مرت شهور عديدة ولا تزال المهاجرة العراقية المسيحية ساهرة متى، تحاول استعادة ملكية بيتها الذي تركته عندما هاجرت إلى الولايات المتحدة الأميركية قبل سنوات.
وكانت ساهرة (اسم مستعار) عادت إلى العراق لبيع البيت، لتفاجأ باختفائه وتحوّل المكان الذي كان فيه، إلى مبنى تجاري ضخم وسط العاصمة بغداد، إذ تم بيعه في غيابها بعقد بيع مزوّر.
تبين لـ "ارفع صوتك": "سافرت خلال فترة الحرب الطائفية من منطقتي للحفاظ على حياتي وحياة أبنائي، وعدت بعد استقراري في المهجر إلى العراق بهدف بيع المنزل والاستفادة من الأموال بعد الارتفاع الكبير بأسعار العقارات".
وتضيف ساهرة: "فوجئت بتغيّر المنطقة وتحولها إلى شارع تجاري مزدهر بالبنايات، ولم أتمكن من التعرف على تفاصيل المنطقة ولم أعثر على المنزل. وبعد البحث وجدت أن هناك من قام ببيع المنزل عبر تزوير هويتي الشخصية بجواز بريطاني، وتحويله إلى مبنى تجاري ضخم".
"قدمي لم تطأ أرض بريطانيا على الإطلاق منذ تركت العراق، فقد هاجرت إلى الولايات المتحدة وأسكن منذ ذلك الوقت في مدينة سان دييغو (ولاية كاليفورنيا) ولا أعرف كيف تمت العملية"، تتابع ساهرة.
وقضيتها واحدة من القضايا المعروضة أمام القضاء العراقي اليوم بانتظار البت بشأنها. وهناك عشرات القضايا لمسيحيين تم الاستيلاء على عقاراتهم بعد تركهم العراق.
بداية الحكاية
بدأ التلاعب بأملاك المسيحيين والاستيلاء عليها كما يقول سكرتير عام الحركة الديمقراطية الآشورية، يونادم كنا "منذ تسعينيات القرن الماضي حين هاجر الكثير منهم بسبب الظرف الاقتصادي في العراق".
وتزايد استهداف أملاكهم بعد سقوط النظام البعثي عام 2003، وحين ألقت الحرب الطائفية بظلالها على بغداد لتقود إلى نزوحهم إلى إقليم كردستان أو إلى خارج البلد، بحسب كنا.
ويوضح لـ"ارفع صوتك"، أن الاستحواذ على أملاك المسيحيين اتخذ أشكالا عديدة منها "ما يتعلق بالتهديد لبيع العقارات بأثمان بخسة، أو التزوير وبيع العقارات بوكالات وهمية لمن هاجر منهم داخل وخارج العراق، أو الاستحواذ على الأملاك عبر السكن فيها ورفض إخلائها".
ويؤكد كنا أن أكثر الحالات تمت "بشكل خاص بين (2004-2011)، وكانت الأقليات بشكل عام مستهدفة. وشمل ذلك مناطق في سهل نينوى عندما كان لتنظيم القاعدة سطوة في تلك الأماكن، خصوصاً الموصل التي شهدت تهجيراً للشيعة وللأقليات وكل من لم يبايعهم أو لم يحمل فكرهم".
يضيف: "ومن تم تهجيرهم أو هربوا إلى مناطق خارج سطوة تنظيم القاعدة، قاموا بالاستقرار في أماكن أخرى وأحيانا في مناطق زراعية، وتسبب ذلك بمشاكل لاحقا".
أما من تم الاستحواذ على عقاراتهم عام 2014 أي بعد سيطرة تنظيم داعش على مناطق واسعة من سهل نينوى، التي يتركز فيها مسيحيو العراق "فكانت مشكلتهم أسهل، لأن الحكومة العراقية اعتبرت كل عمليات البيع باطلة بلا استثناء"، كما يقول كنا، مستدركاً "مع ذلك، كانت هناك خسائر كبيرة في البنى التحتية وسرقة للمشاريع وحرق أو تهديم للمساكن".
يتابع: "بعد التحرير (من داعش) جاءت جماعات متنفذة مسلحة بدأت بتغيير صنوف العقارات وملكيتها. لكن، لا أحد يمتلك معلومات حقيقية بتفاصيل ما حدث للفترة التالية أي ما بعد داعش، وهناك امتعاض في تلك المناطق ولا نمتلك سوى شكاوى لم يتم التحري عنها بعد".
أملاك المهاجرين
أغلب حالات التلاعب بملكية العقارات حصلت "في أملاك المسيحيين الذي هاجروا من بغداد إلى إقليم كردستان، أو ممن تركوا العراق إلى دول أخرى، وعددهم كبير جدا"، يقول يونادم كنا.
ويشير إلى حالات عديدة "تم فيها التمليك بقرار حكمي من المحكمة"، مؤكداً: "تمكنا خلال السنوات السابقة عبر التعاون مع مجلس القضاء الأعلى من إيقاف تلك الحالات".
والتمليك الحكمي يتعلق برفع دعوى قضائية ضد صاحب العقار بدعوى استدانة مبلغ من المال دون تسديده، والمطالبة بتمليك العقار كبدل عن الأموال غير المسددة. ومع عدم حضور المشتكى عليه يتم تمليك المشتكي للدار في النهاية.
هذه الحالات، بحسب كنا، "تراجعت بنسبة كبيرة جداً بعد عام 2011 إثر التعاون مع مكتب رئيس الوزراء آنذاك، وتم إخلاء مئات الدور التي تم التجاوز عليها".
ويوضح: "في ذلك الوقت لم يكن التجاوز يحصل على الأملاك لأسباب دينية فقط، بل على مستوى طائفي أيضا، فقد أجابت عمليات بغداد على إحدى مخاطباتنا الرسمية بأن هناك 36 ألف عقار تم التجاوز عليها بين الطائفتين المسلمتين (السنية والشيعية)".
وكان مجلس القضاء الأعلى أعلن عام 2021 عن إلقاء القبض على عصابة تخصصت ببيع أملاك المسيحيين في منطقة الكرادة وسط بغداد، عبر ترتيب لقاء مع أصحاب تلك العقارات المقيمين خارج البلد، بعد أن يتم التواصل مع تلك العوائل وتنظيم عقد بيع أولى دون دفع الأموال ثم يتم تزوير المعاملة والاستيلاء على العقارات دون علم صاحبها.
في حينه، حُكم على أفراد العصابة بالسجن سبع سنوات ومنع أي عملية بيع لأملاك المسيحيين في منطقة الكرادة.
تورط موظفي الدولة
يتفق النائب السابق في البرلمان العراقي، عمانويل خوشابا، مع ما ذهب إليه يونادم كنا، من حيث التسلسل التاريخي لحالات الاستحواذ على عقارات المسيحيين في العراق.
ويؤكد لـ "ارفع صوتك"، أن كثيرا من تلك الحالات "تمت بسبب التواطؤ والفساد الإداري في مؤسسات الدولة المختلفة، عبر الشراكة مع عصابات منظمة أو مسلحين للبحث عن عقارات المسيحيين عن طريق اسم المالك ثم الاستيلاء عليها بالتهديد وشرائها بأثمان بخسة، أو عبر التزوير ونقل الملكية".
الدليل على ذلك، بحسب خوشابا "عمليات إغلاق المكاتب العقارية لبعض المناطق التي كانت تتضمن نسبة عالية من وجود المسيحيين في بغداد مثل الكرادة، وفي مدينة الموصل بمحافظة نينوى".
يضيف: "عمل هؤلاء الموظفون على جرد تلك العقارات وإبلاغ الخارجين عن القانون أو العصابات بمواقعها، التي تقوم بدورها بتهديد أصحابها وشرائها بثمن بخس أو الاستيلاء عليها بالقوة".
ويعتبر خوشابا أن كل ما يقال حالياً عن استعادة العقارات "محاولات فردية نجحت بمعرفة بعض الحالات عبر شكوى المواطن نفسه، وليست تحركا رسمياً واسعاً".
ويشير إلى أن "الكثير من أصحاب تلك العقارات لم يقم بتقديم شكوى، ورضي بالأمر الواقع وباع بأسعار بخسة تجنباً للمشاكل".
ولا يخفي المتحدث باسم وزارة العدل، كامل أمين، تورط بعض الموظفين بهذه المخالفات. يوضح لـ"ارفع صوتك": "تورط موظفون في الوزارة ودائرة التسجيل العقاري وتم إلقاء القبض عليهم واتخذت بحقهم إجراءات قانونية في المحاكم المختصة، كما جرى عزلهم من وظائفهم. وإبطال تلك البيوعات، وإعادة العقارات إلى أصحابها الشرعيين من العوائل المسيحية المهاجرة داخل وخارج العراق".
ويشير إلى وجود آلية جديدة للتأكد من هوية البائع والمشتري في عمليات بيع العقارات، بالإضافة الإجراءات الأخرى فيها.
ويلفت أمين إلى حدوث "خلط فيما يتعلق بمسؤوليات دائرة العقارات ومسؤوليات الدوائر الأخرى. فما يتم استغلاله أو الاستيلاء عليه أو استخدامه لأغراض تجارية أو غيرها ليس من مسؤولية وزارة العدل"، مردفاً "عملنا يتعلق بتزويد الجهة المشتكية بمعلومات العقار".
لا إحصاءات
جميع من التقت بهم مراسلة "ارفع صوتك" لا تتوفر لديهم إحصاءات دقيقة أو تقريبية سواء لعدد العقارات التي يمتلكها مسيحيو العراق، أو التي تم الاستيلاء عليها، أو التي أُعيدت إلى أصحابها.
يعود السبب في ذلك كما يقولون إلى "تعدد الجهات المسؤولة عن المواضيع المتعلقة بالعقارات سواء كانت الدينية، كالوقف المسيحي والكنائس، أو الحكومية كمجلس القضاء الأعلى ووزارة العدل والداخلية والدفاع والأمانة العامة لمجلس الوزراء ورئاسة الجمهورية".
ويؤكد كامل أمين أن عملية إعادة الممتلكات "إذا كانت في المراحل الأولى يتم كشفها من قبل دائرة التسجيل من ثم إبطالها ضمن صلاحيات الوزير".
"لكن، إذا كان البيع تم ضمن سلسلة عمليات بيع فيتم البت فيها عبر القضاء، وبدورها، تلتزم وزارة العدل بتنفيذ هذه الأحكام دون إحصائها"، يضيف أمين.
وتتعاون مؤسسات عدة في تنفيذ الأحكام القضائية، وفق أمين، "بدءاً من دائرة التنفيذ في الوزارة والأجهزة الأمنية، وأحيانا يتم توقيف بعض الأشخاص الذين يرفضون تنفيذ الأحكام بموجب قرارات المحاكم".
في السياق ذاته، يعتقد رئيس منظمة مجلس الأقليات في العراق، رعد أرتميسي، أن عدد العقارات التي تم الاستيلاء عليها "بالعشرات، وهو ليس عددا كبيرا جداً، إذ تم تدارك الأمر عبر اللجان المختصة بالموضوع وكانت ذات نتائج إيجابية".
ويشير إلى محدودية انتشار الأقلية المسيحية في أنحاء العراق، حيث "يتركز في بغداد وإقليم كردستان ومحافظة نينوى. فيما تعيش عائلتان في محافظة بابل ومثلها في ميسان وفي البصرة 60 عائلة مسيحية" وفق إحصاء لمجلس الأقليات عام 2018.
حلول "بيروقراطية"
على خلفية تلك الحالات ولتجاوز المحنة التي مرت بها أملاك المهاجرين المسيحيين "وضعت الحكومة العراقية العديد من الفلاتر التي تمر بها المعاملات الرسمية لبيع وشراء العقارات العائدة إلى أبناء الديانة المسيحية"، يقول سكرتير عام الحركة الديمقراطية الآشوري، يونادم كنا.
ويضيف: "بالنسبة للمهاجرين ولديهم عقارات في العراق لا يكفي فقط توكيل شخص لبيع العقار، بل يتم تمرير الإجراءات عبر ديوان الوقف المسيحي ويتم جلب تسجيل صوت وصورة لصاحب العقار، وبعد استكمال عملية البيع يتم التأكيد من قبل الأوقاف على صحة العملية".
هذه الإجراءات، بحسب كامل أمين "لا يُقصد منها إضافة إجراءات بيروقراطية جديدة. إنما تهدف للحفاظ على أملاك المسيحيين المهاجرين وإيقاف عمليات التزوير والاستحواذ، عبر التحقق من صحة صدور تلك الوثائق ومخاطبة الجهات الدينية للتأكد من أن هذه العائلة ترغب فعلاً بالبيع مع وجود أشخاص معرفين للتنفيذ".
ويؤكد أن "الحل النهائي سيكون بعد انتهاء عملية أتمتة إجراءات بيع وشراء العقارات، التي ستوفر الكثير من الجهد والوقت، وتقضي على الفساد والرشوة والمحسوبية، ولا يستطيع الموظف أن يتدخل أو يبتز المواطن أو المراجع".
من جهته، يعتبر رعد أرتميسي أن هذا الإجراءات الجديدة في عمليات البيع "خلقت حالة من التذمر لدى الراغبين ببيع عقاراتهم من الموجودين خارج العراق"، مستدركاً "في الوقت ذاته، تُمكّن من حماية الكثير من العقارات، لأن فيها تدقيقاً قوياً، بحيث لم نعد نسمع بوجود مثل هذه الحالات (الاستيلاء) إلا نادراً".
ويلفت إلى أن "هذه الإجراءات لا يتم تطبيقها على المسيحيين الموجودين داخل العراق، بل على المهاجرين منهم فقط، حفاظاً على أملاكهم، كونهم الأكثر تضرراً".
في السياق، يقول كنا، إن أحدث الحلول التي وصلت إليها الحكومة العراقية كانت في أبريل الماضي، بالإعلان عن تشكيل لجنة تضم 11 شخصية، لجرد أملاك المسيحيين وباقي المكونات".
ويعرب عن خيبة أمله، لأن "اللجنة لم تجتمع منذ ذلك التاريخ ولم ينطلق الموقع الإلكتروني الخاص بتلقي الشكاوى".