يقضي الطفلُ رعد على غير عادته معظم يومه جالساً في أحد أركان الخيمة التي تؤويه وبعض افراد عائلته في مخيمٍ للنازحين في كردستان العراق. فذلك الطفلُ الضاحكُ الذي كان يقضي معظمَ يومه في اللعب، صار خائفاً ومنعزلاً لا ينامُ من الليل إلا القليل، بعد أن ظل أسيرَ تنظيم داعش لثمانية أشهر "كانت كأنها ثمانيةُ أعوام".

رعد، ذو الثلاثة عشر ربيعاً، واحدٌ منْ بينِ عشرات الأطفال الأيزيديين الذين أجبرهم التنظيم المتشدد على الذهاب إلى مدارسَ يُريدُ منها تغييرَ دينهم وتدريبهم على القتل والقتال، حسب النائبة في مجلس النواب العراقي فيان دخيل.

وقالت دخيل إن عدد الأيزيديين الهاربين من سيطرة التنظيم المتشدد منذ العام الماضي بلغ قرابة 1950 من بينهم 900 طفل دون سن السادسة.

الطفلُ رعد لا يكادُ ينامُ ليلاً حتى يستيقظَ مستنجداً بأبيه خوفاً من تنظيم داعش.

تحدث رعد لموقعنا بعربيةٍ بسيطةٍ وهو يسردُ لنا رحلة الأسر ومن ثم رحلة نيل الحرية.

بداية رحلة الأسر

بدأت معاناة رعد وعائلته المكونة من 12 شخصاً في شهر آب/اغسطس من عام 2014 حين أسرهم التنظيم المتشدد برفقة العديد من العوائل وهم في طريقهم للهرب من قريتهم.

ولم يسلم سوى الأب الذي ظل محاصراً في جبل سنجار لخمسة أشهرٍ قبل فك حصارهم، ليظل منتظراً خلاص زوجته وابنائه وبناته من قبضة داعش.

بعد أسرهم، نُقلت العائلة إلى احدى المدنِ السورية حيث ظلوا هناكَ في بنايةٍ مدرسية. وكان أعضاء التنظيمُ المتشدد يقدمون الطعام لهم في أحذيةٍ، في محاولة لإذلالهم، حسب الأب الذي فضل عدم نشر اسمه خوفا على حياة عائلته.

اختار التنظيمُ اثنتين من أخوات رعد ليعطيهن "هديةً" لاثنين من أعضاءه، وشاهد رعد تلك اللحظة التي يتذكرها بكل مرارةٍ وهو يرى أختيه تستنجدان، ولكن دون فائدة.

ويتذكر رعد "كانوا يصرخون بينما سحبهم داعشي من شعرهن".

بعدها بأيام، أرسلت العائلة الى العراق وتنقلت بين مدن مختلفة ليستقر بهم المقام في أحد أحياء الموصل بعد أن "سُبيَت" كل بنات العائلة وكنَّ دون سن السادسة عشر.

 بنات متنكرات

أرسلَ التنظيمُ المتشدد الطفل رعد إلى مدرسة خُصِصَت لأطفالٍ أيزيديين مُختَطفين، ليدرسوا فيها دروس القرآن والتدريب على السلاح. وهناك رأى رعد بناتاً دون سن الثامنة وهن يتقمصن دورَ الأولاد خوفاً من "السبي".

وهناك أيضاً رأى رعد كيف جند التنظيمُ بعض الأطفالِ ليعملوا "مخبرين" يتجسسون على الأطفال المخطوفين.

وقال رعد "كان معنا سبع بنات تنكرن على أنهن أولاد، ولكن التنظيم كشف بعضهن".

تدرب الطفل رعد على استخدام البندقية والمسدس حتى يصبح أحد "جنود الدولة الاسلامية". وكان الضربُ نصيبَ الأطفال عند محاولتهم اللعبَ قليلاً خارج الوقتِ المخصصِ لهُم.

لم يفهم الطفلُ رعد صراخ بعض الاطفال عند عودتهم من جلساتِ يأخذهم إليها أفرادٌ من التنظيم المتشدد، حتى شرح له أحد الأطفال أنهم كانوا يتعرضون للاغتصاب، فزاد رعبُهُ وبدأ البحث عن سبيلٍ للخلاص.

ثلاثة أيام.. نحو الحرية

لاحت فرصة الخلاص لرعد عندما همس له أحد الصبية الأكبرُ منه عمراً عن نيته الهروب، فما كان من رعد الراغب بالعودة إلى أبيه إلا أن يقول لهُ: أنا معك. كان ذلك في شهر نيسان/أبريل من العام الحالي.

سار الطفلان قبل مغيب الشمس بقليل، صوبَ الشمالِ، نحوَ الحريةِ والأمان بلا طعامٍ ولا ماءٍ.

وبقلبٍ يكادُ يتوقف من الخوفِ تدافعت قدماهما خارج مدينة الموصل. كانا يسيران ليلاً حتى إذا طلعت الشمسُ اختبئا بين الأعشاب، وتواريا عن الأنظار.

في يومهم الثاني وقرب إحدى القرى، التقيا بأطفال ونساء هاربين من داعش، ليصبح عددهم 13 هارباً من الجحيم. كان أحدهم يحملُ هاتفاً جوّالاً.

اتصل الهاربون بوالد رعد الذي يقول عن ذلك الاتصال " لم أصدق أذني، خرجتُ راكضاً لا أدري إلى أين". فساقته قدماه إلى وحدة عسكرية لقوات البيشمركة الكردية، التي أرسلت بدورها عناصراً تعودوا على عمليات الانقاذ ليجدوا رعد ومن معه بعد أن قضوا اكثر من ثلاثة أيام سيراً على الأقدام نحو الحرية.

تغيير للغة

الطفلة "لوزانا" والبالغة من العمر خمسة أعوام، أصيبت بمرض السكري بسبب "الخوف والضرب المستمر من قبل عناصر داعش "حتى تتعلم العربية وتنسى اللغة الكردية، حسب عمتها التي كانت برفقتها في الأسر. .

فبعد أسرهم من مدينة تلعفر في شهر تشرين الأول/اكتوبر من العام الماضي، نقلت الطفلة لوزانا ومعها عمتها إلى مدينة حلب السورية لتبقيا هناك أسيرتين عند أحد أفراد داعش.

قالت لوزانا بلهجةٍ سورية تعلمتها في الأسر أنهم كانوا يضعون فلفلاً حاراً في فمها إذا تكلمت الكردية، مصحوباً بالضرب. ولما كررت الطفلة خطأها، قام احد عناصر داعش بتعليقها على جذع نخلة لتظل ليلةً كاملةً وهي معلقة على الجذع وعمتها تجلس تراقبها ولا تستطيع نجدة الطفلة الباكية المستغيثة خوفاً من العقوبة.

هربت لوزانا بمساعدة مهربين برفقة عمتها بعد أن قضيا ستة أشهر في الأسر، لتعود لوزانا فتستقر في مخيم للنازحين في إقليم كردستان العراق، حيث لا يوجد العلاج الكافي ولا يسمح لها بالسفر للعلاج لأنها لا تملك الوثائق الثبوتية اللازمة.

معاناة مستمرة

قال الناشط الأيزيدي فيصل كتي من المركز الأيزيدي للتوثيق أن الطفل رعد والطفلة لوزانا وعائلتيهما والكثير من العوائل الأيزيدية الأخرى "محرومون من المساعدات الحكومية" لأنهم لا يحملون وثائقهم الثبوتية التي صادرها تنظيم داعش او فُقدت أثناء هربهم بعجالة خوفاً على حياتهم.

ويضيف كتي أنه يتعامل مع أطفال لا تتجاوز أعمارهم الست سنوات لكنهم "يجيدون استخدام البنادق والرماية بها بكل مهارة" لأن التنظيم المتشدد دربهم على استخدامها.

وأوضح كتي أن الاطفال الهاربين من قبضة التنظيم يعانون من مشاكل كثيرة، نفسية وجسدية، فكلهم يحتاجُ إلى رعايةٍ خاصة لا تتوفر في المخيمات الحالية التي تفتقد الى الكثير من مقومات الحياة الأساسية.

الطفلة لوزانا والطفل رعد ما زالا ينتظران خلاص بقية أفراد عائلتيهما من أسر تنظيم داعش المتشدد، برفقة المئات من العوائل الأخرى التي لا تعرف مصير ابنائها وبناتها.

وبينت النائبة دخيل أن محاولات انقاذ العوائل الايزيدية لم تقتصر على محاولات هرب العوائل ومساعدة الناشطين بل تضمنت شراء الاطفال والنساء عند عرضهم للبيع.

وأضافت "بكل مرارةٍ أقولها نعم نحن نحاول شراء بناتنا وابنائنا عندما يعرضهم داعش للبيع في الاسواق وبالتعاون مع الكثير من الشرفاء".

الصورة: فيان دخيل "نحاول شراء بناتنا وابنائنا عندما يعرضهم داعش للبيع في الاسواق"/وكالة الصحافة الفرنسية

المزيد من المقالات

مواضيع ذات صلة:

الحرب أدت إلى تدمير جزء كبير من البنية الأساسية في قطاع غزة بما في ذلك المراكز التعليمية
الحرب أدت إلى تدمير جزء كبير من البنية الأساسية في قطاع غزة بما في ذلك المراكز التعليمية

مع بدء السنة الدراسية الجديدة في معظم أنحاء الشرق الأوسط، يجد تلاميذ قطاع غزة أنفسهم للعام الثاني على التوالي دون مدارس ينهلون منها العلم والمعرفة، مما حدا برهط من المسؤولين والأهالي إلى إيجاد بعض الحلول الفردية، وفقا لتقرير نشرته صحيفة "وول ستريت جورنال" الأميركية.

وكان من المفترض أن يبدأ العام الدراسي الجديد رسميا هذا الأسبوع، في القطاع الذي يشهد حربا شرسة منذ أكثر من أحد 11 شهرا بين الجيش الإسرائيلي وحركة حماس، المصنفة "منظمة إرهابية" في الولايات المتحدة ودول أخرى.

وأدى القصف إلى تدمير جزء كبير من البنية الأساسية الحيوية في القطاع الفلسطيني، بما في ذلك المراكز التعليمية، التي كانت تستوعب نحو مليون تلميذ تحت سن 18 عاماً، وفقاً للأمم المتحدة.

وفي ظل صعوبة تأمين مساحة آمنة لتدريس الأطفال، قررت وفاء علي، التي كانت تدير مدرسة بمدينة غزة قبل الحرب، فتح فصلين دراسيين في منزلها شمالي القطاع، حيث يتجمع العشرات من الأطفال لتعلم العربية والإنكليزية بالإضافة إلى مادة الرياضيات.

وقالت علي: "أرادت الأسر أن يتعلم أطفالها القراءة والكتابة بدلاً من إضاعة الوقت في المنزل، خاصة أن الحرب لن تنتهي قريبا".

ولا يستطيع المعلمون الوصول إلا إلى نسبة صغيرة من الأطفال الذين حرموا من التعليم بسبب الحرب، التي بدأت بعد أن هاجمت حركة حماس إسرائيل في 7 أكتوبر، مما أسفر عن مقتل 1200 شخص، معظمهم من المدنيين، وبينهم نساء وأطفال، حسب بيانات رسمية.

وردًا على ذلك، شنت إسرائيل عملية عسكري أدت إلى مقتل أكثر من 41 ألف شخص، غالبيتهم من النساء والأطفال، وفقًا لوزارة الصحة في القطاع.

"نبذل قصارى جهدنا"

من جانبها، أوضحت آلاء جنينة، التي تعيش حاليا في خيمة بوسط قطاع غزة، أن طفلها البالغ من العمر 4 سنوات وابنتها ذات السبع سنوات، يتلقيان دروسًا في خيمة قريبة.

وقالت المراة البالغة من العمر 33 عاما، إنها زارت مؤخرا "مدرسة الخيام"، مضيفة: "لقد أحزنني ذلك. ليس لديهم ملابس أو حقائب أو أحذية. لكننا نبذل قصارى جهدنا".

وتقول وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "أونروا"، التي تدير عشرات المدارس بالقطاع، إن أكثر من ثلثي مدارسها دُمرت أو تضررت منذ بدء الحرب.

ووفقا للوكالة، فقد قُتل "مئات" الفلسطينيين الذين نزحوا إلى مرافق الأونروا، ومعظمها مدارس، بينما تؤكد إسرائيل
أن ضرباتها على المدارس وملاجئ الأونروا "تستهدف المسلحين الذين يستخدمون تلك المرافق"، وهو أمر تنفيه حركة حماس.

ورفضت هيئة تنسيق أعمال الحكومة في المناطق، وهي الهيئة العسكرية الإسرائيلية المسؤولة عن التنسيق مع جماعات الإغاثة، التعليق، كما لم يستجب مكتب رئيس الوزراء الإسرائيلي لطلب التعليق من الصحيفة الأميركية.

"بقع لليأس والجوع"

وقالت "الأونروا" إنها أطلقت برنامج العودة إلى التعلم، الذي سيجلب حوالي 28 ألف طفل إلى عشرات المدارس، لافتة إلى أن ذلك البرنامج سيركز على "الدعم النفسي والفنون والرياضة ومخاطر الذخائر المتفجرة، ثم سيتعمق أكثر في مواد القراءة والكتابة والرياضيات".

وفي هذا الصدد، قال المفوض العام للأونروا، فيليب لازاريني، الأربعاء، على وسائل التواصل الاجتماعي: "الكثير من المدارس لم تعد مكانًا للتعلم. لقد أصبحت بقعا لليأس والجوع والمرض والموت".

وتابع: "كلما طالت فترة بقاء الأطفال خارج المدرسة.. كلما زاد خطر تحولهم إلى جيل ضائع. وهذه وصفة للاستياء والتطرف في المستقبل".

من جانبه، أوضح الباحث في مركز دراسات النزاع والعمل الإنساني بقطر، معين رباني، أن قطاع غزة "كان لديه معدلات تعليم عالية نسبيًا، على الرغم من نسب الفقر الكبيرة التي تسوده".

وأضاف رباني أن الفلسطينيين "سعوا منذ فترة طويلة إلى التعليم للتقدم وسط ظروف اقتصادية صعبة، حيث وقد وفرت لهم الأمم المتحدة ومنظمات غير حكومية مختلفة فرصًا تعليمية جيدة".

ولفت في حديثه للصحيفة الأميركية، إلى أن العديد من الفلسطينيين في غزة "اعتادوا على فقدان أراضيهم ومنازلهم وممتلكاتهم، وبالتالي اهتموا بالتعليم، لأنه أمر يمكنك أن تأخذه معك أينما ذهبت".

وهناك ثمن نفسي للابتعاد عن المدرسة على الأطفال أيضًا، إذ قالت ليزلي أركامبولت، المديرة الإدارية للسياسة الإنسانية في منظمة إنقاذ الطفولة الأميركية، إن قضاء عام بعيدًا عن المدرسة والأصدقاء والملاعب والمنازل خلال صراع مسلح عنيف، "يمثل إزالة للركائز الأساسية للاستقرار والسلامة للأطفال".

وشددت على أن "عدم اليقين والتوتر وفقدان المجتمع، يمكن أن يؤدي إلى تحفيز أنظمة الاستجابة الطبيعية للتوتر في الجسم، والتي يمكن أن تكون ضارة بمرور الوقت".

واستطردت حديثها بالتأكيد على أن "تكرار هذه الأعراض أو استمرارها لفترات طويلة، قد يؤدي إلى مجموعة من النتائج السلبية على الصحة العقلية، التي لا يتعافى منها الأطفال بسهولة".

وكانت منظمة الأمم المتحدة للطفولة (اليونيسيف)، قد كشفت في وقت سابق هذا الشهر، أن الأطفال في قطاع غزة "هم الفئة الأكثر تضررًا" مما يحدث هناك، وهم بحاجة ماسة لدعم نفسي وتعليمي بشكل عاجل.

وقال الناطق باسم المنظمة، كاظم أبو خلف، في تصريحات نقلتها وكالة الأنباء الفلسطينية (وفا)، إن الوضع الحالي في غزة "يتطلب استجابة عاجلة لمساعدة الأطفال الذين يعانون من فقدان التعليم والأضرار النفسية الجسيمة التي يتعرضون لها".

وشدد على أن "جميع الأطفال في القطاع يحتاجون إلى دعم نفسي، حيث فقد ما لا يقل عن 625 ألف طفل عامًا دراسيًا منذ بدء الحرب.. وبعض الأطفال تعرضوا لبتر أطرافهم وهم بحاجة إلى الخروج من القطاع لتلقي العلاج، فيما يعاني العديد من الأطفال من الخوف والقلق بسبب الحرب".