منذ بداية الثورة السورية، رفع المتظاهرون مطالب إصلاحية راحت تتدرّج في حدتها إلى أن وصلت حدّ المطالبة بإسقاط النظام. وفي المقابل، لم تستجب السلطة للدعوات إلى التغيير وفضّلت اعتماد الحل الأمني فتفاقمت الأزمة إلى أنْ خرجت قوى المعارضة السلمية من المشهد، وأخليت الساحة للحركات المتطرفة.
من القمع إلى الثورة
مطالب الإصلاح في سوريا ليست جديدة. فبعد فترة من وصول الرئيس السوري بشار الأسد إلى السلطة عام 2000، وُلد ما عُرف بـ"ربيع دمشق". ظنّ المعارضون أن الظروف تغيّرت ونشطت اللقاءات الحوارية داخل سوريا وبشكل خاص في العاصمة دمشق، وأنتجت "إعلان دمشق" الداعي إلى تغيير في نهج النظام. ولكن لم تكتمل سنة 2001 حتى كان النظام قد خنق الحراك الوليد.
تواصلت سياسة القمع في عهد الرئيس الأسد الابن وأدى ما سمّي بـ"الإصلاح الاقتصادي" إلى آثار شديدة السلبية على المواطنين الفقراء وخاصة في الريف السوري. وبدأت كرة ثلج الامتعاض تكبر حتى وصل "الربيع العربي" إلى سوريا.
تدرّج مطالب الثوار
بدأ الأمر مع تظاهرات صغيرة في بعض المدن السورية في 15 آذار/ مارس، واستمر في 18 آذار 2011 مع تظاهرات أخرى أبرزها تلك التي خرجت في مدينة درعا، المدينة التي كانت تغلي بسبب اعتقال الأجهزة الأمنية بضعة أطفال وتعذيبهم لأن أحدهم كتب على الحائط "الشعب يريد إسقاط النظام". سقط أربعة قتلى مدنيين بسبب إطلاق النار على المتظاهرين.
يعتبر البعض أن الأمر كان يمكن أن يقف عند ذاك الحد لو بادر النظام السوري إلى الاستجابة لمطالب الناس البسيطة المتمحورة حول إقالة مسؤول أمني هنا أو آخر هناك، وبرفع حالة الطوارئ المفروضة منذ عام 1963 وإطلاق خطة إصلاحية جدية يشارك فيها كل أطياف الشعب. ففي تلك الفترة، كان الأسد لا يزال يتمتع بدعم أكثرية الشعب السوري.
الإصلاحات المخادعة
اتخذ النظام السوري قرارات إصلاحية عدّة عام 2011. بدأت السلسلة مع المرسوم التشريعي رقم 49 الذي منح الجنسية لجزء من الأكراد المحرومين منها. وتلته مراسيم رفع حالة الطوارئ (رقم 161) وإلغاء محكمة أمن الدولة (رقم 53) وقانون تنظيم عمل الأحزاب. كما شُكّلت هيئة للحوار الوطني وعُيّنت لجنة لاقتراح قانون جديد للإعلام.
يعتبر معظم المراقبين المحايدين أن الخطوات المذكورة كانت مجرّد حبر على ورق وكانت موجّهة إلى الدول الخارجية لا إلى المواطنين السوريين، كخطوات يمكن أن تستثمر في الدعاية الرسمية.
ولكن الدعاية السورية لم تنفع. كان ما يجري واضحاً للعالم وقد لخّصه وزير الدفاع الأميركي روبرت غيتس بقوله إن "ما تواجهه الحكومة السورية هو في الحقيقة نفس التحديات التي تواجه العديد من الحكومات في أنحاء المنطقة وهي مظالم شعوبها السياسية والاقتصادية التي لم تلبَّ".
وفي الداخل، ظهر واضحاً أن النظام يرفض الانفتاح على القوى الشعبية ولجأ إلى الحل الأمني. فبعد خمسة أيام من تظاهرة درعا الكبيرة، هاجم الجيش السوري الجامع العمري هناك وفتح النار على المدنيين المصرّين على الاستمرار في الاحتجاج. وبعد خمسة أشهر من الثورة التي هتف خلالها المتظاهرون "سلمية سلمية"، كان قد قُتل 2200 سوري، بحسب بيانات الأمم المتحدة.
وبموازاة الحل الأمني، راح المسؤولون السوريون ينكرون في تصريحاتهم شرعية الاحتجاجات الشعبية. فمنذ أول تصريح رسمي يعلّق على الأحداث، قالت مستشارة الرئيس بثينة شعبان، في 24 آذار/مارس أن ما يجري هو مؤامرة، وهي المفردة التي راحت تتناسل على ألسنة كل الرسميين. فالأسد تحدث في أول خطاب له، في 31 آذار/مارس عن "فتنة" وعن "تغرير" بالمتظاهرين. وأكّد على أهمية الإصلاح ولكنه قال: "نريد أن نسرع وألا نتسرع".
وفي الحقيقة، رُفعت حالة الطوارئ لكن لم يتوقف الحل الأمني. فبعد يوم من رفعه قُتل نحو مئة متظاهر واعتُقل نحو ألف دون أن يسلك اعتقالهم المسار القضائي المفروض، وأّلغيت محكمة أمن الدولة ولكن عدم استقلال القضاء جعل المحاكم المدنية تمارس نفس دور المحكمة الملغاة. أما الحوار الوطني الذي دعت إليه السلطة فلم يكن جدياً بسبب تصنيفها معظم المعارضين وخاصةً المنفيين منهم كأشخاص غير وطنيين، وبسبب رفض المعارضين فكرة التحاور في وقت تزداد حدّة أعمال القمع التي راحت تتخذ شكل الحرب.
ميلاد المتطرفين
أمام تفاقم الأزمة، التقت "مجموعة العمل من أجل سوريا" بدعوة من الأمم، في حزيران/يونيو عام 2012، وأصدرت ما يُعرف ببيان جنيف(1). طالب البيان بـ "إقامة هيئة حكم انتقالية باستطاعتها أن تُهيّئ بيئة محايدة تتحرك في ظلها العملية الانتقالية"، وبإعادة النظر بالدستور وعرض تعديلاته على استفتاء شعبي قبل تنظيم انتخابات حرة. لكن النظام رفضه وتشدّدت المعارضة في تفسيره لأنها استعجلت رحيل الأسد.
وبرغم انسداد أفق الحل، تصرّف النظام السوري وكأن كل شيء على ما يرام، فعدّل الدستور في شباط/فبراير عام 2012 ونظّم في أيار/مايو انتخابات نيابية. ثم في العام 2014، نظّم انتخابات رئاسية شهدت مشاركة ضعيفة لأن مناطق كثيرة كانت قد أصبحت خارج سيطرة النظام، وبالتأكيد فاز فيها بشار الأسد.
يعتقد البعض أن إصلاح النظام السوري بهدوء كان مستحيلاً لأن عصب هذا النظام هو مجموعة من الفاسدين المستفيدين منه. في كتابها "سوريا: بؤرة توتر"، قالت الكاتبة والصحافية الألمانية كريستين هيلبيرغ "كان بشار الأسد يتحدث عن الإصلاح، بينما كان شقيقه وصهره يعتقلون المعارضين للنظام، أما ابن خاله رامي [مخلوف] فكان يُحكم سيطرته على الاقتصاد. جرى توزيع الأدوار بإتقان. التغييرات السياسية الجوهرية كانت، منذ البداية، ضرباً من المستحيل في ظل هذا التكتل السياسي".
ومنذ البدايات، قال الكاتب السوري جاد الكريم جباعي "لو أن السلطة كانت قادرة على سماع صوت غير صوتها لفهمت رسالة شباب سوريا وسارعت معهم إلى ابتكار حل سياسي ينقل البلاد إلى أوضاع ديمقراطية يربح فيها الجميع".
لم يحصل ذلك. انسدّت كل الأفق أمام التغيير السلمي. تسلّح المعارضون بعد ستة أشهر من الثورة فخرج الناشطون المدنيون من المشهد. ولأن غابة الفلتان يسيطر عليها الأقوى، راح المعارضون يضعفون تدريجياً لتحلّ محلّهم مجموعات إسلامية استفادت من الصراع الإقليمي لتحصل على دعم بعض الدول، فكان أن صارت معظم الأراضي الخارجة عن سيطرة النظام تحت سيطرة تنظيم القاعدة وتنظيم الدولة الإسلامية.
الصورة: تفاقمت الأزمة في سوريا إلى أنْ خرجت قوى المعارضة السلمية من المشهد، وأخليت الساحة للحركات المتطرفة/وكالة الصحافة الفرنسية