وافقت الجمعية الوطنية الفرنسية على مشروع قانون يطالب الحكومة باعتبار المذابح التي ارتكبتها الدولة العثمانية بين عامي 1915 و1918م ضد الآشوريين الكلدانيين إبادة جماعية. من هم الآشوريون؟ وما هي المذابح العثمانية التي وقعت ضدهم؟ وما هي الرواية التركية عن تلك المذابح؟
من هم الآشوريون؟
يُعرَف الآشوريون باعتبارهم إحدى الأقليات العرقية المتواجدة في منطقة الشرق الأوسط، والتي يعيش أبناؤها في شكل جماعات متناثرة في دول تركيا والعراق وسوريا ولبنان وإيران، فيما يجمع بينهم الحديث باللغة الآرامية، واعتناق الدين المسيحي.
ارتبط الآشوريون بالدين المسيحي منذ فترة مبكرة. ففي القرن الخامس الميلادي تم تأسيس كنيسة المشرق، ولاقت انتشاراً كبيراً في الأوساط الآشورية، حتى عُرفت باسم الكنيسة الآشورية.
تأثرت تلك الكنيسة بأفكار وآراء نسطوريوس، بطريرك القسطنطينية فيما يخص طبيعة المسيح. وظلت -أي الكنيسة- موحدة في ظل تلك الأفكار حتى القرن السادس عشر الميلادي.
وفي سنة 1552م، قدم رسل الفاتيكان لنشر الكاثوليكية في العراق، ونجحوا في نشر مذهبهم فيما يدعى اليوم بسهل نينوى، فيما حالت صعوبة المواصلات في تلك الفترة دون نشر أفكارهم في المناطق الجبلية الوعرة.
تسبب ذلك في اعتناق أهل السهول للكاثوليكية، وعرفوا باسم الكلدان/ البابليين، فيما بقي أهل الجبال على مذهبهم القديم، وعُرفوا باسم الآشوريين، وبقيت كنيستهم ذات حضور قوي في كل من إيران والعراق والهند وبعض دول المهجر.
سيفو والمذابح العثمانية
يُطلق اسم المذابح الآشورية على سلسلة من العمليات الحربية التي شنتها قوات نظامية للدولة العثمانية بمساعدة بعض المليشيات الكردية المسلحة أثناء الحرب العالمية الأولى. عُرفت تلك المذابح باسم "سيفو"، وهي لفظة سريانية تعني السيف.
يذكر المؤرخون أن أعداد الآشوريين في تلك الفترة وصلت لمليون نسمة، وأنهم امتدوا في المنطقة الواقعة بين أورميا -في إيران الحالية- شرقاً إلى ماردين -في تركيا الحالية- غرباً، وكانوا يمثلون إحدى الأقليات المسيحية المهمة في الإمبراطورية العثمانية.
في سنة 1895م، بدأ الاستهداف العثماني للآشوريين فيما عُرف باسم "المجازر الحميدية".
في تلك المجازر، قُتل مئات الآلاف من الأرمن والآشوريين في مدن جنوب تركيا وخاصة في أدنة وآمد. ومع اندلاع أحداث الحرب العالمية الأولى في سنة 1914م، تجدد الاستهداف العثماني للآشوريين مرة أخرى بسبب تخوف الدولة العثمانية من انضمام الآشوريين للقوات الروسية.
في كتابه "مأساة الآشوريين"، تحدث الكولونيل، رونالد سيمبير ستافورد، المفتش الإداري البريطاني للواء الموصل، عن تفاصيل تلك الفترة التاريخية الحرجة، ذاكرا أن العثمانيين تواصلوا مع مار شمعون، بطريرك كنيسة المشرق الآشورية، وطلبوا منه عدم الانضمام إلى روسيا في الحرب ضد العثمانيين، وقد وافق البطريرك على هذا الطلب، وأرسل إلى رعاياه ليأمرهم بالخضوع للحكام المحليين.
ولكن لم تمر شهور معدودة، حتى فوجئ الآشوريون باستهدافهم من قِبل كل من القوات العثمانية النظامية، والمليشيات الكردية التي اعتقدت أن الآشوريين منافسون لهم في مناطق تواجدهم.
أمام تلك التطورات، بدأ الآشوريون حربهم ضد الدولة العثمانية في مايو 1915م، وقد حاول العثمانيون الضغط على مار شمعون لكبح جماح الآشوريين عن طريق القبض على أخيه الذي كان يدرس في إسطنبول في هذا الوقت.
ولمّا رفض البطريرك العرض العثماني تم إعدام شقيق البطريرك، ليعلن مار شمعون عندها الحرب بشكل رسمي.
يسلط الباحث عبد المسيح نعمان قره باشي الضوء على الأحداث التي وقعت في تلك الفترة في كتابه "الدم المسفوك، قائلا إن العثمانيين برروا قرارهم باستهداف الآشوريين والأرمن بأسباب كثيرة أهمها أن المسيحيين مسلحون ويقتنون سلاحاً في بيوتهم وسوف يقاومون الإمبراطورية العثمانية لمساعدة أعدائها من الإنجليز والفرنسيين.
في هذا السياق، "أرسل العثمانيون قصاداً ينادون في الأسواق قائلين: على كل مسيحي أن يسلم أي نوع من السلاح يملكه، وبدأوا يدخلون البيوت كأنهم يبحثون عن السلاح. واستغلوا الفرصة وبدأوا ينهبون ويسرقون كل ما تقع عيونهم عليه.. وهكذا كانوا يجمعون الشباب والرجال من العشرين سنة إلى الخامسة والأربعين ويقودونهم إلى ساحة الحرب مشاة ودون زوادة أو طعام والشيوخ يسوقونهم إلى السجون والنساء والفتيات الجميلات يراودونهن على أنفسهم ليتزوجوهن، واللواتي رفضن ولم يقبلن ذلك وما أكثرهن. كانوا يقتلونهن بأبشع أنواع العذاب والعهر وبصورة تستنكرها ضواري الغابات ووحوش البرية...".
بشكل عام، تعرض الآشوريون للقتل والتهجير في نواحي متفرقة من حكاري، وديار بكر، وماردين، ونصيبين، والجزيرة الفراتية. فعلى سبيل المثال، يذكر أر. أس. ستافورد في كتابه إن المعاناة الآشورية تفاقمت كثيراً في حكاري -الواقعة في جنوبي تركيا- بعد تأخر المساعدات الروسية التي وعدوا بها.
"كل ما أرسله الروس كان أربعمائة من القوزاق، الذين تعرضوا لكمين غدر وأبادهم الأكراد". في تلك الظروف الصعبة، اضطر الآشوريون لترك قراهم وصعدوا إلى قمم الجبال هرباً من ملاحقة القوات العثمانية، ولكن العثمانيين انتظروا حلول فصل الشتاء، وعرفوا أن الثلوج ستجبر الآشوريين على النزول إلى الوديان. أمام ذلك التحدي قاد البطريرك مار شمعون عشرات الآلاف من أتباعه لرحلة طويلة إلى أروميا. في تلك الرحلة، هلك المئات من الأشوريين كما أن العديد منهم لقي حتفه على يد العثمانيين المترصدين لهم.
لم تنته مأساة الآشوريين رغم انتهاء الحرب العالمية الأولى في سنة 1918م،فقد عانوا من استهداف الحكومات المتعاقبة على حكم دول المنطقة.، منها على سبيل المثال الحادثة التي وقعت سنة 1933م عندما وجه رئيس الوزراء العراقي رشيد عالي الكيلاني بعض فرق الجيش لتدمير العشرات من القرى الآشورية المسيحية في الموصل، وذلك على إثر مطالبة الآشوريين بالحكم الذاتي لمناطقهم، فيما عُرف باسم "مذبحة سميل"، وذلك بحسب ما يذكر الكاتب محمد عادل داود في كتابه "تاريخ الدماء".
كذلك، عانى الآشوريون كثيراً في الفترة من 2014- 2017م، وذلك بالتزامن مع سيطرة تنظيم داعش على المناطق الشمالية والغربية من العراق.
تعرض المسيحيون القاطنون في تلك المناطق للعديد من المخاطر، وتم تدمير العشرات من الكنائس والأديرة، كما هُجرت المئات من العائلات المسيحية. وبحسب بعض التقارير لم يبقَ في العراق اليوم سوى 400 ألف مسيحي من أصل 1.5 مليون مسيحي تواجدوا في العراق في سنة 2003م.
بين الاعتراف والإنكار
تتباين المواقف الدولية فيما يخص تقييم الأحداث الدامية التي تعرض لها الآشوريون في بدايات القرن العشرين.
من جهتهم، اعتاد الآشوريون استعادة ذكرى الإبادة الجماعية التي تعرض لها أجدادهم في يوم السابع من شهر أغسطس من كل عام.
على الصعيد الدولي، لم تحظ وقائع تلك المذبحة باهتمام كبير في العقود السابقة، ولكن تغير الوضع -إلى حد ما- في السنوات الأخيرة.
ففي سنة 2007م أصدر المؤتمر الدولي لدارسي الإبادات، وثيقة صوّت عليها بالإجماع تدعو إلى الاعتراف بالمجازر الآشورية، وبعد عام واحد، قرر البرلمان السويدي الاعتراف بالمجازر ضد الآشوريين باعتبارها جرائم إبادة.
وفي أكتوبر 2019، اعترف مجلس النواب الأميركي بالمذابح الجماعية التي ارتكبت بحق الأرمن والسريان الآشوريين من قِبل سلطات الدولة العثمانية إبان الحرب العالمية الأولى.
بعد ذلك، أعلنت عدة دول اعترافها بالمذبحة، ومن بينها هولندا، وجمهورية التشيك، وتشيلي.
من جهتها، ترفض تركيا الاعتراف بتلك المذابح، وتفسر ما وقع باعتباره حرباً بين القوات العثمانية والمليشيات الآشورية التي اختارت أن تنضم للعدو الروسي.
وتروج تركيا للفكرة القائلة بأن العثمانيين في تلك الفترة لم يمارسوا سيطرة كافية على أراضيهم لمنع حدوث المذابح، سواء أكانت مذابح الأرمن أم المذابح الآشورية.
لم تكتف أنقرة بإنكار المذابح بشكل رسمي، بل أقرت المادة 301 من قانون العقوبات التركي، والتي نصت على أن "أي شخص يهين علانية الهوية التركية أو الجمهورية أو الجمعية الوطنية التركية الكبرى، يُحكم عليه بالسجن من سنة إلى ثلاث سنوات"، بموجب تلك المادة يتم إدانة أي شخص يعترف بحدوث مذابح في الدولة العثمانية.
وقد جدد الأتراك إنكارهم المذابح الآشورية في الأيام الأخيرة بالتزامن مع صدور قرار الجمعية الوطنية الفرنسية بشأن الاعتراف بالإبادة الآشورية.
وأصدرت وزارة الخارجية التركية بيانا صحفيا حول ذلك القرار. ووصفته بأنه "لاغٍ وباطل". وذكر البيان "إن إدراج الاتهامات -الخاصة بالمذبحة- التي لا أساس لها من الصحة على جدول أعمال الجمعية الوطنية من قِبل نواب الحزب الحاكم هو مثال على الجهود المبذولة لتشويه الأحداث التاريخية من أجل مصالح سياسية".
وأضاف البيان بأن البرلمانات "لا تتمتع بسلطة تفسير التاريخ وإصدار الحكم عليه".