يعيش عشرات آلاف العراقيين من ذوي البشرة السمراء في الأنحاء الجنوبية من العراق، وتختلف الروايات حول الأصول العرقية التي جاؤوا منها، إلا أن أغلب الآراء تقول إنهم قدموا من شرق أفريقيا للعمل في استصلاح الأراضي الزراعية في القرن الأول الهجري.
عانى هؤلاء العراقيون من التهميش والاستبعاد السياسي لفترات طويلة، كما عانوا من العنصرية التي اعتاد الكثيرون على توجيهها لهم.
أحفاد الزنج
لا توجد رواية تاريخية موثقة حول أصول العراقيين الأفارقة الحاليين، فيما تذهب أغلب الآراء إلى أن أجدادهم استقدموا إلى بلاد الرافدين في القرن الأول الهجري عقب تأسيس مدينة البصرة، إذ اعتاد العرب آنذاك جلبهم من شرق إفريقيا (السودان وإثيوبيا وزنجبار)، وإسكانهم في محيط نهري دجلة والفرات.
تمثلت وظيفتهم الأساسية في استصلاح الأراضي الزراعية وفي العمل في الإقطاعات الواسعة التي امتلكها رجال الطبقة الغنية.
كان الكثير من هؤلاء الأفارقة عبيدا، كما كان منهم عمال ومزارعون وجنود أيضا.
في تلك المرحلة، عاشوا ظروفاً معيشية بالغة الصعوبة، حيث الفقر والتضييق وقلة الطعام وانتشار الأوبئة والأمراض فضلاً عن ظروف العمل الشاقة.
في سبعينيات القرن الأول الهجري، بدأت اعتراضات هذه الفئة للمرة الأولى، عندما احتلوا بعض المزارع والضياع، واستولوا على ما فيها من الثمار والمحاصيل. لكن سرعان ما تم القضاء على تلك الحركة على يد الخلفاء الأمويين الذين تعاقبوا على كرسي الخلافة.
عادت اعتراضات سود العراق، الذين كانت تطلق عليهم تسمية الزنوج (فيما عرف بثورة الزنج)، إلى الواجهة بشكل أكثر عنفاً في منتصف القرن الثالث الهجري.
وبحسب ما يذكر المؤرخ والوزير العراقي الأسبق فيصل السامر في كتابه "ثورة الزنج"، فإن علي بن محمد -وهو فارسي ادعى النسب العلوي- تمكن من قيادة جماعات الزنج للثورة ضد الخلافة العباسية وطبقة ملاك الإقطاعيات.
يذكر ابن جرير الطبري في كتابه "تاريخ الرسل والملوك" أن علي بن محمد استمال الزنج بالوعود والأماني التي قدمها لهم، فقال إنه "يريد أن يرفع أقدارهم، ويُملّكهم العبيد والأموال والمنازل، ويبلغ بهم أعلى الأمور".
بعد شهور قليلة، فرض الثوار سيطرتهم على المنطقة الجنوبية الشرقية من العراق واستولوا على البصرة، كما استغلوا ضعف الخلافة العباسية فوسعوا نفوذهم في المنطقة الواقعة بين الأهواز وواسط.
في سنة 270 هـ وضع العباسيون حداً لتلك الثورة، حين تمكن ولي العهد أبو أحمد الموفق بالله من حشد جيش كبير العدد وتغلب على قواتهم وقتل علي بن محمد في المعركة، ليُسدل الستار بذلك على تلك الثورة التي طالبت بتحقيق العدالة الاجتماعية.
بعدها، استكان الزنج للأمر الواقع، واندمجوا في المجتمع العراقي على مر القرون.
الديموغرافيا والتقاليد
حالياً، ينتشر العراقيون الأفارقة في كل من البصرة والزبير وميسان وذي قار جنوبي البلاد، كما توجد تجمعات قليلة لهم في بغداد وواسط وبعض المدن العراقية الأخرى.
لا توجد إحصائيات رسمية عن أصحاب البشرة السمراء في العراق، فيما تشير إحصائيات غير رسمية إلى أن عددهم بين 250 و400 ألف نسمة، وتذكر بعض قياداتهم أن عددهم يصل للمليون ونصف المليون عراقي.
بحسب ما نُشر على موقع مجموعة حقوق الأقليات الدولية، فإن أغلبية العراقيين من ذوي البشرة السمراء تعتنق المذهب الشيعي، والبقية المذهب السني.
على الصعيد الثقافي، يتمتع الأفارقة العراقيون بهوية مميزة تشكلت معالمها على مر القرون التي عاشوها في العراق، إذ اندمجت العديد من الطقوس الأفريقية المتوارثة مع بعض العادات التي تم اكتسابها في بلاد الرافدين.
من تلك الطقوس "النوبان" نسبة إلى النوبة في جنوب مصر، و"الحبوش" نسبة إلى بلاد الحبشة القديمة، وهناك طقوس أخرى تعود إلى المناطق الساحلية من كينيا، فضلاً عن بعض الرقصات الدينية القادمة من أعماق إفريقيا كالجكانكا والهيوة.
كذلك، اعتاد اصحاب البشرة السمراء على ممارسة الفنون والغناء وعزف الموسيقى، فظهرت منهم فرق "الخشابة" التي تتميز بقرع الطبول واستخدام الآلات الموسيقية المصنوعة من الخشب، كآلة الخشبة التي تشبه إلى حد ما الطبلة، و"البنادق" وهي طبول من الفخار، فضلاً عن آلة "الكاسور" التي ابتكرها سعد اليابس، أشهر فناني التراث من العراقيين الأفارقة.
من جهة أخرى، يشتهر أصحاب البشرة السمراء بأداء تلك الفنون في "المكايد"، وهي الأماكن التي يخصصها أصحابها لأداء طقوس احتفاليه تُعزف فيها موسيقى الدفوف والطبول مع الألحان الأفريقية الموروثة. ويشيع إحياء تلك الطقوس في المناسبات الدينية وفي ذكرى الأموات والحزن وفي مناسبات الأفراح ايضاً.
تهميش وعنصرية
تنص المادة رقم 14 من الدستور العراقي لسنة 2005 على "المساواة دون تمييز على أساس عنصري". رغم ذلك، لا يزال العراقيون من ذوي البشرة السمراء يعانون من الاستهداف والعنصرية.
على مر العقود، عانت تلك الفئة من التهميش السياسي، فلم يشغل أي منهم منصب وزير، أو يُنتخب نائباً في البرلمان الوطني أو في مجالس المحافظات.
في سنة 2007، قام الناشط جلال ذياب بتأسيس "حركة العراقيين الأحرار" وكانت الكيان الرسمي الأول للعراقيين الأفارقة. وصفها ذياب بأنها "تجمّع مدني علماني يهدف إلى إحقاق حقوقهم من دون أي بعد عنصري أو تمييزي"، بحسب ما يذكر الباحث سعد سلوم في كتابه "الأقليات في العراق".
طالبت الحركة بتمثيل سياسي لأصحاب البشرة السمراء في الحكومة والاعتراف بوجودهم في الدستور العراقي والاعتذار الرسمي عن التاريخ الطويل من التمييز والعنصرية ضدهم، وتشريع قانون لتجريم كلمة "عبد" التي تطلَق على ذوي البشرة السمراءود، والمعاقبة القانونية للتمييز ضدهم، وتضمينهم في المناهج الدراسية.
كما طالبت بالحصول على كوتا الأقليات، على غرار ما حصل عليه المسيحيون والأيزيديون والمندائيون والشبك.
في أبريل 2013، أُجهض مشروع "حركة العراقيين الأحرار" في مهده بعدما اغتيل جلال ذياب على يد مجهولين رمياً بالرصاص، وقيل وقتها إن استهدافه كان بسبب تأثره وإعجابه بالرموز الأميركية من ذوي البشرة السمراء، مثل مارتن لوثر كينج والرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما.
على الصعيد المجتمعي، تبدو معاناة العراقيين من ذوي البشرة السمراء بشكل أكثر وضوحاً. ذكرت بعض التقارير أن نسبة التعليم بينهم لا تتجاوز 25%، وأن هناك 75% منهم يسكنون في بيوت متواضعة مصنوعة من الصفيح.
وتمتهن الأغلبية الغالبة منهم الأعمال الخدمية البسيطة، كالعمل في نظافة الشوارع والمزارع، أو الخدمة في الدواوين الحكومية.
على استحياء، تمكن البعض من الخروج إلى المجال العام، من بينهم الفنان حسين البصري الذي يُعدّ من أبرز مطربي جيل السبعينيات، ولاعب المنتخب الوطني العراقي قصي منير الذي يُعتبر من أبرز لاعبي آسيا في سنة 2007.
في السياق نفسه، أشارت بعض التقارير للعنصرية التي يعاني منها الأفارقة العراقيون في الكثير من الحالات، مثل تميّز العادات والتقاليد الاجتماعيّة فيما بينهم وبين سائر طبقات المجتمع العراقي. على سبيل المثال، يرفض أغلبية العراقيين الزواج المختلط ما بين أصحاب البشرة السمراء وأصحاب البشرة البيضاء، كذلك "يُمنع زواج السود من السادة" -وهو الاسم الذي يُطلق على المنحدرين من نسل الرسول محمد- باعتبار أن هناك اختلافاً في الأصل والمكانة الاجتماعية والكفاءة.
كذلك، تظهر المعاملة التمييزية ضد أصحاب البشرة السمراء في العديد من الكلمات التي توجه إليهم بهدف الاستهزاء أو السخرية، مثل كلمة "عبد" أو "أسود"، أو حتى مناداة أحدهم باسم أحد المشهورين من ذوي البشرة السمراء، كبلال بن رباح مؤذن الرسول، أو مايكل جاكسون المطرب الأميركي الراحل.