مسيحيون فلسطينيون يحضرون قداس عيد الميلاد الأرثوذكسي في كنيسة القديس بورفيريوس في غزة في 7 يناير 2023.
مسيحيون فلسطينيون يحضرون قداس عيد الميلاد الأرثوذكسي في كنيسة القديس بورفيريوس في غزة في 7 يناير 2023.

لا يبدو مروان سابا، عضو مجلس إدارة "جمعية الشبان المسيحيين" في قطاع غزة، متفائلاً خلال  حديثه مع "ارفع صوتك" عن أحوال المسيحيين في غزة.

توقعات سابا ترجّح ألا يزيد عدد المسيحيين في غزة عن 200 شخص بعد انتهاء الحرب. والسبب، كما يشرح سابا، يتمثّل في "حجم المعاناة التي تكبّدها مسيحيو غزة خلال الحرب المشتعلة في القطاع منذ أكتوبر الماضي"، بين إسرائيل وعددٍ من الفصائل الفلسطينية المسلحة على رأسها حركة حماس.

بعد سنواتٍ من سيطرة "حماس"، ذات الخلفية الإسلامية، على غزة، تعرض القطاع إلى حصار اقتصادي طويل تخللته حروب ضارية لعبت دوراً أساسياً في تناقص أعداد المسيحيين حتى بلغ عددهم 1200 مواطن تقريباً بعدما كانوا 3500 لحظة انفراد حماس بحُكم القطاع، بحسب سابا.

تعيّن على هذا العدد القليل من مسيحيي القطاع خوض تجربة الحرب القاسية بعدما دُمرت كنائسهم وبيوتهم وشركاتهم وعاشوا في مراكز الإيواء، ما اضطرّ بعضهم إلى  الهرب إلى خارج القطاع.

 

تحت حُكم "حماس"

 

بحسب كتاب "قصة مدينة غزة" لهارون هاشم، دخلت المسيحية غزة منذ عهد الدولة الرومانية على يد فيليبس المبشّر تلميذ القديس بولس الرسول، وراحت تنتشر ببطء بين أغلبية أهل غزة الوثنيين حتى وقع الصدام بين الطرفين في منتصف القرن الرابع الميلادي على شكل اشتباكات دموية انتهت بمقتل وإصابة العشرات.

بعدها، تواصل انتشار المسيحية بين سكان غزة حتى أن بورفيروس أسقف غزة لم يتورع عن هدم معابد الوثنيين وبناء كنائس بدلاً منها وهو الوضع الذي استمرّ حتى استولى المسلمون على المنطقة وأنهوا حُكم المسيحيين لها إلى الأبد.

واجهت الطائفة المسيحية تحديًا ضخمًا في 2007 بعد سيطرة حماس المنفردة على غزة. في ذلك الوقت، وقعت اعتداءات على مؤسسات ومواطنين مسيحيين بشكلٍ لم تشهده فلسطين من قبل.

منها ما جرى في يونيو 2007 حين نُهب دير وكنيسة، ثم بعدها بأربعة أشهر قُتل مواطن مسيحي يعمل في جمعية الكتاب المقدس. وفي العام التالي، ألقيت عبوة متفجرة على مدرسة راهبات الوردية، ثم تعرضت جمعية الشبان المسيحين للاستهداف مرتين عامي 2008 و2010. وقد وثّقت الباحثة الفلسطينية نادية أبو زاهر هذه الأحداث في كتابها "دور النخبة السياسية الفلسطينية في تكوين رأس المال الاجتماعي".

تعرّض المسيحيون أيضا لضررٍ غير مباشر من سياسات حماس بعد تطبيق بعض قوانين "أسلمة المجتمع" مثل منع شُرب الخمور -غير المحرمة عند المسيحيين-، وإرغام النساء على ارتداء الحجاب بمن فيهن المسيحيات، ومنع النساء من ركوب الدراجات النارية والفصل بينهن وبين الرجال على شاطئ البحر، حسب نادية أبو زاهر.

خلال إعداد كتابها، التقت أبو زاهر بعددٍ كبيرٍ من القيادات المسيحية التي أكدت لها أنهم لا يعتبرون أنفسهم أقلية وإنما هم فلسطينيون قبل كل شيء، وأن مكانتهم في المجتمع يجب أن تكون على أساس مساهمتهم فيه.

وتعتبر أبو زاهر أن "حماس"، وعلى الرغم من التزامها في برامجها الانتخابية بضمان حقوق جميع المواطنين، فإن ممارساتها على الأرض ضد خصومها السياسيين مثل حركة فتح على سبيل المثال وضد غيرهم خلقت حالة من عدم الثقة عند المسيحيين تجاهها وأضرّت بالتماسك الاجتماعي للفلسطينيين في قطاع غزة.

 

ما قبل الحرب

 

تتمثّل أبرز المؤسسات المسيحية داخل القطاع في ثلاث كنائس: الأولى كنيسة الكاثوليك العائلة المقدسة في غزة الزيتون، والثانية كنيسة القديس برفيريوس في حي الزيتون للأرثوذكس ويؤمّها أغلبية مسيحيي القطاع الكاثوليك. أما الكنيسة الثالثة فهي كنيسة مدنية صغيرة داخل المستشفى المعمداني ولا يمارس فيها أي نشاط ديني أو طقوس للعبادة بسبب وجودها داخل المستشفى.

بخلاف هذه الكنائس الثلاثة، تنشط بعض المؤسسات الأهلية المسيحية على رأسها المركز العربي الأرثوذوكسي والذي انتهت للتو أعمال تطويره بما يقارب 7 ملايين دولار، و"جمعية الشبان المسيحيين" التي تنشط في القطاع منذ سنوات طويلة وتقيم فعاليات يستفيد منها الآلاف من أهل القطاع.

 

نزوح مبكر

 

بعد هجوم 7 أكتوبر، بدأ نزوح المسيحيين منذ اليوم الثالث لعمليات القصف خاصةً وأن أغلب العائلات المسيحية تقطن في حي الرمال وتل الهوى ومنطقة الجامعات التي استهدفتها الطائرات الإسرائيلية بعمليات قصف مكثفة تزامنت مع إلقاء منشورات تطالب الأهالي بإخلاء المنطقة.

وتكدّس معظم النازحين في الكنيستين الرئيسيتين في القطاع، فيما هرب الباقون إلى أماكن متفرقة بين دير البلح ورفح وخان يونس.

لم يقتصر دور المؤسسات المسيحية على إيواء المسيحيين فقط وإنما فتحت أبوابها للمسلمين أيضاً مثلما فعل المركز العربي الأرثوذكسي الذي استقبل قرابة 2500 لاجئ من حي الشجاعية. وكذلك استضافت مدرسة الروم الأرثوذكس في تل الهوى 800 نازح تقريباً.

بحسب سابا، فإن الكنيستين الكبيرتين في غزة استعدتا مبكراً لمثل هذه الأزمة بعدما أنفق قادتها أموالاً ضخمة لشراء كميات كبيرة من الإمدادات في وقتٍ سابق حتى يكونوا قادرين على إيواء النازحين في حال وقوع أي أزمة. وعلى الرغم من هذا الاستعداد، فإن استمرار الحرب أكثر من 150 يوماً وضع الكنيستين في مأزق بعدما بدأت مخازنهما في النفاد.

 

ثمن الحرب

 

تعرضت الكثير من المنشآت المسيحية إلى أضرارٍ جمّة: 50% من مبنى "جمعية الشباب المسيحيين" تضرر كثيراً. أما المركز العربي الأرثوذكسي الذي انتهت الكنيسة لتوها من تجديده فقد تدمّر بالكامل رغم أن عدداً كبيراً من اللاجئين كان قد احتمى بين جدرانه.

ويكشف سابا أن كنيسة القديس بيرفيروس الأرثوذكسية، وهي أقدم كنيسة في غزة، تعرضت لقصفٍ مستمر رغم لجوء 700 فردٍ إليها بينهم عائلتان مسلمتان.

وألحق هذا الاستهداف أضراراً كبيرة بمبنى الكنيسة وتسبّب في مقتل 18 فرداً، من بينهم 10 أطفال.

تاريخ بناء الكنيسة يعود إلى عام 425 ميلادية ـ صورة أرشيفية.
كنيسة القديس برفيريوس بغزة.. تاريخ ممتد لقرون وملاذ وقت الأزمات
بعد أن ظلت لسنين ملاذا آمنا يلجأ إليه الفارون من النزاعات ورمزا للتعايش بين الديانات، طالت آثار الحرب في غزة كنيسة القديس برفيريوس التي تعرضت، ليل الخميس ـ الجمعة، لضربة ألحقت أضرارا  ببنايتها وأسفرت عن سقوط قتلى وجرحى.

بعد تصاعد الحرب، توغّلت القوات البرية الإسرائيلية أكثر في مواقع متاخمة للكنيستين. ومن أحد هذه المواقع استهدف قنّاصة إسرائيليون ساحة كنيسة "العائلة المقدسة" وأطلقوا النار عليها متسببين في مقتل امرأة وابنتها.

في اليوم نفسه، تعرّض دير الأم تيريزا للقصف 3 مرات فتدمّر بشكلٍ جعله غير صالح للسكن.

رغم هذه الاستهدافات المتتالية فإن الدول الأوروبية لم تظهر حماساً كبيراً لاستقبال مسيحيي غزة، بحسب سابا.

ويشرح الناشط الفلسطيني المسيحي أن الدول الأوروبية "رفضت السماح لنا بالهجرة، لكنها سمحت بإعطائهم (فيزا سياحية) يستطيع أي شخص فلسطيني أن يقدّم عليها إذا كان له قريب في الدولة التي يريد السفر إليها. هناك قرابة 200 مسيحي فلسطيني سافروا بهذه الطريقة".

ويؤكد عضو جمعية الشبان المسيحيين لـ"ارفع صوتك"، أن مَن خرجوا غالباً لن يعودوا لأنهم تركوا وراءهم منازل مدمرة وحرباً مستمرة ومستقبلاً مجهولاً.

المزيد من المقالات

مواضيع ذات صلة:

المركز الاستراتيجي لحقوق الإنسان في العراق قدر أن المقابر الجماعية في البلاد تضم رفات 400 ألف شخص
المركز الاستراتيجي لحقوق الإنسان في العراق قدر أن المقابر الجماعية في البلاد تضم رفات 400 ألف شخص

يسابق الفريق الأممي المسؤول عن توثيق عمليات الإبادة الجماعية التي طالت الإيزيديين في العراق، الزمن من أجل استخراج رفات الضحايا من المقابر الجماعية التي لم تخضع للفحص حتى الآن، بعد قرار الحكومة العراقية القاضي بضرورة مغادرة الفريق منتصف الشهر الجاري.

منحت الحكومة العراقية فريق بعثة التحقيق التابع للأمم المتحدة لتعزيز المساءلة عن الجرائم المرتكبة من قبل داعش في العراق "يونيتاد" حتى الـ17 من سبتمبر لإنهاء التحقيق، وفقا لصحيفة "نيويورك تايمز".

وتضيف الصحيفة أن هذه القرار سيحد من تنظيم قضايا جنائية ضد عناصر داعش، على اعتبار أن هناك عشرات المقابر الجماعية التي لم يتم الانتهاء من فحصها وتحتوي على أدلة حاسمة ضد عناصر التنظيم المتورطين.

ويسعى العراق جاهدا لطي صفحة الفترة المروعة التي سيطر فيها تنظيم داعش على مساحات واسعة من أراضيه، حيث يتجه بسرعة نحو إغلاق المخيمات التي تأوي الإيزيديين النازحين وتنفيذ أحكام الإعدام بحق مرتكبي جرائم داعش وإنهاء مهمة "يونيتاد".

لكن بالنسبة لعائلات ما يقرب من 2700 إيزيدي مفقود، فإن هذا القرار مفجع، لإن أي عظم يكتشف يمكن أن يساعد في حل لغز مصير أحبائهم الذين اختفوا خلال سيطرة تنظيم داعش على أجزاء واسعة من العراق في عام 2014.

تقول شيرين خُديدة، وهي امرأة إيزيدية أُسرت هي وعائلتها على يد داعش في عام 2014: "أنتظر بقايا عائلتي، وأعتقد أنهم هناك".

كشف تحرير المناطق التي كانت تحت سيطرة داعش في عام 2017 عن فظائع لم تكن معروفة من قبل.

وبعد فترة وجيزة، وبطلب من الحكومة العراقية، انشأت الأمم المتحدة فريقا من المحققين لتوثيق وجمع الأدلة المتعلقة بتلك الجرائم حتى تتمكن المحاكم حول العالم من محاكمة المتورطين.

لكن، في سبتمبر 2023، أبلغت السلطات العراقية محققي الأمم المتحدة أن أمامهم عاما واحدا فقط لإنهاء المهمة.

وتعد حفرة "علو عنتر" قرب تلعفر شمالي العراق، حيث ألقى داعش مئات الجثث، واحدة من 68 مقبرة جماعية ساعد فريق "يونيتاد" في التنقيب عنها، وربما يكون الأخير،، بحسب الصحيفة.

اعتبارا من يوليو، حددت السلطات العراقية 93 مقبرة جماعية يعتقد أنها تحتوي على رفات ضحايا إيزيديين، لا تزال 32 منها لم تفتح بعد في منطقتي سنجار والبعاج.

ومن بين آلاف الإيزيديين الذين لم يتم العثور عليهم، تم استخراج رفات أقل من 700 شخص، ولكن تم تحديد هوية 243 جثة فقط وإعادتها إلى عائلاتهم.

يقول رئيس وحدة العلوم الجنائية في يونيتاد آلان روبنسون إن "العمل في علو عنتر صعبا ومعقدا، لكن النتائج التي توصلنا إليها كانت مهمة".

ويضيف روبنسون أن بعض الرفات تم دفنها في أكياس للجثث، وكانت الجثث داخلها مرتدية بدلات برتقالية شوهدت في مقاطع فيديو دعائية لداعش".

كذلك وجدت رفات أخرى وبجانبها فرش الأسنان وأدوية لعلاج ضغط الدم يعتقد أن الضحايا أخذوها معهم أثناء هروبهم.

وتشير الصحيفة إلى أن العديد من الضحايا كانت أيديهم مقيدة خلف ظهورهم، والبعض الآخر كان معصوب العينين، فيما أظهرت النتائج الأولية أن البعض تعرض لإطلاق نار، بينما يبدو أن آخرين ماتوا بعد دفعهم في الحفرة.

ويلفت روبنسون إلى أن الظروف البيئية المعقدة في العراق جعلت بعض الجثث تكون أشبه بالمحنطة بدلا من أن تتحلل مما تسبب بانبعاث روائح كريهة للغاية منها.

ويتابع روبنسون: "بعد مرور ما بين سبع وعشر سنوات على وفاتهم، الرائحة لا تزال قوية، لذا يمكنك أن تتخيل كيف كانت الرائحة بعد وقت قريب من حصول الوفاة".

وفقا للصحيفة فإن قرار الحكومة العراقية بإنهاء مهمة "يونيتاد" يعد جزءا مساعيها لتأكيد سيادتها الوطنية في وقت لا تزال فيه القوات الأميركية متمركزة في البلاد والعديد من السياسيين العراقيين متحالفين بشكل وثيق مع إيران، وهي خصم للولايات المتحدة.

وتنقل الصحيفة عن الباحثة العراقية في منظمة هيومن رايتس ووتش سارة صنبر القول إن إنهاء اعتماد العراق على مؤسسات الأمم المتحدة قد يكون جزءا من محاولات البلاد لتغيير صورتها.

في مايو، دعت بغداد إلى إنهاء بعثة الأمم المتحدة لمساعدة العراق، التي أُنشئت بعد الغزو الأميركي في عام 2003 للمساعدة في تطوير مؤسسات الحكومة وإجراء الانتخابات وحماية حقوق الإنسان. ومن المقرر أن تنتهي هذه المهمة بحلول ديسمبر 2025.

وتضيف صنبر أن "العراق يريد أن يصور نفسه كدولة ذات سيادة ما بعد الصراع"، وبعض الفصائل الداخلية ترى في وجود الأمم المتحدة "تدخلا دوليا غير مبرر في الشؤون العراقية."

وتشير صنبر إلى أن تحفظات الحكومة العراقية على عمل يونيتاد يتعلق بالأساس في أن المؤسسة الأممية رفضت تسليم الأدلة التي جمعتها إلى السلطات العراقية، رغم أنها كانت تشاركها مع دول أخرى تحاكم مقاتلي داعش.

وتفضل الأمم المتحدة، التي تعارض عقوبة الإعدام، أن يجري محاكمة عناصر داعش المتورطين دون احتمال فرض عقوبة الإعدام، لكن العراق قد حكم بالإعدام بالفعل على أعضاء داعش المدانين.

وفي رد على سؤال بشأن الخلاف المتعلق بمشاركة الأدلة وعقوبة الإعدام، قال مسؤولو يونيتاد في بيان أرسل للصحيفة إن المنظمة شاركت بعض الأدلة مع السلطات العراقية.

وأضاف مسؤولو يونيتاد أن السلطات العراقية أعربت عن استعدادها لمواصلة التنقيب عن المقابر الجماعية بعد مغادرة الفريق، رغم أنه لم يكن واضحا على الفور ما إذا كانت ستتمكن من توفير الموارد اللازمة للقيام بذلك.

وعزا محما خليل، وهو إيزيدي وعضو في البرلمان العراقي، قرار الحكومة بإنهاء تفويض يونيتاد إلى "التوتر في العلاقة بين العراق والأمم المتحدة وأيضا إلى وجود ضغوط خارجية" من دول أخرى على رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني.

رفض خليل الإفصاح عن الدول التي يعتقد أنها تمارس تلك الضغوط، لكن الحكومة العراقية لها علاقات سياسية وعسكرية مع إيران، وفقا للصحيفة.

وتعتبر قضية المقابر الجماعية في العراق من أبرز الملفات الشائكة التي عملت الحكومات العراقية على معالجتها بالتعاون مع الأمم المتحدة.

وقدر "المركز الاستراتيجي لحقوق الإنسان في العراق" أن المقابر الجماعية في البلاد تضم رفات 400 ألف شخص. ووفق منظمة هيومن رايتس ووتش، فإن لدى العراق واحدا من أكبر أعداد المفقودين في العالم، ويقدر عددهم بين 250 ألف ومليون شخص، يُعتقد أن الكثير منهم دُفن في مقابر جماعية.