مثلما تبدو معادلة "لا ديمقراطية بدون ديمقراطيين"، صحيحة الى حد ما في حال تطبيقها على التجارب المتعثرة للتحول الى الديمقراطية في المنطقة العربية، فان معادلة مشابهة من نوع " لا إصلاح بدون إصلاحيين" توفر فرصة لقراءة الاسباب التي ادت الى تراجع فكرة الاصلاح في النصف الاول من القرن الماضي في البلدان العربية، لصالح فكرة الانقلاب او "التغيير الجذري" الذي أنهى مرحلة التطور التدريجي للدول والمجتمعات. وبدا غياب الإصلاح كتيار مؤثر، وضعف فعالية الإصلاحيين في الاوساط السياسية والاجتماعية، سببين في دخول المنطقة العربية مرحلة "الحكم بقبضة من حديد" التي اوصلت الدول والمجتمعات الى مرحلة من التفسخ القيمي والاقتصادي، مما سمح ليس بانهيارها وحسب، بل بتوفير بيئة خصبة لصعود قيم التطرف والتشدد، مما ادخل المنطقة كلها في اتون موجات من الصراعات المسلحة التي عبرت الدول العربية، لتصبح تهديدا للأمن والسلم العالميين.
وكانت منطقتنا عرفت الحركة الإصلاحية في العصر الحديث، عبر ما شهدته مصر التي عرفت مبكرا الاتصال مع الحضارة الغربية، مما شكل تحديا للأوضاع المحلية، فظهرت "بوادر وعي بأزمة العرب والمسلمين وتخلفهم عن الحضارة والتقنية الغربية، وكانت هناك حقيقة تؤكد أن واقع المسلمين المتخلف يعود إلى حالة الجمود والركود في الحياة الاجتماعية والدينية، فاختار البعض فكرة الاصلاح عبر التوجه نحو "تبني نظريات الغرب العلمانية اي نظرية فصل الدين عن الدولة"، فيما ذهب البعض الاخر الى أن الإسلام حي وقادر على التفاعل، وتراجعه عائد الى "أفكار دخيلة عليه وقيم اجتماعية متخلفة" هي من ادخلت العالم الإسلامي الى "الفترة المظلمة".
هنا انقسمت الدعوة الى الإصلاح بين تيارين، الاول: هو المؤمن بالحداثة عبر الاتصال التدريجي مع الغرب وقيمه العلمية والفكرية مع الحفاظ على الملامح الاصيلة عربيا واسلاميا، والثاني هو السلفي الذي يرى في العودة الى اصول الاسلام التي ثبّتها "الاسلاف" حلا للمأزق الذي وصلته المجتمعات الاسلامية والعربية.
وهنا ايضا:
*سقط التيار الاصلاحي الاول "العلماني" الذي يؤمن بانتقال تدريجي الى الحداثة، مع انهيار انظمة الحكم الملكية والتقليدية ووصول الجمهوريين والانقلابيين العسكريين الى السلطة ودخولهم مرحلة الصدام العنيف مع مجتمعاتهم اولا وشن الحروب الخارجية ثانيا حد تعريض بلدانهم الى الاحتلال الاجنبي.
*وسقط التيار الثاني "الاسلامي" حين صارت السلفية ارضية للتشدد والتعصب والانغلاق، وصارت لاحقا بزواجها مع السياسات الحكومية المحافظة، مصدرا لقيم التطرف المسلح، القرين بالمجموعات الارهابية حاليا.
اللافت هنا ان يكون "العلماني" الديكتاتوري، اي الانظمة الجمهورية "الثورية" التي قامت على اسقاط الملكيات غير الدينية، مصطفا في الموقع ذاته مع "السلفي" المتصالح مع الملكيات الدينية في تدمير فكرة الإصلاح والتطور التدريجي.
سقوط الدعوات الاصلاحية، لم يكن بسبب ممانعة المجتمعات العربية والاسلامية لفكرة الاصلاح والتطور التدريجي السلمي وحسب، بل لغياب الاصلاحيين وضعف تأثيرهم فكريا واجتماعيا، حيال الزخم الكبير للانقلابيين و"الثوريين" و"التقدميين" الذين صاروا، بقصد ام بدونه، ارضية مناسبة للديكتاتوريات السياسية العلمانية منها ام الدينية، ومن هنا تبدو فكرة الاصلاح المطروحة حاليا، وهي تفتقر الى الاسباب الموضوعية لتحولها الى وقائع حية عبر خطوات ملموسة دستوريا واجتماعيا وفكريا، ذلك انها قبل كل شيء بلا اصلاحيين، فهم حتى وإن وجدوا، يفتقرون الى اشكال التأثير، وسط مجتمعات منقسمة بقوة ودول دخلت حروبا اهلية، وسلطات تعلي وجودها على انقاض القيم العادلة، فهي سلطات القمع والفساد علمانية كانت ام اسلامية.
لكن غياب الاصلاحيين، ليس مبررا للاستسلام والقبول بانهيار المجتمعات والدول والقيم، واذا كانت فكرة الاصلاح التي انتجت مرحلة النهضة العربية في الثلث الاول من القرن الماضي، اعتمدت الدور الرائد والفردي للإصلاحيين، فان الدور اليوم يتركز على المسؤولية الاوسع للمجتمعات ذاتها، عبر تطوير التجارب الناشئة للديمقراطية في عدد من البلدان العربية، وتحويل الاحتجاج على تردي الاوضاع السياسية والامنية والاجتماعية، من ثقافات الانقلاب والثورات المسلحة علمانيا، والتشدد الفكري وصولا الى الارهاب اسلاميا، الى التغيير التدريجي عبر عملية اصلاحية حقيقية، وبدونها فالبلدان والمجتمعات ستكون نهبا لقيم التطرف، وصيدا سهلا للمجموعات الارهابية.
الصورة: جانب من تظاهرات العراقيين المطالبة بتحقيق الاصلاح في مؤسسات البلاد/وكالة الصحافة الفرنسية