أحد الصفوف الدراسية في مدرسة أردنية داخل العاصمة عمّان- أرشيف فرانس برس
أحد الصفوف الدراسية في مدرسة أردنية داخل العاصمة عمّان- أرشيف فرانس برس

كثيرا ما تحضرني عبارة للكاتب التركي الأسطوري الساخر، عزيز نيسين، يقول فيها: "القهوة والديمقراطية، هما الشيئان اللذان لا ينبتان في بلدنا لكنهما يأتيان من الخارج".

المشاريع الديمقراطية كثيرة في عالمنا العربي البائس والمنكوب بإرثه التاريخي المثقل بالخيبات، وكبواته الطويلة أكثر بكثير من صحواته السريعة كلقطة تمر من نافذة قطار سريع.

كانت دوما هناك محاولات جادة وصادقة لاستلهام التجارب الغربية في التاريخ الحديث للعالم العربي، في مرحلة ما بعد "الاستقلال" المتفاوت زمنيا بين دولة وأخرى، وكانت تلك المحاولات على كل جديتها وكثير من النوايا المخلصة فيها تغفل أمرا هاما، أن الديمقراطية المستلهمة كانت دوما وصفة قادمة من الخارج، وهي خلاصة تجربة اجتماعية عميقة في أوروبا والغرب عموما، لها عناصر نجاح خاصة بها كمجتمعات بتاريخ طويل من الاستبداد الخاص بها المرتبط بعوامل خاصة بها أيضا.

التجارب العربية كثيرة، ولا تزال مستمرة خصوصا بعد ما يسمى بالربيع العربي الذي لا أرى فيه ربيعا بقدر ما أرى من خلاله حجم التشوه والخراب في الوعي الجمعي العربي عموما.

لم تكن الديمقراطية "الأوروبية" كأساس لباقي النظم الديمقراطية حلم ليلة صيف استيقظ بعده الأوروبيون على نظم سليمة وصحية وشفافة وخالية من الاستبداد، كانت تلك الحالة وليدة تجارب مريرة استمرت لقرون من العصر والتجوية والتعرية الفكرية مر خلالها كثير من الأحداث والمفكرين والمنعطفات الاجتماعية أولا، لتنتهي بمعرفة وعلوم انتصرت على الشعوذة والدجل باسم الله أو باسم المستبد الذي يختبئ خلف الله.

في عالمنا العربي، حاولنا مرارا أن نستلهم التجربة ذاتها بعيدا عن كل إرهاصاتها الاجتماعية الطويلة والمكلفة وكنا دوما – كما قلت قبل ذلك- مثل الذي يريد أن يغرس شتلة أمازونية في صحراء الربع الخالي، والنتيجة إما أن يتحول الربع الخالي إلى أمازون أو تموت الشتلة، وواقعيا كانت الشتلة تموت دوما.

أراقب "بعين القلق" محاولات التحول الديمقراطية في الأردن مثلا، متأملا أن يخيب أملي فلا تموت الشتلة، لكن كل المعطيات التي أراها وأراقبها عن بعد أو من قرب، تجعلني أفكر بعبثية التجربة، فهناك معطيات أساسية لا تزال غائبة أولها حضور الوعي الجمعي الذي يؤسس لمفهوم الدولة.

ولو بدأنا بالأساسيات، نظام التعليم في الأردن، لما اختلفنا على تدهور حالته إلى حد مرعب، غالبية الأردنيين يعملون بقسوة طامحين إلى تسجيل أبنائهم في مدارس خاصة غير حكومية، هذا مؤشر خطير على تردي المنظومة التعليمية الرسمي إلى حد الهروب منها، ولا يستطيع الهروب إلا قلة.

في التعليم الخاص، وأمام منطق العرض والطلب، نشأت مستويات مختلفة رسّخت التباين الطبقي بين من يملكون ومن لا يملكون، وبينهما برزخ اجتماعي ممن يسعون ليكونوا في الطبقة التي تملك، وهذا يتطلب استخدام كل الحيل الممكنة وربما غير الشرعية لتأمين الأطفال في مدارس باهظة ومكلفة، وتلك المدارس "الخاصة" أيضا متفاوتة المستويات وتستنزف القدرات المالية لمواطنين منهكين حد القهر.

أتأمل بوجع حقيقي، قدرتي في بلجيكا مثلا، على تأمين حياة تعليمية عادية جدا حيث أعيش لابنتي بينما تلك الحياة التعليمية العادية جدا "وغير المكلفة إطلاقا" هي المستوى التعليمي المكلف والباهظ في الأردن.

لا أفهم، كيف يمكن أن تزرع وعيا بإصلاح سياسي وحياة حزبية مكتملة الأركان وتتوقع حكومات حزبية تتداول السلطة في بلد تعليمه العام منهار وقائم على مناهج الشعوذة والدجل بأغلبها، فلا معارف حقيقية ولا علوم صفية متقدمة ولا أبنية مدرسية تراعي الحد الأدنى من الكرامة للطالب، وتعليمه الخاص قائم على طبقية يتلقى فيها القلة من أبناء "النخب والذوات وأصحاب المال" تعليما "أجنبيا" ناطقا باللغة الإنكليزية وباقي الطبقات يتلقون علوما خاضعة لبازار العرض والطلب، ثم يدخل الجميع جامعات مفتوحة لكل التخصصات بدون تخطيط مسبق لحاجات السوق والمجتمع، لتكون منظومة التعليم العالي ليست أكثر من ماكينات تفريخ بطالة.

باعتقادي، أن طريق الديمقراطية الطويل جدا، يبدأ بخطوة التعليم الصحي والسليم، ورصد موازنة الدولة وتوظيفها للخروج بمنظومة تعليمية صحية وعصرية وتصبح مدرسة الحكومة "المنبوذة حاليا" تنافس التعليم الطبقي الرفيع والخاص، الذي لم ينتج حتى اليوم إلا ذات النخب بلغة "وطنية" أقل جودة.

أما القهوة.. فلا بأس إن استوردناها من الخارج.

=======================================

الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء أو وجهات النظر أو السياسات الرسمية لشبكة الشرق الأوسط للإرسال (أم. بي. أن).

المزيد من المقالات:

مواضيع ذات صلة:

الرئيس السوري بشار الأسد زار حلب إحدى أكبر المدن التي تضررت بالزلزال
الأسد خلال حديثه لوسائل الإعلام أثناء زيارته لحلب بعد الزلزال (سانا)

فور حدوث الزلزال الكارثي الذي ضرب جنوب تركيا وشمال سوريا وقضى على عشرات الآلاف من الضحايا وحّول مناطق شاسعة في البلدين إلى أهرامات من الركام، سارع الرئيس السوري، بشار الأسد، دون خجل إلى تسيس هذه المأساة واستغلالها لخدمة مصالحه الضيقة، ولطمس جرائم القتل الجماعي التي ارتكبها ضد شعبه في العقد الماضي، وللتخلص من العقوبات الاقتصادية الدولية المفروضة على نظامه ولإعادة بعض الشرعية لنظامه الدموي الفاسد. 

الأسد رحّب بالاتصالات الهاتفية التي أجراها معه بعض القادة العرب، مثل الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، وبأولى شحنات المساعدات التي وصلت إلى سوريا من دولة الإمارات وقطر والسعودية والأردن. 

هذه الدول تسعى منذ سنوات إلى إعادة سوريا إلى "حظيرة" جامعة الدول العربية، سوف تتعاون مع دمشق في سياق إغاثة ضحايا الزلزال إلى إعادة تأهيل النظام السوري واعتماد سرديته الواهية التي تدعي أن إغاثة الضحايا السوريين يجب أن تمر عبر دمشق.

حتى الحكومة اللبنانية المستقيلة، التي بالكاد تقوم بمهام تصريف الأعمال، أرسلت وفدا حكوميا رسميا إلى دمشق لبحث تداعيات الزلزال المدمر "والإمكانات اللبنانية المتاحة للمساعدة في مجالات الإغاثة".

لبنان، الذي وصفه أحد الأصدقاء الظرفاء، "أجمل دولة فاشلة في العالم"، هذه الدولة التي تركت للبنانيين مشاهدة ركام أهرامات القمح في المرفأ بعد أن دمرها جزئيا أكبر انفجار غير نووي في العالم لتذكرهم بفشلها وفسادها ورعونتها، دفعتها المروءة المسرحية لمد يد المساعدة لنظام أذلّ اللبنانيين لعقود.

السوريون، الذين قهرهم أولا نظامهم الوحشي، وتخلى الله عنهم لاحقا، إلى أن أتت الطبيعة لتزيد من يبابهم يبابا، يستحقون كل مساعدة وكل إغاثة ممكنة لأنهم ضحايا بامتياز وعلى مدى سنوات طويلة.

ولكن الخبث اللبناني الرسمي ينضح من ادعاءات توفير الإمكانات اللبنانية لمساعدة ضحايا الزلزال في سوريا، (الهدف الأول من الزيارة هو تطبيع العلاقات) بينما يتم تجاهل ضحايا الزلازل السياسية اللبنانية، ومن بينهم ضحايا انفجار مرفأ بيروت الذي ترفض الحكومة اللبنانية والقوى التي تقف وراءها مثل حزب الله حتى الاعتراف بمأساتهم والتعويض عليها، ومحاسبة المسؤولين عن الانفجار.

وخلال زيارته الأولى للمناطق المنكوبة في حلب (بعد خمسة أيام من حدوث الزلزال) ألقى الأسد باللوم على الغرب لتأخر وصول المساعدات الإنسانية مدعيا أن أولويات الغرب سياسية وليست إنسانية، مضيفا أنه من الطبيعي أن يسيسوا الوضع، لأن اعتبارات الغرب غير إنسانية لا اليوم ولا في السابق.

واستغل الأسد وأقطاب نظامه الزلزال للمطالبة بإلغاء العقوبات الاقتصادية الدولية، في الوقت الذي واصلوا فيه إصرارهم على ضرورة وصول المساعدات الدولية إلى المناطق المنكوبة في البلاد عبر الحكومة السورية فقط، بما في ذلك المساعدات إلى المناطق الخاضعة لسيطرة المعارضة، وهو أمر ترفضه الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، بسبب سجل الأسد خلال العقد الماضي في استغلال المساعدات الانسانية وتوزيعها على أنصاره أو سرقتها وبيعها في السوق السوداء.

وفي الأسبوع الماضي، جددت واشنطن إصرارها على رفض التعامل المباشر مع نظام الأسد أو رفع العقوبات الاقتصادية المفروضة ضده، مع التأكيد على أن العقوبات تستثني المساعدات الانسانية والأغذية والأدوية.

وقال الناطق باسم وزارة الخارجية، نيد برايس، للصحفيين: "من المثير جدا للسخرية، إن لم يأت بنتائج عكسية، أن نتواصل مع حكومة عاملت شعبها بوحشية على مدى أكثر من عشر سنوات حتى الآن عن طريق إطلاق قنابل الغاز عليهم وذبحهم، لتتحمل المسؤولية عن الكثير من المعاناة التي يعيشها الشعب".

في هذا السياق من الصعب تصديق ادعاءات وزير الخارجية السوري، فيصل مقداد، أن حكومته مستعدة لأن تسمح بدخول المساعدات الدولية إلى جميع المناطق السورية "طالما لم تصل إلى التنظيمات الإرهابية المسلحة" كما قال في مقابلة تلفزيونية وهذا يعني عمليا استثناء محافظة إدلب الواقعة تحت سيطرة هيئة تحرير الشام الإسلامية.

وادعى مقداد أن العقوبات تزيد من صعوبة الكارثة. هذا الموقف ينسجم مع الموقف التقليدي لنظام الأسد خلال العقد الماضي حين كانت السلطات السورية تمنع وصول المساعدات الإنسانية إلى السوريين الذين كانوا يعانون من المجاعة في المناطق المحاذية للعاصمة، دمشق، كما حدث خلال سنتي 2012 و2014. ويجب ألا نتوقع غير ذلك الآن.

نصف المناطق المنكوبة في سوريا واقعة تحت سيطرة الحكومة السورية والنصف الآخر واقع تحت سيطرة المعارضة المسلحة.

ويخشى السوريون في المناطق الواقعة خارج السيطرة الحكومية في شمال غرب سوريا وكذلك منظمات الإغاثة الدولية من أن نظام الأسد سوف يعطل إيصال المساعدات إليهم او الاستيلاء عليها، وأن الوسيلة الوحيدة لإيصال هذه المساعدات بسرعة الى المتضررين هي عبر الأراضي التركية وعبر معبر باب الهوى، وهو المعبر الوحيد المفتوح بين تركيا وسوريا.

وتقوم روسيا، بطلب من الحكومة السورية باستخدام حق النقض "الفيتو" في مجلس الأمن الدولي لمنع فتح المعابر الاخرى بين تركيا وسوريا.

ولذلك، فإن مفتاح الإسراع بإيصال مساعدات الإغاثة الدولية إلى تلك المناطق السورية هي عبر فتح المعابر الدولية، بدلا من الحديث العبثي عن إلغاء العقوبات الاقتصادية وهي مسألة صعبة قانونيا وسياسيا، وسوف تؤدي إلى تعزيز وترسيخ نظام ارتكب جرائم حرب ضد شعبه. ووصلت صفاقة النظام السوري إلى درجة أنه قصف مناطق المعارضة المنكوبة حتى بعد حدوث الزلزال.

وفي خطوة لافتة أرادت من خلالها واشنطن أن تفند الاتهامات الباطلة بأنها لا تقوم بما فيه الكفاية لإيصال المساعدات الى المناطق السورية المنكوبة، أصدرت وزارة الخزانة الأميركية استثناء مؤقتا من العقوبات يتعلق بالمعاملات المالية للأغراض الإنسانية لمدة ستة أشهر.

وأكد مساعد وزير الخزانة الأميركية، والي أدييمو، أن "برامج العقوبات الأميركية تحتوي بالفعل على إعفاءات قوية للجهود الإنسانية ومع ذلك أصدرت وزارة الخزانة اليوم ترخيصا عاما شاملا لتفويض جهود الإغاثة من الزلزال حتى يتمكن أولئك الذين يقدمون المساعدة من التركيز على ما هو مطلوب أكثر: إنقاذ الأرواح وإعادة البناء".

ولكن هذا التعديل المؤقت لا يشمل السماح بالتعامل المالي مع أي جهة رسمية تابعة لنظام الأسد ولا التعامل مع الأفراد المدرجين على قوائم العقوبات، كما لا يستثني الحظر المستمر على النفط السوري.

من المتوقع أن يؤدي الزلزال إلى تعجيل وتيرة تطبيع العلاقات بين معظم الدول العربية بمن فيها أصدقاء الولايات المتحدة والنظام السوري، على الرغم من استمرار العلاقات الوثيقة بين دمشق وطهران.

كما من المتوقع أن تبقى العقوبات الدولية التي فرضتها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي على النظام السوري، طالما بقي الأسد متربعا على كرسيه الرئاسي فوق الركام السوري.