبي، الذي يحتفلون فيه بذكرى تعميد آدم وذكرى تعميد يحيى.

أما فيما يخص العقيدة، فتوجد خمسة أركان رئيسية في الديانة المندائية. وهي الإيمان بإله واحد خالق لكل شيء، والصلاة، والصباغة/التعميد، والصدقة، والصوم.

في السنوات الأخيرة هاجر الآلاف من الصابئة المندائيين العراق بعد اجتياح تنظيم داعش لمناطق واسعة في البلاد عام 2014م. ويعيش من بقي منهم في العراق الآن في مدن بغداد، وميسان، والناصرية، والديوانية.

 

الأيام الخمسة وبدء الخليقة

 

يؤمن المندائيون أن هناك أربعة أدوار كاملة للحياة والخلق سبقت ظهور العنصر البشري على الأرض. استمرت كل دورة لفترة طويلة ثم انتهت وتبعتها الدورة التي تليها. وهكذا تم استكمال تلك الدورات حتى ظهر آدم على الأرض. يرتبط عيد البرونايا بالفترة الأولى من تلك الدورات. يشرح الريشما ستار جبار حلو هذا الارتباط، فيقول إن عيد البرونايا يتعلق بذكرى خلق "عوالم النور" والتي تسمى بـ "المي دنهورا".

في الأيام الخمسة، التي يُحتفل فيها بعيد الخليقة، يستذكر المندائيون عملية الخلق الأولى التي ورد الحديث عنها في سفر الخليقة في الكتاب المقدس المندائي المُسمى كنزا ربا. يتحدث السفر عن وقوع حدث يشابه الانفجار الكوني جعل العالم ينبثق ويتوسع من الثمرة الأولى.

وتذكر التقاليد المندائية أن الملائكة و"الأرواح الطاهرة" تنزل من "عالم النور" إلى الأرض في تلك الأيام. وأنها تبارك المؤمنين وتغمرهم بالسرور والسعادة والرحمة الإلهية. من الجدير بالذكر أن التقويم المندائي يتكون من اثني عشر شهراً. ويتكون كل شهر من ثلاثين يوماً. بما يعني أن السنة تتضمن 360 يوما. ولا تحسب أيام البرونايا الخمسة ضمن التقويم. الأمر الذي يتسق مع النظرة المندائية لتلك الأيام على كونها الفترة التي انبثقت منها الحياة النورانية الأولى.

 

طقوس عيد البرونايا

 

تبدأ الأيام الخمسة للبرونايا مع صباح اليوم السابع عشر من شهر مارس في كل عام. وتتضمن الكثير من الطقوس الاحتفالية ومنها إقامة الصلاة. ولمّا كانت تلك الأيام الخمسة "أياما نورانية" شهدت خلق "عالم الأنوار"، حسب العقيدة المندائية، فقد صار من المعتاد أن يصلي المندائيون صلاة الصبح في جميع أوقات الأيام الخمسة سواء في الصباح أو المساء. يتم أيضاً نصب راية الدرفش -وهي كلمة فارسية تعني العَلَم- وهو عبارة عن صليب يُصنع عادةً من أغصان القصب. وتوضع عليه قطعة قماش بيضاء مع أغصان صغيرة الحجم. ويعتقد المندائيون أن الدرفش كان راية النبي يحيى بن زكريا.

يرتدي المندائيون كذلك ملابس خاصة في تلك الأيام المقدسة. وهي ملابس بيضاء مصنوعة من القطن حصراً. ويتم لف وسط الجسد بما يعرف "الهميانا" وهو حزام مصنوع من الصوف بطريقة يدوية خاصة، بالإضافة إلى العمامة والسروال. وكل جزء من هذه الملابس، التي حافظ على ارتدائها المندائيون وتوارثوها، له رمزية وقدسية في الدين الصابئي المندائي.

من جهة أخرى، يشكل التعميد على ضفاف الأنهار ركناً رئيساً من أركان عيد الخليقة. يتواجد المندائيون حول ضفاف الأنهار الجارية والتي ترمز لانبثاق الحياة وهناك ترفع أدعية العيد. ومن الجدير بالذكر أن هناك بعض الفئات التي تُحظر من ممارسة التعميد في تلك الأيام المقدسة، ومنها المرأة الوالدة التي تمر بفترة النفاس، والمرأة الحائض، والعرسان الجدد في الأسبوع الأول من الزواج.

يُعدّ طقس تحضير اللوفاني -طعام الغفران- للترحم على أرواح الموتى من أشهر الطقوس التي يمارسها المندائيون في عيد البرونايا. ويتكون اللوفاني من الخبز والسمك المشوي واللحوم والتمر والماء والرمان والبصل، بالإضافة إلى الملح والمكسرات كاللوز والجوز، والخبز والخضار الطازج. وتذكر التقاليد المندائية أن من توافيه المنية في هذه الأيام الخمسة المباركة سوف يصعد إلى عالم النور دون المرور بالمطهرات -التي تعرف باسم المطراثي- على اعتبار أنها أيام طاهرة ونظيفة. كذلك، تشهد الأيام الخمسة ممارسة المندائيين لشعيرة الصوم الكبير. ويتم الامتناع عن الزواج والمعاشرة الجنسية وشرب الخمر ولعب القمار، وتجنب أي فعل غير لائق.

المزيد من المقالات

مواضيع ذات صلة:

المركز الاستراتيجي لحقوق الإنسان في العراق قدر أن المقابر الجماعية في البلاد تضم رفات 400 ألف شخص
المركز الاستراتيجي لحقوق الإنسان في العراق قدر أن المقابر الجماعية في البلاد تضم رفات 400 ألف شخص

يسابق الفريق الأممي المسؤول عن توثيق عمليات الإبادة الجماعية التي طالت الإيزيديين في العراق، الزمن من أجل استخراج رفات الضحايا من المقابر الجماعية التي لم تخضع للفحص حتى الآن، بعد قرار الحكومة العراقية القاضي بضرورة مغادرة الفريق منتصف الشهر الجاري.

منحت الحكومة العراقية فريق بعثة التحقيق التابع للأمم المتحدة لتعزيز المساءلة عن الجرائم المرتكبة من قبل داعش في العراق "يونيتاد" حتى الـ17 من سبتمبر لإنهاء التحقيق، وفقا لصحيفة "نيويورك تايمز".

وتضيف الصحيفة أن هذه القرار سيحد من تنظيم قضايا جنائية ضد عناصر داعش، على اعتبار أن هناك عشرات المقابر الجماعية التي لم يتم الانتهاء من فحصها وتحتوي على أدلة حاسمة ضد عناصر التنظيم المتورطين.

ويسعى العراق جاهدا لطي صفحة الفترة المروعة التي سيطر فيها تنظيم داعش على مساحات واسعة من أراضيه، حيث يتجه بسرعة نحو إغلاق المخيمات التي تأوي الإيزيديين النازحين وتنفيذ أحكام الإعدام بحق مرتكبي جرائم داعش وإنهاء مهمة "يونيتاد".

لكن بالنسبة لعائلات ما يقرب من 2700 إيزيدي مفقود، فإن هذا القرار مفجع، لإن أي عظم يكتشف يمكن أن يساعد في حل لغز مصير أحبائهم الذين اختفوا خلال سيطرة تنظيم داعش على أجزاء واسعة من العراق في عام 2014.

تقول شيرين خُديدة، وهي امرأة إيزيدية أُسرت هي وعائلتها على يد داعش في عام 2014: "أنتظر بقايا عائلتي، وأعتقد أنهم هناك".

كشف تحرير المناطق التي كانت تحت سيطرة داعش في عام 2017 عن فظائع لم تكن معروفة من قبل.

وبعد فترة وجيزة، وبطلب من الحكومة العراقية، انشأت الأمم المتحدة فريقا من المحققين لتوثيق وجمع الأدلة المتعلقة بتلك الجرائم حتى تتمكن المحاكم حول العالم من محاكمة المتورطين.

لكن، في سبتمبر 2023، أبلغت السلطات العراقية محققي الأمم المتحدة أن أمامهم عاما واحدا فقط لإنهاء المهمة.

وتعد حفرة "علو عنتر" قرب تلعفر شمالي العراق، حيث ألقى داعش مئات الجثث، واحدة من 68 مقبرة جماعية ساعد فريق "يونيتاد" في التنقيب عنها، وربما يكون الأخير،، بحسب الصحيفة.

اعتبارا من يوليو، حددت السلطات العراقية 93 مقبرة جماعية يعتقد أنها تحتوي على رفات ضحايا إيزيديين، لا تزال 32 منها لم تفتح بعد في منطقتي سنجار والبعاج.

ومن بين آلاف الإيزيديين الذين لم يتم العثور عليهم، تم استخراج رفات أقل من 700 شخص، ولكن تم تحديد هوية 243 جثة فقط وإعادتها إلى عائلاتهم.

يقول رئيس وحدة العلوم الجنائية في يونيتاد آلان روبنسون إن "العمل في علو عنتر صعبا ومعقدا، لكن النتائج التي توصلنا إليها كانت مهمة".

ويضيف روبنسون أن بعض الرفات تم دفنها في أكياس للجثث، وكانت الجثث داخلها مرتدية بدلات برتقالية شوهدت في مقاطع فيديو دعائية لداعش".

كذلك وجدت رفات أخرى وبجانبها فرش الأسنان وأدوية لعلاج ضغط الدم يعتقد أن الضحايا أخذوها معهم أثناء هروبهم.

وتشير الصحيفة إلى أن العديد من الضحايا كانت أيديهم مقيدة خلف ظهورهم، والبعض الآخر كان معصوب العينين، فيما أظهرت النتائج الأولية أن البعض تعرض لإطلاق نار، بينما يبدو أن آخرين ماتوا بعد دفعهم في الحفرة.

ويلفت روبنسون إلى أن الظروف البيئية المعقدة في العراق جعلت بعض الجثث تكون أشبه بالمحنطة بدلا من أن تتحلل مما تسبب بانبعاث روائح كريهة للغاية منها.

ويتابع روبنسون: "بعد مرور ما بين سبع وعشر سنوات على وفاتهم، الرائحة لا تزال قوية، لذا يمكنك أن تتخيل كيف كانت الرائحة بعد وقت قريب من حصول الوفاة".

وفقا للصحيفة فإن قرار الحكومة العراقية بإنهاء مهمة "يونيتاد" يعد جزءا مساعيها لتأكيد سيادتها الوطنية في وقت لا تزال فيه القوات الأميركية متمركزة في البلاد والعديد من السياسيين العراقيين متحالفين بشكل وثيق مع إيران، وهي خصم للولايات المتحدة.

وتنقل الصحيفة عن الباحثة العراقية في منظمة هيومن رايتس ووتش سارة صنبر القول إن إنهاء اعتماد العراق على مؤسسات الأمم المتحدة قد يكون جزءا من محاولات البلاد لتغيير صورتها.

في مايو، دعت بغداد إلى إنهاء بعثة الأمم المتحدة لمساعدة العراق، التي أُنشئت بعد الغزو الأميركي في عام 2003 للمساعدة في تطوير مؤسسات الحكومة وإجراء الانتخابات وحماية حقوق الإنسان. ومن المقرر أن تنتهي هذه المهمة بحلول ديسمبر 2025.

وتضيف صنبر أن "العراق يريد أن يصور نفسه كدولة ذات سيادة ما بعد الصراع"، وبعض الفصائل الداخلية ترى في وجود الأمم المتحدة "تدخلا دوليا غير مبرر في الشؤون العراقية."

وتشير صنبر إلى أن تحفظات الحكومة العراقية على عمل يونيتاد يتعلق بالأساس في أن المؤسسة الأممية رفضت تسليم الأدلة التي جمعتها إلى السلطات العراقية، رغم أنها كانت تشاركها مع دول أخرى تحاكم مقاتلي داعش.

وتفضل الأمم المتحدة، التي تعارض عقوبة الإعدام، أن يجري محاكمة عناصر داعش المتورطين دون احتمال فرض عقوبة الإعدام، لكن العراق قد حكم بالإعدام بالفعل على أعضاء داعش المدانين.

وفي رد على سؤال بشأن الخلاف المتعلق بمشاركة الأدلة وعقوبة الإعدام، قال مسؤولو يونيتاد في بيان أرسل للصحيفة إن المنظمة شاركت بعض الأدلة مع السلطات العراقية.

وأضاف مسؤولو يونيتاد أن السلطات العراقية أعربت عن استعدادها لمواصلة التنقيب عن المقابر الجماعية بعد مغادرة الفريق، رغم أنه لم يكن واضحا على الفور ما إذا كانت ستتمكن من توفير الموارد اللازمة للقيام بذلك.

وعزا محما خليل، وهو إيزيدي وعضو في البرلمان العراقي، قرار الحكومة بإنهاء تفويض يونيتاد إلى "التوتر في العلاقة بين العراق والأمم المتحدة وأيضا إلى وجود ضغوط خارجية" من دول أخرى على رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني.

رفض خليل الإفصاح عن الدول التي يعتقد أنها تمارس تلك الضغوط، لكن الحكومة العراقية لها علاقات سياسية وعسكرية مع إيران، وفقا للصحيفة.

وتعتبر قضية المقابر الجماعية في العراق من أبرز الملفات الشائكة التي عملت الحكومات العراقية على معالجتها بالتعاون مع الأمم المتحدة.

وقدر "المركز الاستراتيجي لحقوق الإنسان في العراق" أن المقابر الجماعية في البلاد تضم رفات 400 ألف شخص. ووفق منظمة هيومن رايتس ووتش، فإن لدى العراق واحدا من أكبر أعداد المفقودين في العالم، ويقدر عددهم بين 250 ألف ومليون شخص، يُعتقد أن الكثير منهم دُفن في مقابر جماعية.