Members of the Sabean Mandaeans, a pre-Christian sect that follows the teachings of John the Baptist, take part in a bathing…
صابئة مندائيون يمارسون طقوسهم الدينية في أربيل عاصمة اقليم كردستان- أرشيف

نجح المسلمون في السيطرة على مصر وسوريا وفارس والعراق في القرن السابع الهجري. وجد المنتصرون أنفسهم وجهاً لوجه مع طوائف وجماعات شتى، بينها اتباع الطائفة المندائية التي عاش أتباعها في العراق منذ عشرات القرون.

يؤمن المندائيون بأن ديانتهم هي أول الديانات التوحيدية على الإطلاق. ويؤمنون بآدم أبي البشر، الذي كان أول من اصطبغ/ تم تعميده على يد الملائكة في "عالم الأنوار". يعتقد المندائيون كذلك بمجموعة من الشخصيات المقدسة التي تحظى بمكانة رفيعة. ويُعدّ كل من آدم، وشيث، ونوح، وسام بن نوح، وإدريس/دنانوخت، أهم هذه الشخصيات. ويعتقد المندائيون بأن يحيى بن زكريا هو آخر الأنبياء. فيما يخص العقيدة، توجد خمسة أركان رئيسية في الديانة المندائية. وهي الإيمان بإله واحد خالق لكل شيء، والصلاة، والصباغة/التعميد، والصدقة، والصوم. في السنوات الأخيرة هاجر الآلاف من الصابئة المندائيين العراق بعد اجتياح تنظيم داعش لمناطق واسعة في البلاد في سنة 2014م. ويعيش من بقي منهم في العراق الآن في مدن بغداد، وميسان، والناصرية، والديوانية. نلقي الضوء في هذا المقال على بعض الشخصيات المندائية المعاصرة البارزة. والتي لعبت أدواراً مهمة في تاريخ العراق الحديث.

 

عبد الجبار عبد الله

ولد العالم العراقي المندائي عبد الجبار عبد الله في سنة 1911م في قلعة صالح بمحافظ ميسان. درس المرحلة الابتدائية بإحدى المدارس في قلعة صالح. ثم درس المرحلة الإعدادية في بغداد في سنة 1930م. بعدها حصل على منحة للدراسة الجامعية في الجامعة الأمريكية ببيروت بسبب درجاته المرتفعة في مادتي الفيزياء والرياضيات. وفي سنة 1934م حصل عبد الجبار عبد الله على شهادة البكالوريوس في العلوم من الجامعة الأمريكية في بيروت. سافر بعدها إلى الولايات المتحدة الأمريكية ليتابع دراساته العليا في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا في بوسطن. وحصل على شهادة الدكتوراه في الفيزياء.

يذكر الموقع الرسمي لجامعة بغداد أن العالم المندائي عمل مدرساً لمادة الفيزياء في دار المعلمين الابتدائية عقب رجوعه إلى العراق. وفي فترة الأربعينيات وبداية الخمسينيات من القرن العشرين، سافر عبد الجبار عبد الله لأكثر من مرة إلى الولايات المتحدة. وأجرى العديد من الأبحاث المهمة حول حركة الأمواج وتكون الاعاصير في كل من معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، وجامعة نيويورك. عقب رجوعه، عين رئيساً لقسم الفيزياء في دار المعلمين العالية في سنة 1958م. وبعد سنة واحدة، تم اختياره ليشغل منصب رئيس جامعة بغداد.

يذكر الباحث خالد ميران دفتر في كتابه "شخصيات مندائية في التاريخ المعاصر" أن الأحداث السياسية المتسارعة في العراق في تلك الفترة ألقت بظلالها على حياة عالم الفيزياء المندائي. تم إلقاء القبض عليه بعد وقوع انقلاب سنة 1963م. وزج به في المعتقل لمدة ثمانية أشهر بسبب الشك في حقيقة انتمائه السياسي. كما تمت إحالته للتقاعد. وتعرض للفصل من جميع الوظائف التي شغلها من قبل. أمام تلك الظروف العصيبة، اضطر عبد الجبار عبد الله للهجرة للولايات المتحدة الأمريكية، والتحق بالعمل في جامعة نيويورك حيث عُين أستاذاً في قسم علوم الأنواء الجوية. في يوليو سنة 1969م توفي عبد الجبار عبد الله عن عمر ناهز 58 سنة بعد صراع مع المرض. ودُفن في المقبرة المندائية في بغداد بحسب وصيته. فيما بعد، كتب الشاعر المندائي عبد الرزاق عبد الواحد في رثائه قصيدة شهيرة جاء في مطلعها

هذا أوانُكَ لا أواني... وَرِهانُ مَجدِكَ لا رِهاني

وَصَداكَ أنتَ الماليءُ الـدُنيا... فَما جَدوى بَياني؟

مَرماكَ أوسَعُ مِن يَدي... وَثَراكَ أبلَغُ مِن لِساني

وَسناكَ أبعَدُ في المروءَةِ... أن أراهُ، وأن يَراني

وحضورُكَ الباقي، وكُلُّ... حضورِ مَن وَلَدوكَ فاني!

يا مَن لَهُ كلُّ المَكان... وليسَ يَملِكُ مِن مَكانِ!

 

عبد الرزاق عبد الواحد

ولد الشاعر العراقي المندائي عبد الرزاق عبد الواحد في بغداد في سنة 1930م. في طفولته، رحل مع أسرته إلى محافظة ميسان جنوبي العراق. وعاش فيها الفترة المبكرة من حياته وصباه.

درس عبد الرزاق في دار المعلمين العالية في بغداد. وزامل العديد من الشعراء العراقيين المعروفين ومنهم بدر شاكر السياب وعبد الوهاب البياتي ولميعة عباس عمارة. تخرج من الدار في سنة 1952م. وعمل بعدها مدرساً للغة العربية في المدارس الثانوية، وفي معهد الفنون الجميلة في بغداد. اشتغل عبد الرزاق كذلك بالعمل الصحفي. فترأس تحرير مجلة الأقلام. وتولى منصب مدير عام المكتبة الوطنية العراقية.

نشر عبد الرزاق العديد من الدواوين والمسرحيات الشعرية. ومنها "لعنة الشيطان"، "أوراق على رصيف الذاكرة"، "الخيمة الثانية"، "في لهيب القادسية". ولُقب بالعديد من الألقاب التي عبرت عن مكانته السامية بين شعراء العراق. ومنها "شاعر أم المعارك"، و"شاعر القادسية"، و"شاعر القرنين"، و"المتنبي الأخير". واشتهر بقصائده الحماسية التي نظمها في فترة حرب الخليج الأولى التي اندلعت بين العراق وإيران في ثمانينيات القرن العشرين. من جهة أخرى، أسهم عبد الرزاق -بشكل كبير- في تعريف المجتمع العراقي بالطائفة المندائية وذلك عندما قام بتعريب كتاب "الكنز ربا" -وهو الكتاب المقدس عند المندائيين- إلى اللغة العربية في سنة 2000م.

من الجدير بالذكر أن اعتناق عبد الرزاق عبد الواحد للديانة المندائية لم يمنعه من مشاركة العراقيين الشيعة الاحتفاء بالذكرى الأليمة لمقتل الإمام الحسين في كربلاء. ألف الشاعر المندائي بعض القصائد في هذا الموضوع. ومنها معلقته الشهيرة التي جاء فيها

قدمت وعفوك عن مقدمي... أسيراً كسيراً حسيراً ضمي

قدمت لأحرم في رحبتيك... سلاماً لمثواك من محرم

فمذ كنت طفلاً رأيت الحسين... مناراً إلى ضوئه أنتمي

ومذ كنت طفلاً وجدت الحسين... ملاذاً بأسواره أحتمي

سلام عليك فأنت السلام... وإن كنت مختضباً بالدم

توفي عبد الرزاق عبد الواحد في باريس في نوفمبر من العام 2015م عن عمر ناهز 85 عاماً. ونعاه العديد من الساسة والمثقفين العراقيين.

 

زهرون الملا خضر

هو زهرون الملا خضر بن بدران بن قاجار آل زهرون. فنان ورسام ونحات وصائغ فضة عراقي مندائي. ولد وعاش في مدينة العمارة في جنوبي العراق. ذاع صيته في العراق ودول الخليج وتركيا وإيران. واشتهر بلقب سلطان الصاغة. ورث زهرون مهنة الصياغة عن أسرته التي عُرفت بعملها الطويل في صناعة المشغولات الفضية. وأجاد في تلك المهنة حتى "وصل إلى درجة عالية في فن الصياغة والنقش، والتطعيم بالمينا السوداء"، وذلك بحسب ما يذكر خالد ميران دفتر في كتابه.

صنع زهرون العديد من المشغولات الفضية للرؤساء والحكام والملوك المعروفين في عصره. على سبيل المثال صاغ "أركيلة"(نرجيلة) من الفضة للسلطان العثماني عبد الحميد الثاني. كما صاغ تحفاً عدة لملوك الأسرة العلوية في مصر، وكذلك أهدى مجموعة من الهدايا القيمة للملك جورج الخامس ملك بريطانيا. من جهة أخرى، أجاد زهرون التحدث بالعربية والانكليزية والتركية والفارسية بالإضافة إلى اللغة المندائية. وكان ممثلاً للطائفة المندائية في مدينة العمارة. وعُرف بسعيه المستمر لحل جميع المشكلات التي يواجهها المندائيون مع السلطة الحكومية. وتوفي في سنة 1929م.

 

لميعة عباس عمارة

ولدت لميعة عباس عمارة في بغداد في سنة 1929م. عُرفت بنبوغها المبكر في تأليف الشعر. وقيل إنها كتبت أولى قصائدها في سن الخامسة عشر. وإن تلك القصيدة نالت استحسان الشاعر اللبناني الشهير إيليا أبو ماضي.

في خمسينيات القرن العشرين، زاملت لميعة بعض شعراء الحداثة الشعرية العراقية في دار المعلمين العالية في بغداد، ومنهم على سبيل المثال بدر شاكر السياب وعبد الوهاب البياتي وعبد الرزاق عبد الواحد. وشاركت بعدها في العديد من الهيئات الأدبية العراقية. فكانت عضوة الهيئة الإدارية لاتحاد الأدباء العراقيين في بغداد. كما شغلت عضوية الهيئة الإدارية للمجمع السرياني في بغداد.

نشرت لميعة العديد من الدواوين الشعرية. ومنها "الزاوية الخالية" في سنة 1960م، "عودة الربيع" في سنة 1963م، "أغاني عشتار" في سنة 1969م، "يسمونه الحب" في سنة 1972م، "لو أنبأني العراف" في سنة 1980م، "البعد الأخير" في سنة 1988م، "عراقية" في سنة 1990م.

هاجرت عمارة من العراق في سنة 1978م وتنقلت بين عدد من الدول. واستقرت في نهاية المطاف في الولايات المتحدة الأمريكية، وفي تلك ال نجاحها وشهرتها حظوظافترة الأخيرة من حياتها عكفت لميعة على دراسة جذور الصابئة المندائية ولغتهم، وأصدرت مجلة "المندائي". وعلى الرغم من تشبّثها بجذورها المندائية، إلا أن المؤثرات الشيعية تسللت إلى نفسها منذ الطفولة، عبر مجالس العزاء العاشورائية. وتقول في هذا السياق: "كنت أذهب من مجلس إلى آخر، وكنت أكثر الناس بكاء، تعلمت على هذا الوزن وهذه اللمسة الإنسانية، إن الرثاء الحسيني يعلّم رقّة القلب".

في يونيو سنة 2021م توفيت لميعة عباس عن عمر ناهز 92 عاماً. نعاها الرئيس العراقي السابق برهم صالح بقوله: "...نودّع الشاعرة الكبيرة لميعة عباس عمارة، في منفاها، ونودّع معها أكثر من خمسة عقود من صناعة الجمال، فالراحلة زرعت ذاكرتنا قصائد وإبداع أدبي ومواقف وطنية، حيث شكّلت عمارة علامة فارقة في الثقافة العراقية". كما نعاها رئيس الوزراء العراقي الأسبق مصطفى الكاظمي قائلاً: "...بهذا الرحيل المؤلم، تكون نخلة عراقية باسقة قد غادرت دنيانا لكنها تركت ظلالاً وارفة من بديع الشعر، وإسهاما لا ينسى في الثقافة العراقية ستذكره الأجيال المتعاقبة بفخر واعتزاز وتبجيل".

عشقها السياب ونشر قصائدها أبو ماضي.. من تكون الشاعرة العراقية لميعة عباس؟
بحُكم زمالتهما الدراسية، ربطت لميعة علاقة صداقة ببدر شاكر السياب، وكثيراً ما كان كل واحدٍ يقرأ قصيدة الآخر. لاحقاً تطوّرت علاقتهما إلى علاقة حب، فكتب فيها السياب قصيدة "أحبيني لأن جميع مَن أحببت قبلك ما أحبوني".

عزيز سباهي

هو المفكر العراقي المندائي عزيز سباهي خلف. ولد سباهي في سنة 1925م في قلعة صالح في محافظة ميسان. تلقى تعليمه الابتدائي في قلعة صالح. ثم رحل مع أبيه للرمادي ليتلقى تعليمه المتوسط. أكمل دراسته بعدها في دار المعلمين في الأعظمية. في سنة 1943م، تخرج عزيز سباهي من دار المعلمين. وعُين كمعلم في إحدى المدارس في منطقة العمارة. في تلك المرحلة، تعرف سباهي على أفكار الشيوعية وتأثر بها. وتم اعتقاله أكثر من مرة أثناء فترة القمع التي تعرض لها الحزب الشيوعي العراقي. وسجن في سجون الكوت، وبعقوبة. واضطر في نهاية المطاف للهجرة من العراق في سنة 1978م.

شغل سباهي العديد من الوظائف المهمة في الحزب الشيوعي العراقي. ومنها عضويته لهيئة ومجلس تحرير مجلة "الثقافة الجديدة". وعضوية اللجنة الاقتصادية المركزية للحزب الشيوعي العراقي. ألف سباهي العديد من الكتب التي عبرت عن الأفكار الشيوعية ومنها "عقود من تاريخ الحزب الشيوعي العراقي"، و"الحزب الشيوعي والمسألة الزراعية"، و"تأريخ الحركة العمالية في العراق". كما أنه قام بترجمة بعض الكتب الشيوعية المهمة إلى اللغة العربية. مثل "الكومنترن والشرق الإستراتيجية والتاكتيكات"، و"في الفلسفة الماركسية"، و"سيرة حياة لينين". من جهة أخرى، كتب عزيز سباهي بعض الكتب التي أرخت لوجود الطائفة المندائية في العراق. ويُعدّ كتاب "أصول الصابئة المندائيين ومعتقداتهم الدينية" واحداً من أشهر الكتب التي ألفها المفكر المندائي في هذا المضمار.

توفى سباهي في كندا في يناير سنة 2016م. ونعاه رئيس الجمهورية الأسبق فؤاد معصوم في رسالة جاء فيها "تلقينا بأسىً عميق نبأ رحيل الشخصية الوطنية والباحث والمؤرخ المرموق الأستاذ عزيز سباهي. واذ ننظر باعتزاز الى مسيرته المديدة في العمل السياسي والفكري، وإلى انجازاته القيمة متجسدة في مؤلفاته التي أرخت لفترة هامة من تاريخ العراق المعاصر، وترجماته للعديد من الكتب والدراسات، فإننا نتقدم بأحر مشاعر العزاء إلى العائلة الكريمة وكل محبي الراحل وعارفي مكانته...".

إبراهيم البدري

هو المخرج العراقي المندائي إبراهيم فرحان عنيسي البدري. ولد في حي سوق الشيوخ بالناصرية في سنة 1945م. درس المرحلة الابتدائية والمرحلة المتوسطة في مدارس سوق الشيوخ. وبعدها سافر إلى بغداد ليتابع دراسته.  في سنة 1968م ألتحق بأكاديمية الفنون الجميلة. وتخرج من قسم الفنون المسرحية بعد أربع سنوات من الدراسة.

خطا البدري أولى الخطوات في مسيرته الوظيفية في سنة 1972م عندما عُين في وظيفة مخرج في تلفزيون بغداد. وكان أول عمل مسرحي له هو إخراجِه لمسرحية بعنوان "أشجار الطاعون" للكاتب العراقي نور الدين فارس. عمل البدري مع العديد من المخرجين المصريين المعروفين بينهم إبراهيم الصحن وكرم مطاوع. وأخرج الكثير من المسلسلات التلفزيونية التي تفاوتت نسبة نجاحها وشهرتها. ومنها برنامج "سيرة وذكريات" والذي تناول العشرات من الشخصيات العراقية البارزة. وبرنامج "العلم للجميع". وبرنامج "أحاديث في الأدب العربي". في السياق التثقيفي نفسه، أخرج البدري العديد من الأفلام الوثائقية عن حضارة العراق القديم، وعن الفلكلور العراقي. كما أخرج بعض البرامج الخاصة بتعليم اللغة المندائية. كُرم البدري في العديد من المحافل الفنية. وفي سنة 1974م حصل على جائزة "بطل إنتاج" من المؤسسة العامة للإذاعة والتلفزيون.

المزيد من المقالات

مواضيع ذات صلة:

المدير التنفيذي للتحالف الياباني لتشريعات المثلية الجنسية

مطلع ثمانينيات القرن الماضي، أعلن عن وفاة أول مريض بسبب مرض الإيدز. منذ ذلك الحين وربما حتى اليوم اعتاد معارضو المثلية الجنسية التأكيد على أنها سبباً رئيسياً في الإصابة بهذا المرض القاتل.

اعتبر البعض ولأسباب دينية، أن الإيدز "عقاب إلهي" بحق كل مَن يمارس المثلية الجنسية. هذا السلوك وصفه الطبيب جون أندريه في مقالٍ له بأنه "ليس خداعاً فكرياً فقط، ولكنه أمر خاطئ من الناحية الأخلاقية أيضاً".

الحقيقة أن الإصابة بالفيروس لا تقتصر على المثليين فقط، ولا ترتبط الإصابة بها بعُمر أو عرق أو دين بعين، وإنما يُمكن أن يُصاب به أي فردٍ آخر إذ مارَس علاقة جنسبة بشكلٍ غير منضبط ومع شخصٍ مُصاب بالمرض دون اتخاذ تدابير وقائية كافية.

وبحسب ما وثّقه الكاتب المثلي مايكل برودر في مقالته "فجر الإيدز"، فإنه في 2021 بلغ عدد المصابين بالفيروس حول العالم منذ لحظة اكتشافه، 76 مليون فرداً، تُوفي منهم 33 مليوناً.

 

المرض المِثلي

 

في أبريل عام 1980 استقبل مستشفى في سان فرانسيسكو المواطن الأميريكي مثلي الجنس كين هورن. تبيّن أنه أصيب بمرضٍ من النوع النادر لم يحتمله جسده أكثر من عامٍ واحد حتى توفّي على إثره. لاحقاً سيتبيّن أنه أول مواطن أميريكي شُخص كمريضٍ بالإيدز.

في 1981 ظهر الحديث الإعلامي عن مرض الإيدز للمرة الأولى مرتبطاً بمجتمع المثليين، بعدما كتب الطبيب الأميركي لورانس ماس مقالاً عن تزايد عدد الرجال المثليين الذين أدخلوا في وحدات العناية المركزة داخل مدينة نيويورك بسبب معاناتهم من ضعف شديد في المناعة، وكانت هذه المرة الأولى التي تتطرّق فيها وسيلة إعلامية أميركية للحديث عن الإيدز الذي لم يكن يعرفه أحد حينها.

ذكر تقرير طبي معني  برصد معدل الأمراض بين المثليين، أن الفترة بين  أكتوبر 1980 وحتى مايو 1981 لجأ 5 شباب مثليين إلى مستشفيات مختلفة في لوس أنجلوس وكاليفورنيا للعلاج من الالتهاب الرئوي.

اثنان من الخمسة توفيا، وتعدّدت إشارات الصحافة الأميركية إلى شائعات حول "مرض جديد غريب يصيب المثليين" وهو ما نفاه حينها ستيفين فيليبس عالم الأوبئة الأميركي الذي اعترف لصحيفة "New York Native " بصحة تزايد عدد الحالات التي ترد مستشفيات نيويورك التي تعاني من التهاب رئوي (أحد الأعراض الأساسية للإصابة بالإيدز) إلا أنه اعتبر وجود "مرض جديد أمر لا أساس له من الصحة".

لم يمنع هذا النفي من استمرار تدفق المرضى المصابين على مستشفيات الولايات المتحدة، وتطرقت صحيفة "نيويورك تايمز" إلى إصابة 41 مثلياً بنوعٍ نادر من السرطانات الذي منحته اسم "سرطان المثليين" وأشار إلى أن "الإيدز لا يُصيب إلا المثليين".

في عام 1982 منح مركز السيطرة على الأمراض هذا المرض اسمه للمرة الأولى وهو "الإيدز".  ومنذ عام 1983 بدأ المركز في الإعلان عن أن الإيدز لا يصيب المثليين لمجرد ممارسة الجنس مع أشخاص من نفس الجنس، ولكنه يحقّق انتشاراً واسعاً بين المثليين الذين لديهم شركاء متعددون.

كذلك رصد المركز إصابة فئات أخرى من غير المثليين بالمرض، مثل الأشخاص الذين يتعاطون المخدرات عن طريق الحقن، وأيضاً أفراد مصابون بالهيموفيليا تلقوا دماً من آخرين، خلال 3 سنوات بلغ عدد ضحايا المرض من الأميركيين 12 ألف شخصاً.

لم يحظَ الإعلان بالانتشار المطلوب واستمرّ الإيدز مرتبطاً بالمثليين في العقلية الجماعية للأميركيين، وهو ما تُرجم على هيئة إجراءات عقابية بحقهم، مثل إغلاق حمامات المثليين العامة في سان فرانسيسكو ونيويورك، ومُنع المراهق رايان وايت من التعليم في مدرسته الإعدادية بحجة إصابته بالمرض.

وُصف الإيدز في وسائل الإعلام بأنه "مرض مِثلي الجنس" حتى أن دور العزاء والمقابر كانت ترفض استقبال رفات الأشخاص الذين توفوا به.

في عام 1987 ظفر أشقاء 3 مصابين بالفيروس بحكمٍ قضائي ضد مدرسة في فلوريدا بسبب رفضها ضمهم إلى صفوفها. انتصر لهم القضاء، لكنهم تلقوا تهديدات بالقتل لو أصروا على تنفيذ الحُكم ودخلوا المدرسة، بعدها حُرق منزلهم بالكامل فاضطر الإخوة الثلاثة للرحيل إلى مكانٍ آخر.

وفي عام 1991، أعلن لاعب السلة الأميركي إيفرين جونسون إصابته بالإيدز بسبب ممارسته علاقات مع عدة نساء دون وقاية، وهو ما صنع نوعاً من الصدمة بين الأميركيين، لأن جونسون كان "غيري الجنس"، بسبب شهرته ومتابعة الملايين له تجلّت حقيقة أن "الغيريين" يُمكنهم الإصابة بالمرض أيضاً.

 

لماذا تتزايد إصابة المثليين بالإيدز؟

 

بحسب الدراسات العلمية المؤكدة، فإن الإصابة بالفيروس لا ترتبط بالانتماء إلى عرقٍ معين أو سلوك جنسي مُحدد، رغم ذلك فإنه أكثر انتشاراً بين الرجال المثليين وبين الأفارقة.

في عام 2019 كان أكثر من 65% من المصابين الجُدد بالمرض من الرجال المثليين، وفي العام التالي مباشرة زادت النسبة إلى 68%، وفي عام 2021 شكّل السود 30% من هذه الحالات أما المنحدرون من أصل لاتيني فبلغوا 25%.

سبب ذلك هو شيوع إقدام هذه الفئات على "ممارسات خطرة" تساهم في انتشار الفيرس بينهم بشدة مثل ممارسة الجنس بدون عوازل وقائية مع شركاء متعددين، وأيضاً تبادل الأدوات الطبية على نطاقٍ واسع.

كذلك ثبت أن ممارسة الجنس الشرجي تزيد من خطورة الإصابة بالمرض 18 مرة عن الجنس المهبلي، كما أنهم عادةً ما يتبادلون الأدوار خلال العملية الجنسية، الأمر الذي يضاعف من احتماليات إصابة الشركاء جميعاً بالمرض.

بعض الآراء الطبية قدّرت أن الفيروس انتشر بين الأميركيين السود في أوقاتٍ أقدم من تاريخ اكتشافه بكثير، لكن العزلة الكبيرة التي عاشتها هذه المجتمعات وموجة العنصرية التي عانت منها أميركا لعقود، أضعفت من القُدرة على اكتشافه ومن تقديم الرعاية الصحية المتمثلة في التشخيص المبكر للأعراض وعلاجها، وحين بدأ الاهتمام برصد الفيروس ومكافحته، كانت نسبة انتشاره قد بلغت معدلاً عالياً.

هذه المجتمعات عانت طويلاً من العيش في ظل معدلات عالية من البطالة والجهل والفقر وتعاطي المخدرات، وكلها عوامل أكدت الدراسات أنها تلعب دوراً كبيراً في زيادة نسبة الإصابة بالإيدز، وهو ما علّق عليه الكاتب الصحفي تيم سيمونز قائلاً  إن "الإيدز ظهر بين المجتمعات التي فضّل العالم الأبيض عدم رؤيتها".

رفض العلاج هرباً من نظرة المجتمع

 

في عام 1993 قام الممثل الأميركي توم هانكس ببطولة فيلم "فيلادلفيا" الذي استعرض قصة حياة رجل مِثلي الجنس أصيب بالإيدز، ويرفع دعوى قضائية بسبب التمييز العنصري الذي تعرّض له منذ لحظة اكتشافه المرض.

وخلال رحلة العلاج ليكون أحد أول الأفلام التي ناقشت المعتقدات الخاطئة التي تربط بين المثلية والإيدز، حقق العمل نجاحاً كبيراً وحصد هانكس أوسكار أفضل ممثل.

وصم المثليين بعار التسبب في نشر مرض الإيدز، تسبّب أحياناً في تردّد المرضى في إجراء اختبار الإصابة بالفيروس بحسب دراسة أجريت في 2022، وأكدت أن خوف جماعات المثليين من احتقار المجتمع المحيط بهم، يدفعهم في بعض الأحيان إلى رفض الخضوع إلى اختبار فحص، بسبب ما توقعوا أن يواجهونه من ازدراء لمجرد القيام بعملية الفحص، حتى من فريق الأطباء القائم على الأمر.

وهو ما تجلّى في دولة أوغندا هذا العام، فبعدما اتخذت حكومتها قراراً بتجريم المثلية الجنسية وعقاب مرتكبيها بالسجن 20 عاماً، انقطع مرضى الإيدز عن العلاج في المستشفى المخصصة لهم بذلك، خوفاً من أن يوصموا بالمثلية الجنسية ومن ثم يقبض عليهم ويسجنون.

وبحسب دراسة أجريت في بداية هذا العام، فإن إصابة المثليين بالإيدز في البلاد التي تكافح المثلية أكبر 12 مرة منها في الدول التي تسمح للمثليين بالزواج، ففي ظل التضييقات القانونية على المثليين، يستحيل إقامة جمعيات توعية صحية لهم، ويصعب تلقيهم خدمة طبية منتظمة ومعلنة، الأمر الذي يدفعهم في بعض الأحيان إلى رفض إعلان المصابين عن مرضهم وتفضليهم عدم العلاج حتى الموت، هرباً من ازدراء المجتمع لهم حتى لو لم يكونوا مثليين بالأساس.

لهذا فإنه عادةً ما تؤدي قوانين "قمع المثلية" إلى زيادة معدل انتشار الفيروس وليس العكس.