يشيع في الدول العربية استخدام تسمية "النصارى" للإشارة إلى المسيحيين، وهذا مردّه إلى أن القرآن يسمّي أتباع عيسى بن مريم بـ"النصارى"، لا بـ"المسيحيين".
وانسحب هذا على العديد من الكتّاب والمؤرخين، فضلاً عن الاستخدامات اليومية في الشارع العربي.
وقد أثار هذا الإسخدام جدلاً تاريخياً حول التمييز بين المسيحيين والنصارى، بلغ ذروته في ستينات القرن الماضي، خصوصاً أن معظم مسيحيي الشرق لا يسمّون أنفسهم بهذه التسمية، ولا يعتبرونها مرادفاً لـ"المسيحية" حتى.
الجدل عاد حول هذه التسمية في فترة سيطرة تنظيم "داعش" على مناطق واسعة من العراق، وخصوصاً الموصل التي تعيش فيها طائفة مهمة من المسيحيين، الذين جرى تهجيرهم من قبل التنظيم الإرهابي، وقام عناصره بكتابة حرف "ن" كبير على بيوتهم للدلالة إليهم، والنون هنا تعود إلى النصارى.
الباحث السوري المتخصص في الحوار الإسلامي المسيحي روجيه أصفر يقول لـ"ارفع صوتك" إن تسمية المجموعات أو الطوائف أو الأشخاص يجب أن تؤخذ من مصادرها، أي يجب أن نسأل المسيحيين بماذا يفضلون أن ينادون.
أصفر يقترح أن نقلب الأدوار: هل يسمح المسلمون لباقي المكونات أن يطلقوا عليهم اسماً مختلفاً عن مسمى "المسلمين"؟ ويتابع: "يجب أن نحترم الاسم التي تختار أي جماعة أن تطلقه على نفسها".
لكن أصفر يتفهم أن بعض المسلمين يستندون في هذا الخصوص إلى كتابهم المقدّس وهو القرآن، ويشعرون بالتالي بحرية تسمية المسيحيين كما أسماهم القرآن (النصارى)، وبعضهم، بحسب أصفر، "سيظلّ متمسكاً بهذه التسمية كونها صادرة عن كتاب منزل".
وبمعزل عن الجوانب الإيمانية، يشير أصفر إلى وجود لغط تاريخي في التسمية، وأن هذا اللغط أوضحته الأبحاث التي قام بها مؤرخون مسيحيون ومسلمون.
في العام 1972 نشرت مجلة "المسرّة" في عددها 572 بحثاً يحاول الإجابة عن سؤال "هل المسيحيون نصارى؟"، وحاولت تحليل فقرات من مقالات كتبها كتّاب مسيحيون ومسلمون في السنوات الممتدة بين 1953 و1973، بينهم الأب جورج فاخوي والمفكر المصري طه حسين، وخلصت المجلة إلى أن معظم الكتابات قبل العام 1965 كانت تخلط بين المفهومين ولا تميز بين المسيحيين والنصارى.
وفي العام 1965 يبدأ التمييز بين مفهوميّ "النصرانية" و"المسيحية"، كما تلاحظ المجلة، وذلك في مقال للأب يوسف درّة حدّاد تحت عنوان "النصارى في القرآن: أصلهم وحقيقتهم".
يكتب حدّاد في مقاله: "في القرآن ظاهرة متواترة مغزاها كبير: أنه على الدوام يسمي أتباع عيسى بن مريم بـ"النصارى" لا بـ"المسيحيين" كما كانوا معروفين في عهده، في جميع الأقطار المسكونة، مع أنه يسمي ابن مريم الذي إليه ينتمون "المسيح عيسى ابن مريم"، أو "المسيح ابن مريم"، أو "المسيح" بدون قيد...".
ويشير الحدّاد إلى أن القرآن يعرّف عن "النصارى" على أنهم "فئة" أو "طائفة"، ويعتبرهم من "بني إسرائيل الذين آمنوا بالمسيح"، فيقول في سورة "الصف"(الآية 14): "يا أيها الذين آمنوا كونوا أنصار الله كما قال عيسى ابن مريم للحواريين: من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله فآمنت طائفة من بني إسرائيل وكفرت طائفة. فأيّدنا الذين آمنوا على عدوهم فأصبحوا ظاهرين".
وفي مقال آخر للأب حدّاد، تستشهد به المجلة، يقول إن النصارى لدى المسيحيين هم بمثابة "الشيعة" لدى المسلمين: "وهكذا أفضى الصراع في سبيل تحرير المسيحية من سلاسل الموسوية (نسبة إلى النبي موسى) إلى انقسامها قسمين: "سنة وشيعة": سنة "المسيحيين" وهم الوثنيون الذين اهتدوا إلى الإنجيل، والهلنيون الملقّبون بـ"اليونانيين"، ينضمون إلى الإنجيل والإيمان المسيحي ويسيرون بموجب سنّة الرسل التي قرّروها في مجمع أورشليم، وذلك بدون أي ارتباط بشريعة موسى". أما شيعة "النصارى"، فهم، بحسب حدّاد، "اليهود المتنصرون في فلسطين"، وهؤلاء "يحفظون الإيمان المسيحي متزاوجاً مع شريعة موسى وأحكامها من ختان وسبت وقبلة في الصلاة إلى أورشليم، ويتشيّعون لآل البيت، أي أقرباء السيد المسيح".
وبحسب حدّاد، "انكمشت شيعة النصارى في العام 135 ميلادي، وانعزلوا عن العالم المسيحي الأكبر بعزلتهم في مهاجرهم في شرق الأردن وسوريا والعراق والمشرق ومصر والجزيرة العربية، إلى أن جاء الإسلام، و"توارت شيعة النصارى من الوجود".
وفي مقال ثالث يصف حدّاد النصارى بأنهم "أمة وسط بين اليهودي والمسيحية".
أستاذة علم الأديان سماح حمزة، تقول في مقابلة سابقة مع قناة "الحرة"، إن "النصارى فرق شتّى، وما يجمع بينهم أن أصولهم عبرانية، وجمعوا بين التدين بشريعة موسى والمسيحية، فكانوا يبقون على شرائع يهودية مثل الختان وتقديس السبت ويعترفون بالناموس الموسوي، ويؤمنون في الوقت نفسه بالمسيح".
بمعنى آخر، يمكن القول، بحسب سماح حمزة، عن النصارى أنهم يؤمنون بنوع من "اليهودية المسيحية"، ولكن المشكلة التي عانى منها النصارى، كما تشرح حمزة، أن اليهود لم يعترفوا بهم وأقصاهم المعبد، والمسيحية الأممية البولسية لم تعترف بهم، فجرى إقصاؤهم واعتبروا هراطقة.
أما عن سبب عدم استخدام تسمية "المسيحيين" في القرآن، فتفسّر حمزة الأمر، بأن "المسيحية في كنيسة البداية انشقت إلى شقين: كنيسة أورشليم التي ترأسها يعقوب البار، وكانت كنيسة عبرانية وسميت بكنيسة الختان لأنها تتبنى الختان وسمى أتباع هذه الكنيسة أنفسهم بالنصارى نسبة إلى يسوع الناصري، في مقابل الكنيسة البولسية التي أسسها بولس وضمت معظم الأمم حينذاك، ولذلك سميت بالكنيسة الأممية، وأتباع هذه الكنيسة سموّا بالمسيحيين".
الفرقة التي قصدها القرآن وسماها النصارى هي بحسب حمزة، "الأبيونية" وكانت موجودة في شبه الجزيرة العربية، في مكة واليمن، ولم تكن بدورها متجانسة إذ كانت جزءاً من جماعات "مسيهودية"(الجمع بين المسيحية واليهودية) منتشرة في الجزيرة العربية في ذلك الوقت. والقرآن كان يعني هذه الفئة الصغيرة الأبيونية وليس غيرها. والمشكلة حصلت في الردود التي كتبها مسلمون على النصارى، وشملوا فيها جميع المسيحيين. فيما تشير حمزة إلى أن "الفرق المسيحية التي انتشرت في بلاد الشام والعراق ومصر بعد الفتوحات الإسلامية، كانت بولسية وغير نصرانية، وأصولها ليست عبرانية".