من داخل إحدى كنائس العاصمة العراقية بغداد- تعبيرية
من داخل إحدى كنائس العاصمة العراقية بغداد- تعبيرية

مرت شهور عديدة ولا تزال المهاجرة العراقية المسيحية ساهرة متى، تحاول استعادة ملكية بيتها الذي تركته عندما هاجرت إلى الولايات المتحدة الأميركية قبل سنوات.

وكانت ساهرة (اسم مستعار) عادت إلى العراق لبيع البيت، لتفاجأ باختفائه وتحوّل المكان الذي كان فيه، إلى مبنى تجاري ضخم وسط العاصمة بغداد، إذ تم بيعه في غيابها بعقد بيع مزوّر.

تبين لـ "ارفع صوتك": "سافرت خلال فترة الحرب الطائفية من منطقتي للحفاظ على حياتي وحياة أبنائي، وعدت بعد استقراري في المهجر إلى العراق بهدف بيع المنزل والاستفادة من الأموال بعد الارتفاع الكبير بأسعار العقارات".

وتضيف ساهرة: "فوجئت بتغيّر المنطقة وتحولها إلى شارع تجاري مزدهر بالبنايات، ولم أتمكن من التعرف على تفاصيل المنطقة ولم أعثر على المنزل. وبعد البحث وجدت أن هناك من قام ببيع المنزل عبر تزوير هويتي الشخصية بجواز بريطاني، وتحويله إلى مبنى تجاري ضخم".

"قدمي لم تطأ أرض بريطانيا على الإطلاق منذ تركت العراق، فقد هاجرت إلى الولايات المتحدة وأسكن منذ ذلك الوقت في مدينة سان دييغو (ولاية كاليفورنيا) ولا أعرف كيف تمت العملية"، تتابع ساهرة.

وقضيتها واحدة من القضايا المعروضة أمام القضاء العراقي اليوم بانتظار البت بشأنها. وهناك عشرات القضايا لمسيحيين تم الاستيلاء على عقاراتهم بعد تركهم العراق.

بداية الحكاية

بدأ التلاعب بأملاك المسيحيين والاستيلاء عليها كما يقول سكرتير عام الحركة الديمقراطية الآشورية، يونادم كنا "منذ تسعينيات القرن الماضي حين هاجر الكثير منهم بسبب الظرف الاقتصادي في العراق".

وتزايد استهداف أملاكهم بعد سقوط النظام البعثي عام 2003، وحين ألقت الحرب الطائفية بظلالها على بغداد لتقود إلى نزوحهم إلى إقليم كردستان أو إلى خارج البلد، بحسب كنا.

ويوضح لـ"ارفع صوتك"، أن الاستحواذ على أملاك المسيحيين اتخذ أشكالا عديدة منها "ما يتعلق بالتهديد لبيع العقارات بأثمان بخسة، أو التزوير وبيع العقارات بوكالات وهمية لمن هاجر منهم داخل وخارج العراق، أو الاستحواذ على الأملاك عبر السكن فيها ورفض إخلائها".

ويؤكد كنا أن أكثر الحالات تمت "بشكل خاص بين (2004-2011)، وكانت الأقليات بشكل عام مستهدفة. وشمل ذلك مناطق في سهل نينوى عندما كان لتنظيم القاعدة سطوة في تلك الأماكن، خصوصاً الموصل التي شهدت تهجيراً للشيعة وللأقليات وكل من لم يبايعهم أو لم يحمل فكرهم".

يضيف: "ومن تم تهجيرهم أو هربوا إلى مناطق خارج سطوة تنظيم القاعدة، قاموا بالاستقرار في أماكن أخرى وأحيانا في مناطق زراعية، وتسبب ذلك بمشاكل لاحقا".

أما من تم الاستحواذ على عقاراتهم  عام 2014 أي بعد سيطرة تنظيم داعش على مناطق واسعة من سهل نينوى، التي يتركز فيها مسيحيو العراق "فكانت مشكلتهم أسهل، لأن الحكومة العراقية اعتبرت كل عمليات البيع باطلة بلا استثناء"، كما يقول كنا، مستدركاً "مع ذلك، كانت هناك خسائر كبيرة في البنى التحتية وسرقة للمشاريع وحرق أو تهديم للمساكن".

يتابع: "بعد التحرير (من داعش) جاءت جماعات متنفذة مسلحة بدأت بتغيير صنوف العقارات وملكيتها. لكن، لا أحد يمتلك معلومات حقيقية بتفاصيل ما حدث للفترة التالية أي ما بعد داعش، وهناك امتعاض في تلك المناطق ولا نمتلك سوى شكاوى لم يتم التحري عنها بعد".

مسيحون العراق فرنس برس
تحقيق: عقارات المسيحيين في العراق.. استيلاء منظم بالتزوير وقوة السلاح
هاجرت بيرونيا، وهي عراقية مسيحية، العراق في سبعينيات القرن الماضي، وتركت منزلها في العاصمة بغداد مستأجرا. عندما عادت في عام 2019، اكتشفت أن المنزل بيع في 2012 بتزوير توقيعها وتوقيع إخوتها العشرة، علما أن أحدهم توفي.

أملاك المهاجرين

أغلب حالات التلاعب بملكية العقارات حصلت "في أملاك المسيحيين الذي هاجروا من بغداد إلى إقليم كردستان، أو ممن تركوا العراق إلى دول أخرى، وعددهم كبير جدا"، يقول يونادم كنا.

ويشير إلى حالات عديدة "تم فيها التمليك بقرار حكمي من المحكمة"، مؤكداً: "تمكنا خلال السنوات السابقة عبر التعاون مع مجلس القضاء الأعلى من إيقاف تلك الحالات".

والتمليك الحكمي يتعلق برفع دعوى قضائية ضد صاحب العقار بدعوى استدانة مبلغ من المال دون تسديده، والمطالبة بتمليك العقار كبدل عن الأموال غير المسددة. ومع عدم حضور المشتكى عليه يتم تمليك المشتكي للدار في النهاية.

هذه الحالات، بحسب كنا، "تراجعت بنسبة كبيرة جداً بعد عام 2011 إثر التعاون مع مكتب رئيس الوزراء آنذاك، وتم إخلاء مئات الدور التي تم التجاوز عليها".

ويوضح: "في ذلك الوقت لم يكن التجاوز يحصل على الأملاك لأسباب دينية فقط، بل على مستوى طائفي أيضا، فقد أجابت عمليات بغداد على إحدى مخاطباتنا الرسمية بأن هناك 36 ألف عقار تم التجاوز عليها بين الطائفتين المسلمتين (السنية والشيعية)".

وكان مجلس القضاء الأعلى أعلن عام 2021 عن إلقاء القبض على عصابة تخصصت ببيع أملاك المسيحيين في منطقة الكرادة وسط بغداد، عبر ترتيب لقاء مع أصحاب تلك العقارات ‏المقيمين خارج البلد، بعد أن يتم التواصل مع تلك العوائل وتنظيم عقد بيع أولى دون دفع الأموال ثم يتم تزوير المعاملة والاستيلاء على العقارات دون علم صاحبها.

في حينه، حُكم على أفراد العصابة بالسجن سبع سنوات ومنع أي عملية بيع لأملاك المسيحيين ‏في منطقة الكرادة.

 

تورط موظفي الدولة

يتفق النائب السابق في البرلمان العراقي، عمانويل خوشابا،  مع ما ذهب إليه يونادم كنا، من حيث التسلسل التاريخي لحالات الاستحواذ على عقارات المسيحيين في العراق.

ويؤكد لـ "ارفع صوتك"، أن كثيرا من تلك الحالات "تمت بسبب التواطؤ والفساد الإداري في مؤسسات الدولة المختلفة، عبر الشراكة مع عصابات منظمة أو مسلحين للبحث عن عقارات المسيحيين عن طريق اسم المالك ثم الاستيلاء عليها بالتهديد وشرائها بأثمان بخسة، أو عبر التزوير ونقل الملكية".

الدليل على ذلك، بحسب خوشابا "عمليات إغلاق المكاتب العقارية لبعض المناطق التي كانت تتضمن نسبة عالية من وجود المسيحيين في بغداد مثل الكرادة، وفي مدينة الموصل بمحافظة نينوى".

يضيف: "عمل هؤلاء الموظفون على جرد تلك العقارات وإبلاغ الخارجين عن القانون أو العصابات بمواقعها، التي تقوم بدورها بتهديد أصحابها وشرائها بثمن بخس أو الاستيلاء عليها بالقوة".

ويعتبر خوشابا أن كل ما يقال حالياً عن استعادة العقارات "محاولات فردية نجحت بمعرفة بعض الحالات عبر شكوى المواطن نفسه، وليست تحركا رسمياً واسعاً".

ويشير إلى أن "الكثير من أصحاب تلك العقارات لم يقم بتقديم شكوى، ورضي بالأمر الواقع وباع بأسعار بخسة تجنباً للمشاكل".

ولا يخفي المتحدث باسم وزارة العدل، كامل أمين، تورط بعض الموظفين بهذه المخالفات. يوضح لـ"ارفع صوتك": "تورط موظفون في الوزارة ودائرة التسجيل العقاري وتم إلقاء القبض عليهم واتخذت بحقهم إجراءات قانونية في المحاكم المختصة، كما جرى عزلهم من وظائفهم. وإبطال تلك البيوعات، وإعادة العقارات إلى أصحابها الشرعيين من العوائل المسيحية المهاجرة داخل وخارج العراق".

ويشير إلى وجود آلية جديدة للتأكد من هوية البائع والمشتري في عمليات بيع العقارات، بالإضافة الإجراءات الأخرى فيها.

ويلفت أمين إلى حدوث "خلط فيما يتعلق بمسؤوليات دائرة العقارات ومسؤوليات الدوائر الأخرى. فما يتم استغلاله أو الاستيلاء عليه أو استخدامه لأغراض تجارية أو غيرها ليس من مسؤولية وزارة العدل"، مردفاً "عملنا يتعلق بتزويد الجهة المشتكية بمعلومات العقار".

 

لا إحصاءات

جميع من التقت بهم مراسلة "ارفع صوتك" لا تتوفر لديهم إحصاءات دقيقة أو تقريبية سواء لعدد العقارات التي يمتلكها مسيحيو العراق، أو التي تم الاستيلاء عليها، أو التي أُعيدت إلى أصحابها.

يعود السبب في ذلك كما يقولون إلى "تعدد الجهات المسؤولة عن المواضيع المتعلقة بالعقارات سواء كانت الدينية، كالوقف المسيحي والكنائس، أو الحكومية كمجلس القضاء الأعلى ووزارة العدل والداخلية والدفاع والأمانة العامة لمجلس الوزراء ورئاسة الجمهورية".

ويؤكد كامل أمين أن عملية إعادة الممتلكات "إذا كانت في المراحل الأولى يتم كشفها من قبل دائرة التسجيل من ثم إبطالها ضمن صلاحيات الوزير".

"لكن، إذا كان البيع تم ضمن سلسلة عمليات بيع فيتم البت فيها عبر القضاء، وبدورها، تلتزم وزارة العدل بتنفيذ هذه الأحكام دون إحصائها"، يضيف أمين.

وتتعاون مؤسسات عدة في تنفيذ الأحكام القضائية، وفق أمين، "بدءاً من دائرة التنفيذ في الوزارة والأجهزة الأمنية، وأحيانا يتم توقيف بعض الأشخاص الذين يرفضون تنفيذ الأحكام بموجب قرارات المحاكم".

في السياق ذاته، يعتقد رئيس منظمة مجلس الأقليات في العراق، رعد أرتميسي،  أن عدد العقارات التي تم الاستيلاء عليها "بالعشرات، وهو ليس عددا كبيرا جداً، إذ تم تدارك الأمر عبر اللجان المختصة بالموضوع وكانت ذات نتائج إيجابية".

ويشير إلى محدودية انتشار الأقلية المسيحية في أنحاء العراق، حيث "يتركز في بغداد وإقليم كردستان ومحافظة نينوى. فيما تعيش عائلتان في محافظة بابل ومثلها في ميسان وفي البصرة 60 عائلة مسيحية" وفق إحصاء لمجلس الأقليات عام 2018.

 

حلول "بيروقراطية"

على خلفية تلك الحالات ولتجاوز المحنة التي مرت بها أملاك المهاجرين المسيحيين "وضعت الحكومة العراقية العديد من الفلاتر التي تمر بها المعاملات الرسمية لبيع وشراء العقارات العائدة إلى أبناء الديانة المسيحية"، يقول سكرتير عام الحركة الديمقراطية الآشوري، يونادم كنا.

ويضيف: "بالنسبة للمهاجرين ولديهم عقارات في العراق لا يكفي فقط توكيل شخص لبيع العقار، بل يتم تمرير الإجراءات عبر ديوان الوقف المسيحي ويتم جلب تسجيل صوت وصورة لصاحب العقار، وبعد استكمال عملية البيع يتم التأكيد من قبل الأوقاف على صحة العملية".

هذه الإجراءات، بحسب كامل أمين "لا يُقصد منها إضافة إجراءات بيروقراطية جديدة. إنما تهدف  للحفاظ على أملاك المسيحيين المهاجرين وإيقاف عمليات التزوير والاستحواذ، عبر التحقق من صحة صدور تلك الوثائق ومخاطبة الجهات الدينية للتأكد من أن هذه العائلة ترغب فعلاً بالبيع مع وجود أشخاص معرفين للتنفيذ".

ويؤكد أن "الحل النهائي سيكون بعد انتهاء عملية أتمتة إجراءات بيع وشراء العقارات، التي ستوفر الكثير من الجهد والوقت، وتقضي على الفساد والرشوة والمحسوبية، ولا يستطيع الموظف أن يتدخل أو يبتز المواطن أو المراجع".

من جهته، يعتبر رعد أرتميسي أن هذا الإجراءات الجديدة في عمليات البيع "خلقت حالة من التذمر لدى الراغبين ببيع عقاراتهم من الموجودين خارج العراق"، مستدركاً "في الوقت ذاته، تُمكّن من حماية الكثير من العقارات، لأن فيها تدقيقاً قوياً، بحيث لم نعد نسمع بوجود مثل هذه الحالات (الاستيلاء) إلا نادراً".

ويلفت إلى أن "هذه الإجراءات لا يتم تطبيقها على المسيحيين الموجودين داخل العراق، بل على المهاجرين منهم فقط، حفاظاً على أملاكهم، كونهم الأكثر تضرراً".

في السياق، يقول كنا، إن أحدث الحلول التي وصلت إليها الحكومة العراقية كانت في أبريل الماضي، بالإعلان عن تشكيل لجنة تضم 11 شخصية، لجرد أملاك المسيحيين وباقي المكونات".

ويعرب عن خيبة أمله، لأن "اللجنة لم تجتمع منذ ذلك التاريخ ولم ينطلق الموقع الإلكتروني الخاص بتلقي الشكاوى".

المزيد من المقالات

مواضيع ذات صلة:

بدوي يرعى جماله في المناطق الصحراوية بين الأنبار وكربلاء عام في فبراير 2015 (صورة تعبيرية).
بدوي يرعى جماله في المناطق الصحراوية بين الأنبار وكربلاء عام في فبراير 2015 (صورة تعبيرية).

ترك كريم العتيبي حياة التنقل وتربية الإبل في بادية السماوة (مركز محافظة المثنى) جنوبي العراق، واستقر على بعد كيلومترات في مركز المدينة. مع ذلك فإن إرث أجداده البدوي ما يزال واضحاً في لهجته وزيه العربي الذي يرفض التخلي عنهما.

قبل مائة عام كان أجداد العتيبي يشدّون رحالهم ويتجهون صوب البادية دون أن تقف الحدود عقبة أمام مساعيهم نحو البحث عن العشب والماء، قبل أن يعودوا أدراجهم مع بداية موسم الأمطار في العراق، وفقا للعتيبي الذي تحدث لـ "ارفع صوتك".

ويضيف أن "البادية على وسعها بدأت تضيق بنا، فالجفاف ضرب المنطقة، أما من يعبر الحدود بين العراق والسعودية والكويت، فيلقى القبض عليه ويقدم تعهداً يقضي بعدم تكرار التجاوز، بعد أن كان أجدادنا يتنقلون بحرية بين هذه البلدان".

سفينة الصحراء وموجات الجفاف المتتالية في العراق.. عن أهمية الجمال في حياة البدو
"ليس حليب النوق وحده هو ما يجنيه البدوي من فائدته، فهو طوق نجاته في بحور الرمال العظيمة، ومصدر مأكله ومشربه وملبسه. فاللحم للغذاء والفراء للاستدفاء، والجلد لصناعة بعض الحاجيات، ومن وبره يصنع بيت شعره وخيمته، ويستخدم بعره كوقود بعد تيبسه، وبوله للتنظيف وكدواء ومادة لغسيل الشعر وقتل القمل"

وفقا لثائر الصوفي وهو أستاذ التاريخ المتقاعد في جامعة الموصل، فإن "حياة البدو تغيرت بشكل كبير، فلم يبق لديهم بادية نقية تتضمن قيما وتقاليد وطريقة عيش بالأسلوب الذي كانت عليه. البداية كانت مع محاولات التوطين الكثيرة للبدو خلال العهد العثماني، ثم مع احتلال الإنكليز للعراق، وأخيراً مع حكم عبد الكريم قاسم -أول رئيس وزراء عراقي في النظام الجمهوري- ومشروع الإصلاح الزراعي".

حينها كما يوضح الصوفي "منحت عشائر البدو الأراضي وحفر الآبار بهدف استقرارهم. كثير منهم وجد في حياة الاستقرار أسلوب حياة أفضل، مع توفر أرباح من الزراعة".

أما اليوم، فيتعرض مجتمع البدو في العراق إلى أسوأ حقبة في تاريخه لأسباب اقتصادية وسياسية وبيئية متنوعة. ويعاني أغلب البدو من الفقر والفاقة التي تسيطر على أغلب جوانب حياتهم" كما تقول دراسة بعنوان "التراث الثقافي اللامادي لبدو العراق" للباحث صلاح الجبوري.

 

أعدادهم في تناقص

 

وجود البدو في العراق ليس حديثاً، كما يشير أستاذ التاريخ في جامعة الموصل عامر الجميلي، بل أنه "قديم ومتجذر، وهناك وثائق تشير لوجودهم قبل خمسة قرون".

يقول الجميلي لـ"ارفع صوتك" إن "أهم قبيلتين بدويتين في المنطقة، هما شمر وعنزة، واستقرتا في مناطق واسعة من بوادي العراق الثلاث وهي الجزيرة والمثنى والأنبار، ضمن المناطق الحدودية مع سوريا والسعودية".

ويضيف أن "أعدادهم بدأت بالتناقص مع أول دعوة للتحديث والتحضر، التي اضطلع بها الشيخ عجيل الياور شيخ مشايخ شمر، أوائل القرن العشرين".

أما حالياً "فيصعب حصر تعدادهم السكاني" كما يقول أستاذ التاريخ ثائر الصوفي بسبب "ذوبان أغلب العشائر في النسيج الاجتماعي بالمناطق الحضرية والريفية".

نسبة البدو العراقيين تطرق إليها الباحث هاشم نعمة في دراسة بعنوان "نمو سكان المناطق الحضرية في العراق وآثاره الاجتماعية والاقتصادية".

وأشار فيها إلى أن "الارتقاء الاجتماعي السريع والعاصف في فترة وجيزة لا تزيد على بضعة عقود، أدى إلى اختفاء البدو تقريباً، فقد هبطت نسبتهم، من 35% من إجمالي السكان في القرن التاسع عشر، إلى 4% في عام 1957، ثم إلى 1% في ثمانينيات القرن العشرين. والآن من المرجح أن نسبتهم أقل من ذلك".

في المقابل أشارت دراسة الباحث صلاح الجبوري "التراث الثقافي اللامادي لبدو العراق" إلى "وجود 150 - 170 ألفا من البدو في العراق حالياً".

وفقا لكريم العتيبي، فإن بدو العراق ينقسمون اليوم إلى نوعين، الأول منهما، هو الذي استمر في تربية الإبل والعناية بها والتنقل مسافات طويلة إلى حيث الماء والعشب على طول البادية، أما الثاني فتحول إلى رعاية المواشي (الأغنام والماعز)، ولا تتطلب العناية بها التنقل لمسافات طويلة.

وأشار إلى أن "طبيعة العناية بالإبل والمواشي، اختلفت بشكل كبير خلال العقود الأخيرة، فأصبحنا نستخدم السيارات لنقلها وجلب المياه، ونصطحب معنا مولدات كهربائية ونشتري العلف، هذا كله أدى إلى زيادة التكاليف وقلة الأرباح، وبالتالي أصبح من الصعب الحفاظ على طرق العيش القديمة".

ويقول إن "جلب المياه بالسيارات، غير مجد للبدوي مربي الإبل، ولا يمكنه البقاء في المنطقة عندما يبذر الفلاحون الحنطة والشعير، لذلك يبقى بحاجة للدخول إلى عمق البادية من أجل حيواناته".

 

"الحروب" و "المناخ"

 

أسباب التراجع في أعداد البدو وحجم ما يمتلكونه من جمال ومواش لها أسباب عديدة، فالحروب لعبت كما يروي كريم العتيبي لـ "ارفع صوتك" طدوراً في تقليص قدرة البدو في التنقل مع حيواناتهم".

ويقول إن "أكبر المخاوف بدأت مع مخلفات الحرب التي كانت تنفجر على البدو فيتكبدون خسائر بشرية وتموت حيواناتهم، فاضطروا إلى تغيير طرقهم ومناطق رعيهم مع كل حرب جديدة يخوضها العراق".

يقول أستاذ التاريخ ثائر الصوفي إن "أوضاع البدو المالية تدهورت مع حلول الألفية الجديدة، حين بدأت كميات الأمطار المتساقطة بالتراجع، ومعها أصبحت الأراضي جرداء والعشب يقل يوماً بعد يوم".

ويضيف أن "بادية الجزيرة التي كانت تسمى بسلة العراق الغذائية، لم تعد كذلك بسبب الجفاف، وبالتالي ازدادت البطالة وتخلى الكثير من البدو عن حيواناتهم وسكنوا القرى وساد الفقر بينهم. اضطر بعضهم إلى العمل في التهريب والبعض الآخر انتمى للجماعات الإرهابية في سبيل البقاء حياً".

ويتابع الصوفي: "ذلك الانتماء لم يكن واسعاً، وانتهى سريعاً مع سيطرة الدولة على المناطق التي اجتاحتها تلك الجماعات، فيما تقلصت عمليات التهريب بعد أن عززت السلطات الأمنية مسكها للحدود".

 

"العادات والتقاليد"

 

لا تتعلق التغيرات التي طرأت على المجتمع البدوي في العراق على تعدادهم السكاني فحسب، بل تأثرت أيضا الكثير من "العادات والتقاليد" وطرق العيش التي كانت سائدة.

أهمها بيوت الشَعر التي كانت واحدة من أهم أنواع التراث الإنساني للبدو، فلم يعد هؤلاء ممن يعيشون في القرى والمدن يسكنون فيها.

يقول محمد ناصر الذي ترك حياة البداوة وتوجه للوظيفة الحكومية في المدن: "يبني البدو بيوتاً من الطوب للعيش، أما البدو من مربي الإبل فلديهم بيت قائم ثابت تعيش فيه العائلة في أيام توفر العشب بالقرب من المدن، وفي رحلة الصيف إلى عمق البادية يصطحبون نصف أفراد العائلة للرعي وهناك يستخدمون بيوت الشعر".

ويضيف: "حتى بيوت الشعر تغيرت، فسابقا كانت تصنع من شعر الماعز المقاوم للظروف الجوية، الذي يمنع تسرب الماء في الشتاء ويسمح بدخول الهواء في الصيف. أما حالياً فتتوفر المواد والأقمشة في الأسواق، وقليلاً ما يتم نسج بيت الشعر من قبل البدويات".

ويتابع ناصر: "في السابق، من النادر أن نجد بدوياً يتدرج في الدراسة، لما تتطلبه من استقرار مكاني، أما حالياً، فبفضل الاستقرار في القرى والمدن دخل أبناء البدو إلى المدارس وتخرجوا من الجامعات وتدرجوا في السلم الوظيفي. كثير منهم يفضل الانتساب للقوات الأمنية لما توفره من رواتب مستقرة ومجزية".

ويشير إلى أن "الكثير من تقاليد الحياة البدوية تأثرت، فالصيد الذي كان أجدادنا يتباهون به خلال جلسات السمر في المصايف حين تدور دلال القهوة بين الحاضرين، أصبح اليوم محدوداً".

وحتى سبعينيات القرن العشرين كما يقول أستاذ التاريخ ثائر الصوفي "كان البدو يتنقلون في البادية على الجمال والخيول، لكن مع دخول السيارات إلى حياتهم تركوا الخيل للصحراء لتتحول إلى حيوانات برية، أما في الوقت الحالي، فمن يمتلك الخيل منهم يكون لأسباب الترف".

ويؤكد أن "حياة البدو بمعناها القديم أو كما نقرأ عنها في الكتب والمصادر التي كتبت في النصف الأول من القرن العشرين، لم تعد موجودة إلا في النادر جداً، مع ذلك، فإن البدوي العراقي، مهما ترك البادية واستقر، فإنه يعود إليها في حنين شديد، ويستمر في الحفاظ على تقاليدها من كرم الضيافة والنخوة".