الملصق الدعائي لمسلسل فتح الأندلس
الملصق الدعائي لمسلسل فتح الأندلس.

تخيل أن تقوم بقتل شخص وسلب داره.. وأن يكون النقاش في محيطك ليس حول إدانة الجريمة التي ارتكبتها، بل فقط حول التوقيت الذي قمت فيه بجريمتك، أو لون القميص الذي كنت ترتديه، أو عمرك حين ارتكبت الجريمة.

تخيل، أن يختلفوا حول اسمك العائلي ولون شعرك ونظافة حذائك وأنت تقتل.. وأن لا يدينوا الجريمة في النهاية! هذا بالتحديد ما يحدث اليوم من نقاش حول هوية طارق بن زياد في مسلسل "فتح الأندلس". 

نقاشات كثيرة دارت حول المغالطات التاريخية التي يقدمها المسلسل، وهو نقاش سليم في النهاية. لكن، في نفس الوقت، علينا أن نعترف أن معظم الأفلام والمسلسلات المستلهمة من حكايات تاريخية في السينما والتلفزيون عبر دول العالم، تغير كثيرا من المعطيات التاريخية، لأسباب إيديولوجية وأحيانا فقط للبناء الدرامي للعمل. 

ليس مطلوبا من العمل التخييلي أن يكون وفيا للمعطيات التاريخية. الذي يريد أن يعرف التاريخ، عليه أن يشاهد الأفلام الوثائقية أو يقرأ كتب التاريخ أو هما معا. أما العمل التخييلي المستلهم من التاريخ (رواية، فيلم سينمائي، مسلسل)، فوارد جدا أن يغير المعطيات وطبيعة الشخصيات.

كما أن حكاية المحامي الذي رفع دعوى قضائية لوقف بث المسلسل على القناة الأولى المغربية هو عبث استبدادي آخر. العمل الفني يواجه بالنقاش والنقد، وليس بدعاوى المنع.

الآن، المشكل أمام مسلسل فتح الأندلس ليس هو تحريفه لمعطى تاريخي يتعلق بهوية طارق بن زياد، هل هو أمازيغي مغربي أم عربي مشرقي.. 

المشكل الحقيقي في أن "غزو الأندلس" (وليس فتحها) لا يطرح للنقاش والنقد والانتقاد. المشكل الحقيقي أننا فخورون بغزونا واستعمارنا لبلدان الغير. وحين قرر الأندلسيون استرجاع بلدهم، سمينا ذلك "طردا".

من المؤكد تاريخيا أن الحروب كانت جزءا من مكونات حضارات عديدة. كانت الدول الأقوى تغزو دولا أضعف وتستعمرها وتستغل خيراتها.. واستمر ذلك إلى منتصف القرن العشرين. لكن معظم الحضارات المتقدمة ناقشت تلك المرحلة من تاريخها بالنقد، وبعضها اعتذر للشعوب المستعمَرة سابقا.. وبغض النظر عن مواقف تلك الدول، فمعظم المثقفين والفاعلين والحقوقيين هناك، ينظرون لتلك الحقب التاريخية بموقف نقدي. فما بالنا اليوم مازلنا نعتبر استعمارنا لشعوب أخرى مصدر فخر؟ ما بالنا نفتخر باحتلال الدولة العثمانية وقبلها الدول الأموية والعباسية لشعوب كثيرة وسبي نسائها وقتل شعوبها ونهب خيراتها، ونعتبر ذلك فتحا ومصدر فخر؟ متى ستكون لنا شجاعة الاعتراف أن ذلك كان غزوا واستعمارا؟  

اليوم، ونحن نناقش التاريخ الاستعماري لأوروبا (ونحن محقون في ذلك لأنها فترة تستحق المساءلة النقدية)، هل نملك نفس الشجاعة للاعتراف بتاريخنا الاستعماري وبما خلفه من آثار فظيعة ولا إنسانية؟ هل نملك شجاعة مساءلة عبارات من قبيل "الفتح" و"الفتوحات" لنسميها باسمها الحقيقي: الغزو، الاستعمار؟ كيف نقبل بازدواجية رهيبة تتحدث في نفس الوقت عن "الفتوحات الإسلامية" وعن... "الحروب الصليبية"؟ أليست هي في النهاية نفس الممارسة المذمومة، التي كانت ربما مقبولة في زمنها والتي تستحق منا اليوم أن نتحلى بشجاعة النقد؟ 

بالمناسبة، فموضوع "الفتوحات العربية في روايات المغلوبين"، هو قضية فكرية جوهرية تستحق المراجعة وتتوفر حولها كتابات كثيرة لمن يرغب في البحث والتفكير الجدي في الموضوع، بعيدا عن الشوفينية القبلية أو الدينية. 

لكل هذا، أجد النقاش حول أمازيغية أو عروبة طارق بن زياد ثانويا. المؤرخون يعطوننا ما يكفي من المفاتيح لفهم السياقات والمعطيات التاريخية. لكن القيم الإنسانية والمعرفية الحديثة يفترض أن تدفعنا لكي نسائل ما قام به طارق بن زياد وغيره.. وأن نعترف بالغزوات والقتل والظلم الذي تم في حق الآخرين، من وجهة نظرهم. أما أن نفتخر به، فنحن حقا لا نشبه قيم عصرنا ولا نملك شجاعة مساءلة ماضينا. 

------------------------------

الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء أو وجهات النظر أو السياسات الرسمية لشبكة الشرق الأوسط للإرسال (أم. بي. أن).

المزيد من المقالات:

مواضيع ذات صلة:

الرئيس السوري بشار الأسد زار حلب إحدى أكبر المدن التي تضررت بالزلزال
الأسد خلال حديثه لوسائل الإعلام أثناء زيارته لحلب بعد الزلزال (سانا)

فور حدوث الزلزال الكارثي الذي ضرب جنوب تركيا وشمال سوريا وقضى على عشرات الآلاف من الضحايا وحّول مناطق شاسعة في البلدين إلى أهرامات من الركام، سارع الرئيس السوري، بشار الأسد، دون خجل إلى تسيس هذه المأساة واستغلالها لخدمة مصالحه الضيقة، ولطمس جرائم القتل الجماعي التي ارتكبها ضد شعبه في العقد الماضي، وللتخلص من العقوبات الاقتصادية الدولية المفروضة على نظامه ولإعادة بعض الشرعية لنظامه الدموي الفاسد. 

الأسد رحّب بالاتصالات الهاتفية التي أجراها معه بعض القادة العرب، مثل الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، وبأولى شحنات المساعدات التي وصلت إلى سوريا من دولة الإمارات وقطر والسعودية والأردن. 

هذه الدول تسعى منذ سنوات إلى إعادة سوريا إلى "حظيرة" جامعة الدول العربية، سوف تتعاون مع دمشق في سياق إغاثة ضحايا الزلزال إلى إعادة تأهيل النظام السوري واعتماد سرديته الواهية التي تدعي أن إغاثة الضحايا السوريين يجب أن تمر عبر دمشق.

حتى الحكومة اللبنانية المستقيلة، التي بالكاد تقوم بمهام تصريف الأعمال، أرسلت وفدا حكوميا رسميا إلى دمشق لبحث تداعيات الزلزال المدمر "والإمكانات اللبنانية المتاحة للمساعدة في مجالات الإغاثة".

لبنان، الذي وصفه أحد الأصدقاء الظرفاء، "أجمل دولة فاشلة في العالم"، هذه الدولة التي تركت للبنانيين مشاهدة ركام أهرامات القمح في المرفأ بعد أن دمرها جزئيا أكبر انفجار غير نووي في العالم لتذكرهم بفشلها وفسادها ورعونتها، دفعتها المروءة المسرحية لمد يد المساعدة لنظام أذلّ اللبنانيين لعقود.

السوريون، الذين قهرهم أولا نظامهم الوحشي، وتخلى الله عنهم لاحقا، إلى أن أتت الطبيعة لتزيد من يبابهم يبابا، يستحقون كل مساعدة وكل إغاثة ممكنة لأنهم ضحايا بامتياز وعلى مدى سنوات طويلة.

ولكن الخبث اللبناني الرسمي ينضح من ادعاءات توفير الإمكانات اللبنانية لمساعدة ضحايا الزلزال في سوريا، (الهدف الأول من الزيارة هو تطبيع العلاقات) بينما يتم تجاهل ضحايا الزلازل السياسية اللبنانية، ومن بينهم ضحايا انفجار مرفأ بيروت الذي ترفض الحكومة اللبنانية والقوى التي تقف وراءها مثل حزب الله حتى الاعتراف بمأساتهم والتعويض عليها، ومحاسبة المسؤولين عن الانفجار.

وخلال زيارته الأولى للمناطق المنكوبة في حلب (بعد خمسة أيام من حدوث الزلزال) ألقى الأسد باللوم على الغرب لتأخر وصول المساعدات الإنسانية مدعيا أن أولويات الغرب سياسية وليست إنسانية، مضيفا أنه من الطبيعي أن يسيسوا الوضع، لأن اعتبارات الغرب غير إنسانية لا اليوم ولا في السابق.

واستغل الأسد وأقطاب نظامه الزلزال للمطالبة بإلغاء العقوبات الاقتصادية الدولية، في الوقت الذي واصلوا فيه إصرارهم على ضرورة وصول المساعدات الدولية إلى المناطق المنكوبة في البلاد عبر الحكومة السورية فقط، بما في ذلك المساعدات إلى المناطق الخاضعة لسيطرة المعارضة، وهو أمر ترفضه الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، بسبب سجل الأسد خلال العقد الماضي في استغلال المساعدات الانسانية وتوزيعها على أنصاره أو سرقتها وبيعها في السوق السوداء.

وفي الأسبوع الماضي، جددت واشنطن إصرارها على رفض التعامل المباشر مع نظام الأسد أو رفع العقوبات الاقتصادية المفروضة ضده، مع التأكيد على أن العقوبات تستثني المساعدات الانسانية والأغذية والأدوية.

وقال الناطق باسم وزارة الخارجية، نيد برايس، للصحفيين: "من المثير جدا للسخرية، إن لم يأت بنتائج عكسية، أن نتواصل مع حكومة عاملت شعبها بوحشية على مدى أكثر من عشر سنوات حتى الآن عن طريق إطلاق قنابل الغاز عليهم وذبحهم، لتتحمل المسؤولية عن الكثير من المعاناة التي يعيشها الشعب".

في هذا السياق من الصعب تصديق ادعاءات وزير الخارجية السوري، فيصل مقداد، أن حكومته مستعدة لأن تسمح بدخول المساعدات الدولية إلى جميع المناطق السورية "طالما لم تصل إلى التنظيمات الإرهابية المسلحة" كما قال في مقابلة تلفزيونية وهذا يعني عمليا استثناء محافظة إدلب الواقعة تحت سيطرة هيئة تحرير الشام الإسلامية.

وادعى مقداد أن العقوبات تزيد من صعوبة الكارثة. هذا الموقف ينسجم مع الموقف التقليدي لنظام الأسد خلال العقد الماضي حين كانت السلطات السورية تمنع وصول المساعدات الإنسانية إلى السوريين الذين كانوا يعانون من المجاعة في المناطق المحاذية للعاصمة، دمشق، كما حدث خلال سنتي 2012 و2014. ويجب ألا نتوقع غير ذلك الآن.

نصف المناطق المنكوبة في سوريا واقعة تحت سيطرة الحكومة السورية والنصف الآخر واقع تحت سيطرة المعارضة المسلحة.

ويخشى السوريون في المناطق الواقعة خارج السيطرة الحكومية في شمال غرب سوريا وكذلك منظمات الإغاثة الدولية من أن نظام الأسد سوف يعطل إيصال المساعدات إليهم او الاستيلاء عليها، وأن الوسيلة الوحيدة لإيصال هذه المساعدات بسرعة الى المتضررين هي عبر الأراضي التركية وعبر معبر باب الهوى، وهو المعبر الوحيد المفتوح بين تركيا وسوريا.

وتقوم روسيا، بطلب من الحكومة السورية باستخدام حق النقض "الفيتو" في مجلس الأمن الدولي لمنع فتح المعابر الاخرى بين تركيا وسوريا.

ولذلك، فإن مفتاح الإسراع بإيصال مساعدات الإغاثة الدولية إلى تلك المناطق السورية هي عبر فتح المعابر الدولية، بدلا من الحديث العبثي عن إلغاء العقوبات الاقتصادية وهي مسألة صعبة قانونيا وسياسيا، وسوف تؤدي إلى تعزيز وترسيخ نظام ارتكب جرائم حرب ضد شعبه. ووصلت صفاقة النظام السوري إلى درجة أنه قصف مناطق المعارضة المنكوبة حتى بعد حدوث الزلزال.

وفي خطوة لافتة أرادت من خلالها واشنطن أن تفند الاتهامات الباطلة بأنها لا تقوم بما فيه الكفاية لإيصال المساعدات الى المناطق السورية المنكوبة، أصدرت وزارة الخزانة الأميركية استثناء مؤقتا من العقوبات يتعلق بالمعاملات المالية للأغراض الإنسانية لمدة ستة أشهر.

وأكد مساعد وزير الخزانة الأميركية، والي أدييمو، أن "برامج العقوبات الأميركية تحتوي بالفعل على إعفاءات قوية للجهود الإنسانية ومع ذلك أصدرت وزارة الخزانة اليوم ترخيصا عاما شاملا لتفويض جهود الإغاثة من الزلزال حتى يتمكن أولئك الذين يقدمون المساعدة من التركيز على ما هو مطلوب أكثر: إنقاذ الأرواح وإعادة البناء".

ولكن هذا التعديل المؤقت لا يشمل السماح بالتعامل المالي مع أي جهة رسمية تابعة لنظام الأسد ولا التعامل مع الأفراد المدرجين على قوائم العقوبات، كما لا يستثني الحظر المستمر على النفط السوري.

من المتوقع أن يؤدي الزلزال إلى تعجيل وتيرة تطبيع العلاقات بين معظم الدول العربية بمن فيها أصدقاء الولايات المتحدة والنظام السوري، على الرغم من استمرار العلاقات الوثيقة بين دمشق وطهران.

كما من المتوقع أن تبقى العقوبات الدولية التي فرضتها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي على النظام السوري، طالما بقي الأسد متربعا على كرسيه الرئاسي فوق الركام السوري.