ما هو أصل الغجر؟ قصص ودراسات وأبحاث عديدة، حاولت العودة لجذور هذه الأقلية المنتشرة حول العالم، وتُدعى كل منها باسم مختلف، سواء هي تطلقه على نفسها، أو ينعته بها مواطنو البلاد التي تقيم بها، وعادة ما تعاني من التهميش والعنصرية، أو عدم شمولها بالخدمات التي تقدمها الدولة.
في دراسة "الغجر المهمشون في المجتمعات العربية: التاريخ والهوية"، يتطرق الباحث أشرف صالح محمد، لأسطورة أصل الغجر، وهي أن "البشرية انحدرت من نسل ثلاث إخوة. الأول جاء من نسله العنصر الأبيض، والثاني ولد سود البشرة، أما الثالث، ويُسمى كين، فقد انحدر منه الغجر. قام كين بقتل أحد أخويه، ثم حُكم على نسله بالشتات والترحال في شتى بقاع الأرض".
.على الرغم من الطابع الأسطوري الظاهر في تلك القصة، يقول محمد، إلا أنها "تفسر لنا طبيعة الغجر الجوالة على مدى التاريخ، وكذلك العاطفة الجياشة تجاه بعضهم البعض".
وهناك أسطورة أخرى شهيرة تفسر الموقف العدائي الذي تُبديه العديد من الشعوب تجاه الغجر، إذ تقول إن أحد الأجداد القدامى للغجر كان الحداد الذي صنع المسمار الذي صُلب به المسيح، لذلك "استحقوا اللعن على مدار القرون".
وبسبب ما يتعرضون له، خصصت الأمم المتحدة يوماً دولياً لتسليط الضوء على معاناتهم والتوعية بحقوقهم، يُدعى "اليوم الدولي للروما"، الذي يوافق الثامن من أبريل كل عام.
والروما، هي تسمية أطلقت على جماعات فرعية من الغجر مثل "سنتي وكالي وجيتانو"، عاشت في دول أوروبية واستقرّت فيها، بحسب موقع الأمم المتحدة.
وجاء على الصفحة التي تعرّف باليوم الدولي للروما، بأنها "أكبر مجموعة سكانية مهمّشة وتعرّضت للاضطهاد لمئات السنين".
البلد الأم
يذهب أغلب الباحثين إلى أن الهند هي الموطن الأصلي للغجر، تفرقوا منها لبقية دول العالم لظروف وأسباب متنوعة. يقول الباحث حميد الهاشمي في كتابه "تكيّف الغجر"، إن "الغجر من الشعوب الهندو أوروبية التي اضطرت إلى الهجرة من شبه القارة الهندية لشرقي أوروبا في القرنين الرابع والخامس الميلاديين. لا نعرف الأسباب التي دعت لوقوع تلك الهجرات على وجه الدقة. من المُحتمل أن شعوباً أخرى قامت بغزو الأراضي الغجرية، أو أن تلك الأراضي تعرضت للجدب والقحط في تلك الفترات".
وبعد وصولهم شرقي أوروبا، رحل الغجر في شكل جماعات صغيرة العدد إلى أنحاء متفرقة من العالم، وكثرت أعدادهم في كل من إسبانيا ودول عربية وإيران، كما انتقل بعضهم إلى القارتين الأميركيتين (الشمالية والجنوبية).
حالياً، تُقدر أعدادهم بعشرة ملايين نسمة. يتوزعون على مجموعتين رئيسيتين: الرومن والدومر، تتشعب منهما مجموعات صغيرة، تعيش فيد دول مثل مصر وأرمينيا وإيران وأفغانستان وسوريا والأردن ولبنان وفلسطين وليبيا وتونس والجزائر والمغرب والعراق وإيران والهند وتركيا وروسيا وجورجيا وأذربيجان.
"كاولية" العراق
يُعرف الغجر في العراق باسم "الكاولية". يذكر حميد الهاشمي في كتابه، أن الغجر وصلوا العراق -للمرة الأولى- في القرن السابع الميلادي، وربما كانت لهم صلة بجماعة "الزط"، الذين سكنوا العراق في عصر الدولة العباسية، وقاموا بثورة كبرى ضد دولة الخلافة في النصف الأول من القرن التاسع الميلادي.
حالياً، يعيش الغجر العراقيون في تجمعات سكنية على أطراف مدن بغداد والبصرة والديوانية ونينوى والمثنى، ويعانون -بشكل كبير- من التهميش المجتمعي وإهمال الدولة لهم. على سبيل المثال ذكرت بعض التقارير أن القوانين العراقية حرمت الأقلية الغجرية من حق التملك، فقانون التسجيل العقاري (رقم 43 لسنة 1971)، استثناهم من تملك العقار أو الأرض الزراعية باعتبارهم أجانب.
في مارس 2020، نقل ممثلو الغجر العراقيين شكواهم لبعثة الأمم المتحدة لمساعدة العراق والمفوضية العليا لحقوق الإنسان، وحددوا التحديات الأكثر إلحاحاً التي يواجهها شعبهم في عدة نقاط، أهمها "عدم اعتراف الدولة بحصولهم على الجنسية العراقية الكاملة، ومصادرة جزء كبير من ممتلكاتهم التي قدمتها لهم الحكومة قبل سنة 2003، وحرمانهم من فرص العمل والتعليم، فضلاً عن عدم تمثيلهم سياسياً في جميع المستويات الحكومية".
في السنوات الأخيرة، تعالت بعض الأصوات العراقية التي طالبت بالاهتمام بالغجر. ففي سنة 2016، أطلقت الصحافية والناشطة العراقية منار الزبيدي حملة بعنوان "الغجر بشر" لكشف حجم المعاناة التي تلاقيها هذه الفئة المهمّشة من ازدراء وتعدٍّ وإجحاف بحقّها، ولاقت الحملة نجاحاً كبيراً في العديد من المناطق، كما نجحت في مساعدة الكثير من الغجر في الاندماج.
من جهة أخرى، يعيش الآلاف من الغجر في كردستان العراق، يُطلق عليهم اسم "القرج" أو "دوم"، وتبدو أوضاعهم أفضل بكثير من أوضاع البقية الذين يقيمون في محافظات عراقية أخرى.
"دوم" سوريا
يعيش في سوريا الآلاف من الغجر دون إحصاءات دقيقة عن أعدادهم في السجلات الرسمية. يسمون أنفسهم "دوم" أو "ضوم"، فيما ينعتهم الآخرون بأسماء متعددة منها "النَّور، واللور، والقرباط".
عاش غجر سوريا لسنوات طويلة في أرياف حمص وحلب واللاذقية وأطراف دمشق وعفرين، وامتهنوا حرفة الرعي وعاشوا في الخيام.
في بدايات القرن العشرين، اضطر الكثير منهم لتغيير حرفته بعد أن هطلت الثلوج بغزارة لأيام متواصلة، ما تسبب في نفوق أعداد كبيرة من المواشي والأبقار.
في دراسة "المهمشون في سورية أواخر القرن العشرين: شهادات شفوية"، يذكر الباحث عبد الله حنا، أن أغلبية غجر سوريا تعاني التهميش والفقر، وعلى الرغم من ذلك يوجد بعض الغجر الذين تمكنوا من تحقيق مكاسب اقتصادية كبيرة بسبب عملهم في مجال الترفيه والحفلات.
في السنوات التي تلت 2011، أثرت الحرب الأهلية بشكل واضح على أحوالهم، رغم أنهم لم يبدوا أي موقف معاد للنظام السوري. تضررت مساكن الغجر بشكل كبير، فقد تم تدمير حي "جورة العرايس" غرب مدينة حمص، الذي عُرف بكونه يضم الكثير من الغجر، كما استهدف القصف مناطق سكن الغجر على هامش المدن، الأمر الذي تسبب في نقل خيامهم إلى ساحات العاصمة دمشق.
على الصعيد الثقافي، حافظ الغجر السوريون على سماتهم الفلكلورية التي أبقت على هويتهم كأقلية متمايزة داخل الأراضي السورية. يذكرالباحث خليل أقطيني في دراسته "غجر سوريا: تاريخ طويل وحياة هامشية"، أنهم اعتادوا على ممارسة أعمال التنجيم وقراءة الكف، وإحياء الأفراح والمناسبات، وصباغة الأسنان، وصناعة الغرابيل، وغير ذلك من الممارسات التي اختصوا بها دوناً عن غيرهم من الأقليات السورية.
"بنو عداس" في الجزائر
يُعرف الغجر في الجزائر بأسماء عدة، من أبرزها "بنو عداس، وبنو هجرس، والعمريون، والجواطنة، الجيطانو"، ومن المُحتمل أن تكون تسميتهم الأشهر "بنو عداس"، اُشتقت من الفعل العربي "عدس" بمعنى رحل وانتقل، وهو المعنى الذي يتوافق مع تقاليد الغجر المتوارثة عبر القرون.
لا يوجد إحصاء دقيق بأعداد الغجر الجزائرين، فآخر إحصاء رسمي لهم تم سنة 1939 (تحت الاحتلال الفرنسي)، حيث قُدر عددهم بنحو 40 ألفاً.
يعيشون حالياً في بعض المدن الساحلية وفي البادية في شكل تجمعات سكنية صغيرة العدد.
يُعاني غجر الجزائر الكثير من المشكلات الاجتماعية، إذ يُنظر لهم بشكل سلبي. في هذا السياق يمكن فهم المثل الشعبي الجزائري المشهور "ترخصي يالزرقا -يُقصد به الحصان الجميل- ويركبوك بني عداس".
يفسر البعض تلك النظرة بما وقع في النصف الأول من القرن العشرين، عندما استعان الفرنسيون المحتلون ببعض أفراد بني عداس لتعقب الوطنيين والثوار الجزائريين الذين ناضلوا لتحرير بلادهم. خرج الفرنسيون من الجزائر في الستينيات بينما ظل الوسم بالخيانة والعمالة يلاحق أغلب الغجر.
على الصعيد الاقتصادي، يعتاشون من بعض المهن البسيطة والمتواضعة، كما يمتهن الكثير منهم التسوّل.
ويواجه غجر الجزائر مشكلة في الاندماج المجتمعي، إذ لا يُعترف بهم في المؤسسات المدنية، ولا يسجلون مواليدهم في السجلات الرسمية للدولة، كما يشيع أنهم يتركون موتاهم من كبار السن أمام المساجد ليدفنها الناس، بسبب صعوبة استخراج رخص للدفن لعدم توفر وثائق هوية خاصة بهم.
في 2018، فتحت الرواية الجزائرية أبوابها أمام عالم الغجر، عندما نشر الروائي الجزائري عبد الوهاب عيساوي روايته "الدوائر والأبواب"، حيث ألقى الضوء على أحوال الغجر الجزائريين، وبين المشكلات الكثيرة التي يعانونها.
"النَور" في مصر
يُعرف الغجر في مصر بأسماء متعددة. يُطلق اسم "الحلب" على الغجر الذين يسكنون في الصعيد، في حين يُعرف غجر الوجه البحري باسم "النَور".
تذكر الباحثة علا الطوخي إسماعيل، في دراستها "التراث الشعبي الغجري في مصر: المهن والحرف نموذجاً"، أن بداية وجود الغجر في مصر ترجع إلى القرن السادس عشر الميلادي، وأنهم اُعتبروا من ذلك الوقت "غرباء" في أرض مصر.
بشكل عام، تعيش جماعات الغجر في مصر في شكل تجمعات صغيرة منغلقة على نفسها، ولا يتزوجون من خارج جماعتهم، كما يعانون من الاستبعاد الاجتماعي.
في كتابها "الغجر في مصر المعاصرة على هوامش المجتمع"، أشارت الباحثة ألكساندرا بارس، إلى النظرة المجتمعية السلبية الشائعة في مصر حول الغجر، وبيّنت أن أغلبية المصريين ينظرون إليهم بصفتهم مكونا اجتماعيا غير مرغوب فيه "لدرجة يبدو أن الفارق بين كونك غجرياً أو مجرماً لا يزيد ببساطة عن قدر شعرة".
من جهة أخرى، يعاني الغجر المصريون من العديد من المشكلات المرتبطة بالأماكن العشوائية التي يسكنون بها. على سبيل المثال أشار الباحث أحمد سعيد الهجرسي، في دراسته "المخاطر الاجتماعية والسياسية للمناطق العشوائية في مصر"، لعدم توافر الخدمات، وسوء حالة شبكة الصرف الصحي، وزيادة حالات التحرش، وانتشار الأمراض، فضلاً عن غياب الخدمات التعليمية.
رغم كل ذلك، تمكنت الثقافة الغجرية من إثبات نفسها داخل الوجدان المصري الجمعي، حتى أضحت أحد المكونات المهمة في تشكيله. في ذلك، يقول أستاذ الأدب الشعبي، خالد أبو الليل، أن الغجر لعبوا دوراً كبيراً في الحفاظ على الموروثات المصرية الفلكلورية.
"ارتبطت السيرة الهلالية في روايتها على فرقة موسيقية غجرية، ولولا الغجر لضاعت هذه السيرة وفقدت مصر جزءاً مهماً من هويتها الثقافية، إذ تخصصت هذه الجماعة في رواية السيرة الهلالية على نحو احترافي، واعتبرتها مصدر رزقها…"، بحسب أبو الليل.