لا يبدو مروان سابا، عضو مجلس إدارة "جمعية الشبان المسيحيين" في قطاع غزة، متفائلاً خلال حديثه مع "ارفع صوتك" عن أحوال المسيحيين في غزة.
توقعات سابا ترجّح ألا يزيد عدد المسيحيين في غزة عن 200 شخص بعد انتهاء الحرب. والسبب، كما يشرح سابا، يتمثّل في "حجم المعاناة التي تكبّدها مسيحيو غزة خلال الحرب المشتعلة في القطاع منذ أكتوبر الماضي"، بين إسرائيل وعددٍ من الفصائل الفلسطينية المسلحة على رأسها حركة حماس.
بعد سنواتٍ من سيطرة "حماس"، ذات الخلفية الإسلامية، على غزة، تعرض القطاع إلى حصار اقتصادي طويل تخللته حروب ضارية لعبت دوراً أساسياً في تناقص أعداد المسيحيين حتى بلغ عددهم 1200 مواطن تقريباً بعدما كانوا 3500 لحظة انفراد حماس بحُكم القطاع، بحسب سابا.
تعيّن على هذا العدد القليل من مسيحيي القطاع خوض تجربة الحرب القاسية بعدما دُمرت كنائسهم وبيوتهم وشركاتهم وعاشوا في مراكز الإيواء، ما اضطرّ بعضهم إلى الهرب إلى خارج القطاع.
تحت حُكم "حماس"
بحسب كتاب "قصة مدينة غزة" لهارون هاشم، دخلت المسيحية غزة منذ عهد الدولة الرومانية على يد فيليبس المبشّر تلميذ القديس بولس الرسول، وراحت تنتشر ببطء بين أغلبية أهل غزة الوثنيين حتى وقع الصدام بين الطرفين في منتصف القرن الرابع الميلادي على شكل اشتباكات دموية انتهت بمقتل وإصابة العشرات.
بعدها، تواصل انتشار المسيحية بين سكان غزة حتى أن بورفيروس أسقف غزة لم يتورع عن هدم معابد الوثنيين وبناء كنائس بدلاً منها وهو الوضع الذي استمرّ حتى استولى المسلمون على المنطقة وأنهوا حُكم المسيحيين لها إلى الأبد.
واجهت الطائفة المسيحية تحديًا ضخمًا في 2007 بعد سيطرة حماس المنفردة على غزة. في ذلك الوقت، وقعت اعتداءات على مؤسسات ومواطنين مسيحيين بشكلٍ لم تشهده فلسطين من قبل.
منها ما جرى في يونيو 2007 حين نُهب دير وكنيسة، ثم بعدها بأربعة أشهر قُتل مواطن مسيحي يعمل في جمعية الكتاب المقدس. وفي العام التالي، ألقيت عبوة متفجرة على مدرسة راهبات الوردية، ثم تعرضت جمعية الشبان المسيحين للاستهداف مرتين عامي 2008 و2010. وقد وثّقت الباحثة الفلسطينية نادية أبو زاهر هذه الأحداث في كتابها "دور النخبة السياسية الفلسطينية في تكوين رأس المال الاجتماعي".
تعرّض المسيحيون أيضا لضررٍ غير مباشر من سياسات حماس بعد تطبيق بعض قوانين "أسلمة المجتمع" مثل منع شُرب الخمور -غير المحرمة عند المسيحيين-، وإرغام النساء على ارتداء الحجاب بمن فيهن المسيحيات، ومنع النساء من ركوب الدراجات النارية والفصل بينهن وبين الرجال على شاطئ البحر، حسب نادية أبو زاهر.
خلال إعداد كتابها، التقت أبو زاهر بعددٍ كبيرٍ من القيادات المسيحية التي أكدت لها أنهم لا يعتبرون أنفسهم أقلية وإنما هم فلسطينيون قبل كل شيء، وأن مكانتهم في المجتمع يجب أن تكون على أساس مساهمتهم فيه.
وتعتبر أبو زاهر أن "حماس"، وعلى الرغم من التزامها في برامجها الانتخابية بضمان حقوق جميع المواطنين، فإن ممارساتها على الأرض ضد خصومها السياسيين مثل حركة فتح على سبيل المثال وضد غيرهم خلقت حالة من عدم الثقة عند المسيحيين تجاهها وأضرّت بالتماسك الاجتماعي للفلسطينيين في قطاع غزة.
ما قبل الحرب
تتمثّل أبرز المؤسسات المسيحية داخل القطاع في ثلاث كنائس: الأولى كنيسة الكاثوليك العائلة المقدسة في غزة الزيتون، والثانية كنيسة القديس برفيريوس في حي الزيتون للأرثوذكس ويؤمّها أغلبية مسيحيي القطاع الكاثوليك. أما الكنيسة الثالثة فهي كنيسة مدنية صغيرة داخل المستشفى المعمداني ولا يمارس فيها أي نشاط ديني أو طقوس للعبادة بسبب وجودها داخل المستشفى.
بخلاف هذه الكنائس الثلاثة، تنشط بعض المؤسسات الأهلية المسيحية على رأسها المركز العربي الأرثوذوكسي والذي انتهت للتو أعمال تطويره بما يقارب 7 ملايين دولار، و"جمعية الشبان المسيحيين" التي تنشط في القطاع منذ سنوات طويلة وتقيم فعاليات يستفيد منها الآلاف من أهل القطاع.
نزوح مبكر
بعد هجوم 7 أكتوبر، بدأ نزوح المسيحيين منذ اليوم الثالث لعمليات القصف خاصةً وأن أغلب العائلات المسيحية تقطن في حي الرمال وتل الهوى ومنطقة الجامعات التي استهدفتها الطائرات الإسرائيلية بعمليات قصف مكثفة تزامنت مع إلقاء منشورات تطالب الأهالي بإخلاء المنطقة.
وتكدّس معظم النازحين في الكنيستين الرئيسيتين في القطاع، فيما هرب الباقون إلى أماكن متفرقة بين دير البلح ورفح وخان يونس.
لم يقتصر دور المؤسسات المسيحية على إيواء المسيحيين فقط وإنما فتحت أبوابها للمسلمين أيضاً مثلما فعل المركز العربي الأرثوذكسي الذي استقبل قرابة 2500 لاجئ من حي الشجاعية. وكذلك استضافت مدرسة الروم الأرثوذكس في تل الهوى 800 نازح تقريباً.
بحسب سابا، فإن الكنيستين الكبيرتين في غزة استعدتا مبكراً لمثل هذه الأزمة بعدما أنفق قادتها أموالاً ضخمة لشراء كميات كبيرة من الإمدادات في وقتٍ سابق حتى يكونوا قادرين على إيواء النازحين في حال وقوع أي أزمة. وعلى الرغم من هذا الاستعداد، فإن استمرار الحرب أكثر من 150 يوماً وضع الكنيستين في مأزق بعدما بدأت مخازنهما في النفاد.
ثمن الحرب
تعرضت الكثير من المنشآت المسيحية إلى أضرارٍ جمّة: 50% من مبنى "جمعية الشباب المسيحيين" تضرر كثيراً. أما المركز العربي الأرثوذكسي الذي انتهت الكنيسة لتوها من تجديده فقد تدمّر بالكامل رغم أن عدداً كبيراً من اللاجئين كان قد احتمى بين جدرانه.
ويكشف سابا أن كنيسة القديس بيرفيروس الأرثوذكسية، وهي أقدم كنيسة في غزة، تعرضت لقصفٍ مستمر رغم لجوء 700 فردٍ إليها بينهم عائلتان مسلمتان.
وألحق هذا الاستهداف أضراراً كبيرة بمبنى الكنيسة وتسبّب في مقتل 18 فرداً، من بينهم 10 أطفال.
بعد تصاعد الحرب، توغّلت القوات البرية الإسرائيلية أكثر في مواقع متاخمة للكنيستين. ومن أحد هذه المواقع استهدف قنّاصة إسرائيليون ساحة كنيسة "العائلة المقدسة" وأطلقوا النار عليها متسببين في مقتل امرأة وابنتها.
في اليوم نفسه، تعرّض دير الأم تيريزا للقصف 3 مرات فتدمّر بشكلٍ جعله غير صالح للسكن.
رغم هذه الاستهدافات المتتالية فإن الدول الأوروبية لم تظهر حماساً كبيراً لاستقبال مسيحيي غزة، بحسب سابا.
ويشرح الناشط الفلسطيني المسيحي أن الدول الأوروبية "رفضت السماح لنا بالهجرة، لكنها سمحت بإعطائهم (فيزا سياحية) يستطيع أي شخص فلسطيني أن يقدّم عليها إذا كان له قريب في الدولة التي يريد السفر إليها. هناك قرابة 200 مسيحي فلسطيني سافروا بهذه الطريقة".
ويؤكد عضو جمعية الشبان المسيحيين لـ"ارفع صوتك"، أن مَن خرجوا غالباً لن يعودوا لأنهم تركوا وراءهم منازل مدمرة وحرباً مستمرة ومستقبلاً مجهولاً.