في بدايات القرن العشرين تعرض الأرمن للإبادة الجماعية والتهجير من مناطقهم، على يد الدولة العثمانية، ما أدى لتشتت عشرات الآلاف في مختلف أنحاء العالم بينها المنطقة العربية.
فما هي أبرز الدول التي استقروّا فيها؟ وكيف بدت حياتهم الجديدة هناك؟ هل تمكنوا من الاندماج في المجتمعات العربية والإسلامية؟ كل ذلك نحاول الإجابة عنه في هذا التقرير.
تهجير قسري
فرضت الأوضاع الجغرافية على أرمينيا الوقوع بين قوتين عظميين، ما تسبب في تعرض مواطنيها للاستهداف مدة طويلة.
ففي القرن الخامس الميلادي، دارت الحروب على أرض أرمينيا بين الدولة الفارسية الساسانية والدولة البيزنطية، وتبادل الطرفان السيطرة على تلك الأرض لعقود متوالية.
في القرن السابع عشر الميلادي، تكرر الأمر بسبب وقوع أرمينيا بين الدولة الصفوية التي تحكم الهضبة الإيرانية من جهة والدولة العثمانية التي تحكم الأناضول وآسيا الصغرى من جهة أخرى.
وبحسب ما يذكر الباحث نيكولاي هوفهانيسيان في دراسته "العلاقات التاريخية الأرمنية - العربية"، فإن الصراع بين القوتين على أرمينيا لم ينته إلا عام 1639، حيث وقع الصفويون والعثمانيون اتفاقاً في قصر شيرين لتقسيم أرمينيا.
بموجب هذا الاتفاق، ضُمت أرمينيا الشرقية إلى فارس بينما أُلحقت أرمينيا الغربية بالإمبراطورية العثمانية.
ظلت الأوضاع داخل أرمينيا هادئة نوعاً ما حتى ثمانينيات القرن التاسع عشر الميلادي. في تلك الفترة، بدأ الأرمن بالمطالبة بالحصول على الحكم الذاتي، ودخلوا في صدام مع الدولة العثمانية.
في أبريل 1915 بالتزامن مع اندلاع الحرب العالمية الأولى، اشتعلت الأوضاع في أرمينيا عندما اتهم العثمانيون الأرمن بالعمالة للقوى الغربية المعادية لهم.
على إثر ذلك، صدرت الأوامر للفيالق العثمانية بالقضاء على المعارضة الأرمنية، وفي ظل تلك الأجواء تعرض مئات الآلاف من الأرمن للقتل والتهجير القسري والاغتصاب، وعُرفت تلك الأحداث الدموية بالمذابح الأرمنية.
وتقول التقديرات إن أكثر من مليون أرمني قتلوا خلال تلك الأحداث، بينما اُضطر الآلاف لترك وطنهم والنزوح إلى بلاد جديدة. وكانت البلاد القريبة جغرافياً من أرمينيا في طليعة دول الشتات الأرمني، ومن بينها الدول العربية.
العراق
في القرن السابع عشر الميلادي، وبعد احتلال أرمينيا من قِبل الفرس، أتى الشاه عباس بالآلاف من الأرمن وأسكنهم في منطقة جلفا الجديدة بأصفهان.
بعد موت الشاه، هاجر قسم كبير من هؤلاء الأرمن إلى العراق واستقروا في البصرة، ليشكلوا النواة الأولى للأرمن في بلاد الرافدين.
في 1638، اقتحم العثمانيون بغداد وبعدها وهب السلطان مراد الرابع قائد المدفعية الأرميني كيورك نزريتان قطعة من الأرض داخل العاصمة العراقية. على تلك الأرض، بُنيت كنيسة مريم العذراء للأرمن الأرثوذكس التي تقع في محلة "كوك نزر" بمنطقة الميدان وسط العاصمة بغداد.
في بدايات القرن العشرين، وبالتزامن مع وقوع المذابح العثمانية في الحرب العالمية الأولى، هاجر عشرات الآلاف من الأرمن إلى العراق وتوزعوا على ثلاث مناطق رئيسة: بعقوبة في محافظة ديالى، وأجزاء من محافظتي نينوى وكركوك، بواقع 100 ألف نسمة.
عمل الكثير من الأرمن، الذين استقرّوا في العراق، في مجال التجارة والحرف اليدوية، وتمكنوا من الاندماج في مجتمعاتهم إلى حد بعيد، كما تميّزوا بحرفهم وصناعاتهم، إضافة لبزوغ أسماء أرمنية في مجالات عديدة، كالدكتور هاكوب جوبانيان أحد مؤسسي كلية الطب في العراق الذي حصل على وسام الرافدين من الدرجة الثانية عام 1954، وأمري سليم لوسينيان، المصور الصحافي الشهير الذي صور ملوك وزعماء العراق، والمهندس المعماري مارديروس كافوكجيان، الذي وضع المخططات الهندسية لضواحي الموصل وأربيل.
إضافة إلى هؤلا، بزغ ممثلون أرمن مثل سيتا هاكوبيان، وآزادوهي صاموئيل، وبياتريس أوهانسيان، والكاتب يعقوب سركيس.
حالياً، تقدر أعداد الأرمن العراقيين بحوالي 20 ألف نسمة، تعيش أغلبيتهم في بغداد، فيما تتوزع البقية بين نواحي البصرة والموصل وكركوك وزاخو وأربيل والسليمانية.
سياسياً، اعترف الدستور العراقي بالأقلية الأرمنية. ونصت المادة الرابعة منه على ضمان حق العراقيين الأرمنيين بتعليم أبنائهم باللغة الأرمنية في المؤسسات التعليمية الحكومية.
رغم ذلك، يعاني الأرمن من ضعف التمثيل النيابي. وحالياً، يقتصر وجودهم مقعد واحد في برلمان إقليم كردستان، ويغيبون تماماً عن مجلس النواب العراقي في بغداد.
خلال سنوات احتلال تنظيم داعش لمناطق عراقية، تعرض الأرمن للاضهاد باعتبارهم من الأقلية المسيحية، ودمر التنظيم الإرهابي كنائس خاصة بهم في الموصل.
سوريا
كانت سوريا إحدى الوجهات الرئيسة للأرمن الذين فروا من المذابح العثمانية. ووفق التقرير الصادر عن الاتحاد الخيري العام الأرمني (AGBU)، فإن الأرمن الذين وصلوا سوريا استقروا بشكل رئيس في حلب ودمشق والمحافظات الشمالية مثل الحسكة والرقة واللاذقية.
في عام 1924 حصلوا على الجنسية السورية، الأمر الذي يسّر لهم عملية الاندماج. وفي السنوات اللاحقة، تمتع الأرمن بتمثيل شبه ثابت في البرلمان السوري.
لا يوجد إحصاء دقيق لعدد الأرمن اليوم في سوريا، إلا أن مصادر عديدة أرمنية وإعلامية رجحت أنه لا يتجاوز 12 ألفاً في مناطق سيطرة النظام السوري، بعد أن كان عددهم نحو مئة ألف قبل اندلاع الحرب الأهلية في البلاد.
تأثر الأرمن كثيراً بأحداث الاقتتال الداخلي التي مرت بها سوريا، وتعرضوا للاستهداف من قِبل بعض التيارات الإسلامية المتشددة، ما تسبب في هجرة قسم كبير منهم خارج الأراضي السورية.
في سبتمبر 2014، فجر تنظيم داعش كنيسة "شهداء الأرمن" التاريخية في حي الرشدية بمدينة دير الزور. وفي نوفمبر 2019 أعلن التنظيم مسؤوليته عن اغتيال راعي كنيسة الأرمن الكاثوليك ووالده في القامشلي.
من جهة أخرى، تلقى الأرمن تطمينات متكررة من قِبل النظام. ففي مايو 2019 دعا بشار الأسد الأرمن السوريين الذين هاجروا بسبب ظروف الحرب إلى العودة في أقرب وقت ممكن، لاستعادة منازلهم ووظائفهم، مؤكداً أن "المجتمع الأرمني سيتمتع بدعم ثابت من الدولة"، لكن هذه الدعوات لم تلق استجابة، بحسب تقارير صحافية.
أعاد الأسد الكرّة في فبراير 2023، مشدداً أن السوريين الأرمن "جزء عضوي من الهوية السورية والنسيج المجتمعي".
مصر
بدأت علاقة الأرمن بمصر منذ قرون طويلة، إذ لا يقتصر على فترة ما بعد تهجيرهم على يد العثمانيين.
في القرن الحادي عشر الميلادي اعتلى قائد الجيوش الأرمني بدر الدين الجمالي كرسي الوزارة في مصر، وأسهم بحظ وافر في إصلاح الأحوال الداخلية في الدولة الفاطمية، بعد أن تعرضت لمحنة شديدة بسبب الأزمة المعروفة باسم "الشدة المستنصرية".
وفي سبعينيات القرن التاسع عشر الميلادي، عرفت مصر أرمنيا آخر، هو نوبار باشا الذي تولى رئاسة الوزراء في عهد الخديوي إسماعيل باشا.
في سنة 1906، تأسس الاتحاد العام الأرمني الخيري في القاهرة. وفي العقد الثاني من القرن العشرين، زادت الهجرات الأرمنية إلى مصر بالتزامن مع حملات الإبادة العثمانية.
في تلك الفترة، سافر الآلاف من الأرمن بحراً إلى النواحي الشمالية من مصر وعاشوا في مخيمات بالإسكندرية وبورسعيد. بعد فترة قصيرة، انتقلوا للعديد من مدن الدلتا والصعيد، كما انتقل الكثير منهم للعيش في القاهرة.
في ستينيات القرن العشرين زاد عدد الأرمن في مصر بشكل كبير ليصل إلى قرابة 60 ألفاً. عمل الكثير منهم في مجالات الفن والتجارة وصناعة السينما.
تحدث عنهم أحمد أمين في كتابه "قاموس العادات والتقاليد والتعابير المصرية" فوصفهم بقوله "اشتهروا بجودة الصنعة وإتقانها، والمهارة في التجارة، وعدم المبالاة بالغربة. ولذلك نجحوا حيث لم ينجح غيرهم، وكسبوا من الأموال ما تضخّمت به ثرواتهم. وإذا سابقوا الوطني في التجارة والصناعة، سبقوه".
تسببت سياسات التأميم في عهد الرئيس الأسبق جمال عبد الناصر في دفع الكثير من الأرمنيين للسفر وترك مصر، فرحل الآلاف منهم إلى أوروبا وأستراليا والولايات المتحدة الأميركية، كما عاد جزء كبير منهم إلى وطنه الأصلي في أرمينيا.
حالياً، تتراوح أعداد المصريين الأرمن بين 5000 و7000، وتقوم الجالية الأرمنية بالإشراف على رعاية أفرادها، محاولةً الحفاظ على هويتها من خلال شبكة نوادٍ ومدارس وصحف ومنظمات خيرية وكنائس.
لبنان
وصل عشرات الآلاف من الأرمن إلى لبنان في بدايات القرن العشرين. وفي عام 1936 أُتيحت لهم الفرصة للحصول على المواطنة اللبنانية بعدما فتح الفرنسيون باب التجنيس في لبنان. بناء على تلك الخطوة، تحول الأرمن من لاجئين إلى مواطنين كاملي المواطنة.
على مدار عقود متواصلة، تمكن الأرمن من الحفاظ على خصوصيتهم من خلال استخدام اللغة الأرمنية، والالتحاق بالمدارس الأرمنية، والانتظام في سلك الكنيسة الأرمنية، سواء كانت كاثوليكية أو أرثوذكسية. وتعتبر جامعة "هايغازيان" التي تأسست في لبنان سنة 1955 الجامعة الأرمنية الوحيدة في الشرق الأوسط.
في أواسط السبعينيات، وصل عدد الأرمن في لبنان نحو 300 ألف نسمة، لكن الحرب الأهلية الطويلة في لبنان وما نتج عنها من أوضاع متردية، أدت إلى تراجع هذا العدد لحوالي 140 أو 150 ألف نسمة.
في أغسطس 2020، تأثرت الأقلية الأرمينية في لبنان بشكل سلبي بالانفجار الذي وقع في مرفأ بيروت، حيث دمر الانفجار عدداً كبيراً من الأحياء والبلدات التي يقطنونها مثل مار مخايل ونور هاجين وبرج حمود والأشرفية. هز هذا الانفجار المجتمع الأرمني، ولحق التخريب بما يقرب من 1500 شركة ومتجر أرمني.
على الصعيد السياسي، يُقدَّر إجمالي عدد الناخبين الأرمن في لبنان رسميًا بنحو 105 آلاف ناخب، موزّعين بشكل أساسي بين 85 ألفا من الأرمن الأرثوذكس و20 ألفا من الأرمن الكاثوليك.
وتوجد العديد من الأحزاب السياسية الأرمينية، مثل حزب "الاتحاد الثوري الأرمني"، وحزب "الهنشاك"، وحزب ا"لطاشناق"، وحزب "الرامغافار".
رغم اندماجهم في المجتمع اللبناني، لم ينس الأرمن أصولهم. ففي 2020، وبالتزامن مع اندلاع الصراع الأرمني الأذربيجاني حول منطقة ناجورنو قرة باغ، وضح الحس القومي الذي ربط الأرمن اللبنانيين بوطنهم الأم، حيث ذكرت بعض التقارير أن الأرمن أرسلوا المساعدات المادية والمالية لأرمينيا، كما التحق بعضهم بالقوات الأرمينية للمحاربة في جبهة القتال.