يخاطر رجال الإسعاف في غزة بحياتهم يوميا منذ بدء القصف الإسرائيلي على القطاع، لإنجاز مهمتهم الإنسانية، يحاولون جهدهم لإنقاذ ما تمكّن من الجرحى من بين الركام وتحت أنقاض المباني المهدمة، بعضهم فقد حياته خلال محاولته إنقاذ الآخرين، فيما فجع آخرون بمقتل أفراد عائلاتهم.
لم يترك رجال الإسعاف الميدان، رغم التحديات الهائلة التي يواجهونها وابتعادهم عن عائلاتهم وأطفالهم، منهم المسعف في الدفاع المدني الفلسطيني في غزة، معتصم نصر الله، الذي اختار العمل في الحقل الطبي منذ 16 سنة.
خلال عمله شهد نصر الله أربع حروب، أبرزها، كما يقول، حرب عام 2014: "أذكر حينها أني لم أر عائلتي لحين وقف إطلاق النار، لكن هذه الحرب لا تقارن بأي من الحروب السابقة بحدّتها وقساوتها".
ويوضح في حديثه لموقع "الحرة" "خلال الحرب الجارية، يخشى رجال الإسعاف من التعرض للقصف، يشجّعون بعضهم البعض على الصعود إلى المركبة والتوجه إلى مكان الاستهداف".
وشدد على أنه "طوال الطريق تنتابني مشاعر من الصعب وصفها وهواجس من أن أصل وأجد جثامين أفراد عائلتي متناثرة تحت الركام، لاسيما وأن أربعة من زملائي واجهوا هذا الموقف، حينها انهاروا بالبكاء ونحن أُربكنا بين مواساتهم أولا أم نقل الضحايا إلى المستشفى".
حتى الآن قتل 17 من زملاء معتصم، كما يقول، وجرح نحو 50، "عدا عن ضحايا الطواقم الأخرى في الهلال الأحمر الفلسطيني ووزارة الصحة، فالمسعف في هذه الحرب قد يصبح في أي لحظة هو الضحية، ويحتاج إلى من يسعفه".
ويشير إلى أنه "قبل أيام كنت سأذهب في مهمة، لكن ظرفا طارئا حال دون ذلك، وبعد مرور بضع ساعات تلقيت إشارة للتوجه إلى شارع النصر، لأصعق لدى وصولي بمشهد زملائي داخل سيارة الإسعاف بين قتيل ومصاب ومبتور، تخيّلت لو أني كنت معهم ماذا سيكون حالي".
ويضيف "أصيب زميلي في رجله، وهو بحاجة إلى تركيب (الكسور باستخدام) بلاتين، لكن الطبيب حدد له موعداً بعد أسبوعين مبرراً تأخير علاجه بأن وضعه الصحي أفضل من غيره في ظل الضغط الكبير على المستشفى، فكل عشر دقائق يصل ما بين 100 إلى 200 مصاب، وإلى حين وصول دوره لا نعلم ماذا سيحل برجله".
وطالب معتصم اللجنة الدولية للصليب الأحمر بتوفير الحماية للمسعفين، قائلاً: "نحن نضع شارة محمية بالقوانين والأعراف الدولية، ومع ذلك يتم استهدافنا".
اضطرابات نفسية
أكثر مهمة أثّرت في معتصم، 36 عاما، حين عمل على نقل قتلى وجرحى مستشفى المعمداني، ويشرح "حتى الآن لا يمكنني النوم من دون أن أتذكر كيف كنت ألملم أشلاء الأطفال وأتخّيل أولادي الأربعة بينهم، سأصاب بالجنون، فرغم أني حاصل على شهادة ماجستير في الصحة النفسية إلا أنني أحتاج إلى طبيب نفسي، فالمشاهد التي أراها يومياً لا يصدقها عقل"، مضيفاً "بالكاد أنام لساعة واحدة في اليوم على كرسي الإسعاف، لأستيقظ على إشارة حول وقوع حادث ما".
"في الحروب السابقة كان عدد الضحايا في كل مهمة حوالي خمس"، أما الآن بحسب معتصم "في كل مكان مستهدف هناك ما لا يقل عن 50 ضحية، فكيف يمكن لعدد محدود من سيارات الإسعاف أن تتعامل مع وضع كهذا؟ أنقل خمسة مصابين دفعة واحدة ولا أستطيع التعامل في الطريق إلا مع حالة أو اثنتين".
ويشدد "أصبحنا نفاضل بين الجرحى، نعطي الأولوية للإصابات الخطرة، نترك الإصابات الخفيفة والمتوسطة حتى ولو كانت تنزف، وكذلك القتلى".
المعوقات كبيرة جدا على رأسها، كما يقول: "عدم توفر المحروقات، الآن اتصل بي مسعف نفد لديه الديزل، فركن المركبة جانباً، إضافة إلى قلّة الإمكانيات الطبية، وصل الأمر إلى درجة عدم توفّر أكياس موتى تمنع انبعاث روائح من الجثث، فالمتوفر لدى وزارة الصحة أكفان من قماش، لا تحول دون انبعاث الروائح ولا تساعد في حمل الأشلاء".
لا ينفك معتصم عن التفكير بأفراد عائلته الذين نزحوا من منزلهم في مدينة غزة إلى إحدى مدارس وكالة الغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين التابعة للأمم المتحدة "الأونروا".
ويقول: "لم أرهم منذ بدء الحرب، كما أن التواصل معهم عبر الهاتف صعب نتيجة عدم توفّر الكهرباء لشحن الهواتف وقطع الإنترنت وشبكة الاتصالات"، ويضيف "أعلم أنهم يعيشون في وضع صعب جداً، فعدد النازحين كبير جداً في المدارس، ومن يريد الدخول إلى المرحاض عليه الانتظار في طابور طويل، أما من يتمكن من الاستحمام مرة واحدة في الأسبوع يعتبر عريساً في ظل هذا الوضع، فأنا على سبيل المثال مرّ أسبوعان دون أن أتمكن من الاستحمام نتيجة شح المياه".
حتى لو تمكّن معتصم من الاستحمام، سيتلقى إشارة بعد دقائق للتوجه إلى مكان مستهدف، حينها كما يقول "سأتلطخ بالدماء وغبار الصواريخ وهو ضار بالصحة يسبب السرطان، وقد وصل إلى المزروعات لذلك توقفت عن تناول الطماطم والخيار واكتفيت بأكل الخبز والزعتر إذا توفرا".
في الحالات الطبيعية يفترض بعد التعرض لغبار الصواريخ والركام أن يشرب المسعفون الحليب، لكن يقول معتصم "من أين سنحصل عليه؟ فحتى مياه الشفة (الصالحة للشرب) أصبحت حلماً صعب المنال، اليوم على سبيل المثال بقيت من دون طعام حتى المساء، إلى أن قدّم لي مواطن سندويش زعتر وعبوة مياه شربتها رغم أنها كانت أجاجاً"، ويؤكد "لم يسلم من هذه الحرب لا الوزير ولا الغفير، ومن يحصل على ربطة خبز يعتبر ملكاً الآن".
ويضيف "المعاناة كبيرة جداً، النفايات في الشوارع، فعمال النظافة لا يمكنهم التحرك حتى داخل مدينة غزة، الأمراض بدأت تنتشر، ظهر الطفح الجلدي بين النازحين في المدارس. لم أتخيل أن يأتي يوم نحرم فيه من كل شيء حتى من الهواء النقي".
سقوط البروتوكولات
كل قوانين وبروتوكولات التعامل في مركبات الإسعاف سقطت، حيث تحوّلت إلى وسيلة نقل سريعة، ويواجه المسعفون كما يقول المتحدث باسم الدفاع المدني في غزة، محمود البصل، "صعوبة في توفير المعدات اللازمة لمركباتهم، فالأوكسجين، على سبيل المثال وإن كان متوفراً في المستشفيات، إلا أن الوصول إليها لتعبئته ليس بالأمر السهل في ظل الحرب".
ويضيف "كما أن عدد المصابين وحجم الإصابات كبير، ولو أردنا نقل مصاب أو اثنين في المركبة، كما يفترض، عندها سنحتاج إلى أسطول من المركبات، لذلك قد ننقل عشرة مصابين دفعة واحدة، أيضا يصعب التعامل مع الحالات، لأن جلّها بتر وحروق عميقة".
ومن المفترض أن تتحرك مركبة الاسعاف إلى مكان الاستهداف بناء على إشارة من غرفة عمليات الدفاع المدني، وفي ظل انقطاع الاتصالات يتم التحرك، وفق بصل، "بناء على سماع صوت القصف، لكن يمكن أن تحصل عدة استهدافات في اللحظة الواحدة، عندها يمكن أن نتعامل مع استهداف واحد، دون أن نعلم بالبقية وهو ما حدث معنا قبل أسبوع، كما يمكن معرفة المكان المستهدف من خلال وصول حالة إلى المستشفى".
في المقابل، تقول إسرائيل إن غاراتها الجوية تستهدف البنية التحتية العسكرية لحماس ومستودعات الأسلحة في غزة.
ويؤكد الجيش الإسرائيلي أنه يشن ضربات دقيقة تستهدف قادة حماس أو مواقع العمليات، وإنه لا يستهدف المدنيين، لكنه أيضا يتحدث عن زرع المسلحين في المناطق المدنية في جميع أنحاء قطاع غزة، وفقا لوكالة "أسوشيتد برس".
وقالت وحدة المتحدثين باسم الجيش الإسرائيلي، في وقت سابق لموقع "الحرة"، إن "عدم المساس بالمدنيين خلال الغارات على القطاع يمثل مصلحة مشتركة لمواطني غزة ودولة إسرائيل"
وارتفعت حصيلة القتلى والجرحى منذ بدء الحرب حتّى 2 نوفمبر الحالي، إلى أكثر من 9 آلاف قتيل، بحسب وزارة الصحة في غزة.
وأعلنت الوزارة عن توقف مستشفى الصداقة التركي عن العمل جراء القصف ونفاد الوقود، "علماً أنّه المستشفى الوحيد لعلاج مرضى السرطان، ما جعل 70 مريضاً معرّضين للخطر، لافتة إلى تعرّض مستشفى الحلو في مدينة غزة للقصف".
وكشفت الوزارة أن "16 مستشفى من أصل 35 توقّفت عن العمل جراء القصف ونفاد الوقود"، موضحةً أن الأطباء ما زالوا مجبرين على إجراء العمليات الجراحية من دون تخدير، بمن في ذلك أولئك الذين أُصيبوا نتيجة القصف، والنساء اللّواتي يلدن بعمليات قيصرية".
لم يعد بإمكان معتصم تحمّل ما يدور، يشعر أنه سينهار، يرغب بالجلوس في "زاوية" فارغة والبكاء، لكن كما يقول "حتى ذلك صعب المنال، فالأماكن الوحيدة الفارغة في غزة الآن هي المستهدفة"، ويشدد "يكفي، لم نعد نحتمل مزيداً من موت الأبرياء".
وتسلّل مئات من مسلحي حركة حماس، المصنفة إرهابية، إلى إسرائيل من غزة في هجوم أسفر عن مقتل أكثر من 1400 شخص في إسرائيل، معظمهم من المدنيين، بحسب السلطات الإسرائيلية.
وردت إسرائيل على الهجوم بقصف مكثف على غزة تسبب بمقتل أكثر من 9061 فلسطيني، معظمهم من المدنيين، بحسب آخر إحصائيات وزارة الصحة في القطاع التابعة لحماس.