كنيس يهودي مغلق في منطقة البتاوين وسط بغداد
كنيس يهودي مهجور في منطقة البتاوين وسط بغداد

في مثل هذه الأيام قبل 82 عاماً، وتحديداً في الأول من يونيو 1941، تعرّض يهود العراق لاعتداءات دموية، أدت إلى مقتل العشرات وجرح المئات وتدمير مئات المنازل التابعة لليهود في مدينة بغداد.

سمّيت تلك الأحداث بـ"الفرهود"، وكانت بداية لهجرة اليهود تباعا من العراق إلى إسرائيل.

تحكي خيرية قاسمية في كتابها "يهود البلاد العربية" تفاصيل ما حدث في ذلك اليوم الدموي،.وتصف "الفرهود" بأنها "أعمال عنف ونهب نشبت في بغداد واستهدفت سكان المدينة من اليهود في الأول من حزيران 1941 خلال احتفالهم بعيد الشفوعوت اليهودي، وعقب الفوضى التي تلت سقوط حكومة رشيد عالي الكيلاني خلال انقلاب عام 1941".

وتتابع قاسمية أن "التقديرات تفيد أنه راح ضحيتها نحو 175 قتيلاً و1000 جريح يهودي، وتم تدمير نحو 900 منزل تابع لليهود".

في مقال نشرته في صحيفة "نيويورك تايمز" في العام 2013، تقول الكاتبة العراقية اليهودية سينتينا كابلان شماش إن "معاداة السامية تصاعدت في القرن العشرين وبلغت ذروتها في مذبحة كبرى يسميها اليهود العراقيون مذبحة فرهود".

وتطلق شماش على الفرهود اسم "المذبحة المنسية للمحرقة"، في إشارة إلى المجازر التي تعرض لها اليهود في أوروبا، خلال الحرب العالمية الثانية، على يد النازية والتي وصلت تأثيراتها الأيديولوجية إلى العراق.

وتختلف أعداد ضحايا "الفرهود" من اليهود العراقيين بين المصادر المتوفرة عن الحادثة. ففي حين تذكر قاسمية في كتابها، كما أسلفنا، أن عدد القتلى يقارب 175 قتيلاً، تقول شماش في مقالها أن القتلى بلغوا 130 يهودياً. وتشير مصادر أخرى إلى أعداد أكبر من القتلى والجرحى.

قاسمية تقول إن الأحداث لم تنته عند هذا الحدّ. ففي سبتمبر من العام نفسه، أي بعد شهور قليلة، "ابتدأت حملة تفتيش واعتقال جديدة". وشرع رجال الشرطة بتعقّب أفراد منظمتيّ "الروّاد" و"الهاغاناه" اليهوديتين السريتين وجرى اعتقال الكثير منهم وتعذيبهم. و"عاشت الطائفة اليهودية في رعب"، بحسب قاسمية.

وتقول الكاتبة إن الأمر يعود إلى العام 1925، حيث "تزايدت في العراق منذ ذلك الحين، قوة الأفكار النازية، وهو ما ساهم بطبيعة الحال في إخماد النشاط الصهيوني والعبري في العراق".

وبعد حادثة "الفرهود"، تقول الكاتبة إن الصهيونية في العراق انتقلت إلى العمل السري، وعملت على "إحياء العلاقة مع يهود فلسطين، وتولي الشباب اليهودي مسؤولية هذه الأنشطة، وكان الشباب يتدربون على استخدام الأسلحة ويحرصون على دراسة اللغة العبرية استعداداً للهجرة إلى فلسطين".

وتضيف الباحثة إن "النشاط الذي كانت تقوم به هذه المنظمات ينطوي على قدر كبير من المخاطرة، إذ كان يتم إنزال عقوبة الإعدام بمن يمارسون النشاط الصهيوني في العراق".

وتؤكد قاسمية، في كتابها، الأثر  "العميق" للحادثة في نفوس يهود العراق، قائلة إنها "ساعدت على سرعة هجرتهم إلى إسرائيل". لكنها تتهم في المقابل الحركة الصهيونية "بمحاولتها- عبر خطة مدروسة تعمل على تهجير اليهود العرب- تشويه صورة أوضاع اليهود فيها، وذلك بغية وصول الحركة الصهيونية إلى أهدافها الديموغرافية".

لكن الكاتب والباحث حازم صاغية في كتابه "بعث العراق: سلطة صدّام قياماً وحطاماً"، ومع أنه لا ينفي "تورّط الحركة الصهيونية في محاولة حمل اليهود على مغادرة بلادهم، عبر سلسلة من التفجيرات في الأحياء اليهودية"، إلا أنه يؤكد أنه "رغم الفرهود، وبرغم كل التضييق والتهديد الذين عانوهما، بلغ إجمالي اليهود العراقيين الذين هاجروا إلى فلسطين، ما بين 1919 و1948، 7995 شخصاً فحسب".

ويعزو صاغية سبب حمل اليهود إلى الهجرة إلى عدة أحداث، "الفرهود" واحدة منها فقط. فمع حلول "النكبة" الفلسطينية في العام 1948، قُيّدت حركة اليهود العراقيين على ما يؤكد صاغية، "ومنعوا من بعض المناصب الرسمية، فيما شاع تحويل أبسط قضاياهم الشخصية إلى المحاكم العسكرية".

ويتابع الباحث اللبناني أنه في أواخر الأربعينات "ساد ربط عجيب بين وضع المواطنين (اليهود) في العراق وبين عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم. وكان نوري السعيد (رئيس الوزراء العراقي) صاحب الفكرة القائلة بتعويض الأخيرين من ممتلكات الأولين في العراق".

 ويتابع صاغية سرد الممارسات التي أدت إلى هجرة اليهود العراقيين بعد "الفرهود" وامتداداً إلى حكم البعث. يقول إنه "فيما كانت إسرائيل الناشئة لتوّها بحاجة إلى مهاجرين، صدر عام 1950 القانون الذي يسهّل على الصهيونية عملها". فقد أتاح هذا القانون لمواطني البلد هؤلاء "أن يتخلوا عن جنسيتهم شريطة أن يغادروا إلى الأبد".

ويضيف صاغية: "ابتدأت، هنا، عملية صودرت بموجبها أملاكهم وانخفض عددهم من 117 ألفاً، أو 2.6 في المئة من إجمالي السكان حينها، إلى أقلّ من خمسين مسناً اليوم (الكتاب صادر في العام 2003)".

هذا الأمر تؤكّد عليه شماش في مقالها لـ"نيويورك تايمز"، فتقول إنه "بعد أقل من عامين من إنشاء دولة إسرائيل في عام 1948، أعلنت الحكومة العراقية أن بإمكان يهود العراق الذهاب إلى أرض الميعاد - على أساس أنهم سيتخلون عن جنسيتهم العراقية ويتركون ممتلكاتهم وراءهم".

وتضيف: "الذهاب إلى إسرائيل يعني عدم العودة أبداً، العودة بختم إسرائيلي على وثيقة السفر الخاصة بك سيكون بمثابة حكم عليك بالإعدام بتهمة جاسوس".

وتشير شماش أنه، في غضون ثلاث سنوات من اقرار هذا القانون، "دفع حوالي 120 ألف يهودي ثمن حريتهم عن طيب خاطر، تاركين وراءهم بضعة آلاف فقط".

أما صاغية فيكمل قائلا: "تعرضت الآلاف القليلة التي بقيت بعد عام 1950 للمزيد من الصعوبات في حياتها اليومية. ومع وصول البعث إلى السلطة في 1963، مُنع على اليهود العراقيين من بيع أملاكهم، وأجبروا على حمل بطاقة هوية صفراء".

المزيد من المقالات

مواضيع ذات صلة:

المركز الاستراتيجي لحقوق الإنسان في العراق قدر أن المقابر الجماعية في البلاد تضم رفات 400 ألف شخص
المركز الاستراتيجي لحقوق الإنسان في العراق قدر أن المقابر الجماعية في البلاد تضم رفات 400 ألف شخص

يسابق الفريق الأممي المسؤول عن توثيق عمليات الإبادة الجماعية التي طالت الإيزيديين في العراق، الزمن من أجل استخراج رفات الضحايا من المقابر الجماعية التي لم تخضع للفحص حتى الآن، بعد قرار الحكومة العراقية القاضي بضرورة مغادرة الفريق منتصف الشهر الجاري.

منحت الحكومة العراقية فريق بعثة التحقيق التابع للأمم المتحدة لتعزيز المساءلة عن الجرائم المرتكبة من قبل داعش في العراق "يونيتاد" حتى الـ17 من سبتمبر لإنهاء التحقيق، وفقا لصحيفة "نيويورك تايمز".

وتضيف الصحيفة أن هذه القرار سيحد من تنظيم قضايا جنائية ضد عناصر داعش، على اعتبار أن هناك عشرات المقابر الجماعية التي لم يتم الانتهاء من فحصها وتحتوي على أدلة حاسمة ضد عناصر التنظيم المتورطين.

ويسعى العراق جاهدا لطي صفحة الفترة المروعة التي سيطر فيها تنظيم داعش على مساحات واسعة من أراضيه، حيث يتجه بسرعة نحو إغلاق المخيمات التي تأوي الإيزيديين النازحين وتنفيذ أحكام الإعدام بحق مرتكبي جرائم داعش وإنهاء مهمة "يونيتاد".

لكن بالنسبة لعائلات ما يقرب من 2700 إيزيدي مفقود، فإن هذا القرار مفجع، لإن أي عظم يكتشف يمكن أن يساعد في حل لغز مصير أحبائهم الذين اختفوا خلال سيطرة تنظيم داعش على أجزاء واسعة من العراق في عام 2014.

تقول شيرين خُديدة، وهي امرأة إيزيدية أُسرت هي وعائلتها على يد داعش في عام 2014: "أنتظر بقايا عائلتي، وأعتقد أنهم هناك".

كشف تحرير المناطق التي كانت تحت سيطرة داعش في عام 2017 عن فظائع لم تكن معروفة من قبل.

وبعد فترة وجيزة، وبطلب من الحكومة العراقية، انشأت الأمم المتحدة فريقا من المحققين لتوثيق وجمع الأدلة المتعلقة بتلك الجرائم حتى تتمكن المحاكم حول العالم من محاكمة المتورطين.

لكن، في سبتمبر 2023، أبلغت السلطات العراقية محققي الأمم المتحدة أن أمامهم عاما واحدا فقط لإنهاء المهمة.

وتعد حفرة "علو عنتر" قرب تلعفر شمالي العراق، حيث ألقى داعش مئات الجثث، واحدة من 68 مقبرة جماعية ساعد فريق "يونيتاد" في التنقيب عنها، وربما يكون الأخير،، بحسب الصحيفة.

اعتبارا من يوليو، حددت السلطات العراقية 93 مقبرة جماعية يعتقد أنها تحتوي على رفات ضحايا إيزيديين، لا تزال 32 منها لم تفتح بعد في منطقتي سنجار والبعاج.

ومن بين آلاف الإيزيديين الذين لم يتم العثور عليهم، تم استخراج رفات أقل من 700 شخص، ولكن تم تحديد هوية 243 جثة فقط وإعادتها إلى عائلاتهم.

يقول رئيس وحدة العلوم الجنائية في يونيتاد آلان روبنسون إن "العمل في علو عنتر صعبا ومعقدا، لكن النتائج التي توصلنا إليها كانت مهمة".

ويضيف روبنسون أن بعض الرفات تم دفنها في أكياس للجثث، وكانت الجثث داخلها مرتدية بدلات برتقالية شوهدت في مقاطع فيديو دعائية لداعش".

كذلك وجدت رفات أخرى وبجانبها فرش الأسنان وأدوية لعلاج ضغط الدم يعتقد أن الضحايا أخذوها معهم أثناء هروبهم.

وتشير الصحيفة إلى أن العديد من الضحايا كانت أيديهم مقيدة خلف ظهورهم، والبعض الآخر كان معصوب العينين، فيما أظهرت النتائج الأولية أن البعض تعرض لإطلاق نار، بينما يبدو أن آخرين ماتوا بعد دفعهم في الحفرة.

ويلفت روبنسون إلى أن الظروف البيئية المعقدة في العراق جعلت بعض الجثث تكون أشبه بالمحنطة بدلا من أن تتحلل مما تسبب بانبعاث روائح كريهة للغاية منها.

ويتابع روبنسون: "بعد مرور ما بين سبع وعشر سنوات على وفاتهم، الرائحة لا تزال قوية، لذا يمكنك أن تتخيل كيف كانت الرائحة بعد وقت قريب من حصول الوفاة".

وفقا للصحيفة فإن قرار الحكومة العراقية بإنهاء مهمة "يونيتاد" يعد جزءا مساعيها لتأكيد سيادتها الوطنية في وقت لا تزال فيه القوات الأميركية متمركزة في البلاد والعديد من السياسيين العراقيين متحالفين بشكل وثيق مع إيران، وهي خصم للولايات المتحدة.

وتنقل الصحيفة عن الباحثة العراقية في منظمة هيومن رايتس ووتش سارة صنبر القول إن إنهاء اعتماد العراق على مؤسسات الأمم المتحدة قد يكون جزءا من محاولات البلاد لتغيير صورتها.

في مايو، دعت بغداد إلى إنهاء بعثة الأمم المتحدة لمساعدة العراق، التي أُنشئت بعد الغزو الأميركي في عام 2003 للمساعدة في تطوير مؤسسات الحكومة وإجراء الانتخابات وحماية حقوق الإنسان. ومن المقرر أن تنتهي هذه المهمة بحلول ديسمبر 2025.

وتضيف صنبر أن "العراق يريد أن يصور نفسه كدولة ذات سيادة ما بعد الصراع"، وبعض الفصائل الداخلية ترى في وجود الأمم المتحدة "تدخلا دوليا غير مبرر في الشؤون العراقية."

وتشير صنبر إلى أن تحفظات الحكومة العراقية على عمل يونيتاد يتعلق بالأساس في أن المؤسسة الأممية رفضت تسليم الأدلة التي جمعتها إلى السلطات العراقية، رغم أنها كانت تشاركها مع دول أخرى تحاكم مقاتلي داعش.

وتفضل الأمم المتحدة، التي تعارض عقوبة الإعدام، أن يجري محاكمة عناصر داعش المتورطين دون احتمال فرض عقوبة الإعدام، لكن العراق قد حكم بالإعدام بالفعل على أعضاء داعش المدانين.

وفي رد على سؤال بشأن الخلاف المتعلق بمشاركة الأدلة وعقوبة الإعدام، قال مسؤولو يونيتاد في بيان أرسل للصحيفة إن المنظمة شاركت بعض الأدلة مع السلطات العراقية.

وأضاف مسؤولو يونيتاد أن السلطات العراقية أعربت عن استعدادها لمواصلة التنقيب عن المقابر الجماعية بعد مغادرة الفريق، رغم أنه لم يكن واضحا على الفور ما إذا كانت ستتمكن من توفير الموارد اللازمة للقيام بذلك.

وعزا محما خليل، وهو إيزيدي وعضو في البرلمان العراقي، قرار الحكومة بإنهاء تفويض يونيتاد إلى "التوتر في العلاقة بين العراق والأمم المتحدة وأيضا إلى وجود ضغوط خارجية" من دول أخرى على رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني.

رفض خليل الإفصاح عن الدول التي يعتقد أنها تمارس تلك الضغوط، لكن الحكومة العراقية لها علاقات سياسية وعسكرية مع إيران، وفقا للصحيفة.

وتعتبر قضية المقابر الجماعية في العراق من أبرز الملفات الشائكة التي عملت الحكومات العراقية على معالجتها بالتعاون مع الأمم المتحدة.

وقدر "المركز الاستراتيجي لحقوق الإنسان في العراق" أن المقابر الجماعية في البلاد تضم رفات 400 ألف شخص. ووفق منظمة هيومن رايتس ووتش، فإن لدى العراق واحدا من أكبر أعداد المفقودين في العالم، ويقدر عددهم بين 250 ألف ومليون شخص، يُعتقد أن الكثير منهم دُفن في مقابر جماعية.