مع انسحاب القوات الأميركية نهاية عام 2011، ومع نوع من الاستقرار السياسي والأمني والنجاحات ضد المجموعات الإرهابية، و"القاعدة" في مقدمتها، بدا العراق وكأنه يمضي على الطريق الصحيح. فالموارد المالية العالية والتوافق السياسي ووجود قوة عسكرية أنفق عليها الكثير من الأموال والخبرات العراقية والأميركية، كلها ظهرت وكأنها عوامل ضامنة لاستمرار التقدم وتحويل التجربة الديمقراطية الناشئة إلى مثال حقيقي بعد سنوات من العنف وإهدار الدم والفرص والأموال.

رسائل في الاتجاه المعاكس

وإذا كانت تظاهرات الاحتجاج الشعبي عام 2011 نذيرا بحاجة البلاد الى إصلاح سياسي يوصل إلى تحسن ملموس في حياة المواطنين أمنيا وخدماتيا، فإن حكومة الولاية الثانية لنوري المالكي اعتبرت نجاحها في قمع التظاهرات ثم إفراغها من مضمونها وحيويتها رسالة في قدرتها على مواجهة التحديات. لتوجه لاحقا رسائل اعتبرت "في الاتجاه المعاكس"، حين استهدف رئيسها عددا من الشركاء السياسيين السنة اولا ثم الكرد، مرة باتهامات الإرهاب وأخرى تتعلق بتقاسم النفوذ والثروات النفطية. فتراجعت الثقة في صفوف السنة إلى المخاوف، وهذه انتقلت إلى الاحتجاج العلني (الحراك الشعبي) الذي اعتبرته بغداد "مجرد فقاعة" مع التهديد المتواصل بإنهائه وضربه بالقوة المسلحة لاحقا. وهو ما تحقق في الفلوجة والحويجة، لتتحول الاحتجاجات السلمية الى أرضية مناسبة نشطت عليها المجموعات المسلحة الارهابية وحلفاؤها من انصار النظام السابق.

وبالتزامن مع غياب أي جدية في إصلاح المؤسسات الأساسية في البلاد ومنها الأمنية، شهد صيف عام 2013 عملية تهريب مئات المعتقلين من قادة تنظيم "القاعدة" وحلفائه من سجني "ابو غريب" و"التاجي"، و وصول أغلبهم إلى سوريا، لتصبح حكومة رئيس الوزراء نوري المالكي بقصد أم بدونه مساهمة في الإعلان الرسمي عن قيام "الدولة الاسلامية في العراق وسوريا" او "داعش"، التي صار القادة الهاربون من السجون العراقيون أركان وجودها الحقيقي.

وثمة إجماع بين خبراء ومسؤولين عراقيين وعرب ودوليين، على أن واقع الانقسام والصراع في تكوينات العراق السياسية والطائفية والعرقية، مع نزوع المالكي للاستمرار في قيادة البلاد وتركيزها تحت سلطته الشخصية والتصعيد ضد الشركاء غيّب أي إمكانية للإصلاح ودخول البلاد في أزمة بنيوية عميقة جعلتها منقسمة ومشتتة، وهو ما سهّل سقوط أكثر من ثلث البلاد تحت سيطرة "داعش".

والأزمة البنيوية في النظام العراقي الجديد التي مثلها نهج المالكي في الحكم، اعتبرتها واشنطن وعموم حلفاء بغداد سببا عائقا، ليس لإلحاق الهزيمة بالتنظيم الإرهابي وحسب، بل لبقاء العراق دولة ووجودا على قيد الحياة. فتقول وزيرة خارجية الاتحاد الأوروبي فيديريكا موجيريني "لن يكون من الممكن التغلب على التنظيم إلا إذا أصبح العراق دولة قوية ديمقراطية شاملا كل مكوناته السياسية"، مؤكدة أن "الخلاف في العراق بين السنة والشيعة ليس خلافا دينيا وإنما نزاعا على السلطة، وهذا من شأنه أن يضعف وحدة وتماسك القوى العراقية".

سياسات فاشلة

وترى الخبيرة الألمانية كريستين هيلبيرغ أنه "لن يدحر داعش سوى السُّنة". موضحة أن "ما نشاهده اليوم في العراق وسوريا - من تفكّك هاتين الدولتين وإلغاء حدودهما الوطنية وحالة غياب القانون ​​وانتشار الفوضى وظهور ميليشيات طغت في وحشيتها اللا إنسانية حتى على تنظيم القاعدة - أمرٌ له علاقة بحالة الجهل والارتباك، التي تعاني منها هذه السياسة الخارجية الغربية في الشرق الأوسط".

ويعزو خبراء أمن عراقيون صعود "داعش" إلى "سياسة التهميش والإقصاء وحملات التطهير الطائفية التي انتهجتها حكومة إبراهيم الجعفري في عام 2005 وحكومتا المالكي (من 2006 حتى 2013) ضد العراقيين السنّة، والتي ولّدت لدى الكثير منهم دوافع انتقام وتطرّف".

ومع الفشل في بناء جيش وقوى أمنية حقيقية، إذ "غلب على المؤسسة العسكرية وكذلك الأمنية الداخلية، الطابع الطائفي وعدم التخصص للقيادات والفساد المالي والإداري. وكانت أكبر فضائح المؤسسة الأمنية والعسكرية في العراق اكتشاف عشرات الآلاف من المنتسبين الوهميين الذين يتقاضون مرتبات، ما عرف حينها بـ"الجنود الفضائيين". إضافة إلى ملف أجهزة الكشف عن المتفجرات مع شركة بريطانية، وملف التسليح ضمن صفقات سلاح روسية وصينية وإيرانية، وعوامل أخرى تتعلق بطريقة بناء الجيش العراقي من قبل الأميركيين، وتلاشي عقيدة الوطن لدى الجنود مقابل الولاء للدين أو الطائفة"، كان من الصعب لمؤسسة بمثل هذه المواصفات أن تكون حافظة لأمن الوطن والمواطن، وهو ما انكشف في انهيارها السريع أمام بضع مئات من إرهابيي "داعش" كانوا في طريقهم إلى الموصل.

فرصة الإصلاح الممكنة؟

وعلى الرغم من تواصل المواجهة مع "داعش"، والمكلفة ماديا وبشريا، وتعثر إصلاح المؤسسة العسكرية والأمنية، فضلا عن تراجع الموارد المالية بسبب انهيار أسعار النفط، واستمرار الفساد وضعف محاربته، إلا أن فرصة الإصلاح في العراق ما تزال ممكنة حيث:

*المطالبة الشعبية بالإصلاح، وهذه المرة بدعم معلن وغير محدود من أقوى مؤسسة روحية مؤثرة في العراق، المرجعية الدينية العليا في النجف.

*بدء خطوات، وإن كانت مترددة وضعيفة، في ملاحقة أركان الفساد التي لم تنهب موارد البلاد وحسب، بل أسهمت في استمرار مافيات القتل والإرهاب.

*تمتع الحكومة الحالية بقبول عراقي وإقليمي ودولي يرقى أحيانا إلى الدعم المؤثر ماديا ومعنويا.

*عودة العامل الأميركي إلى العراق سياسيا وأمنيا بوصفه عاملا ضامنا للعملية السياسية.

*التوافق الأميركي الإيراني الذي يأتي في لحظة مهمة من الأزمة العراقية ما بعد العام 2003.

دعوة للنقاش

إنطلاقا من كل ما تقدم، هذه دعوة للمشاركة في النقاش الحي والمسؤول، وصولا إلى مشاركة بناءة في قراءة المشهد العراقي اليوم، عبر:

*هل تعتقد أن فرصة الإصلاح في العراق ممكنة؟

*كيف تقيم "الخطوات الإصلاحية" لرئيس الحكومة حيدر العبادي؟

*الى أي مدى تبدو الحركة الشعبية المطالبة بالإصلاح قادرة على إحداث تغيير في أوضاع البلاد؟

الصورة: مواطنون يتظاهرون في الرمادي، الأنبار عام 2012/وكالة الصحافة الفرنسية

المزيد من المقالات

مواضيع ذات صلة:

الحرب أدت إلى تدمير جزء كبير من البنية الأساسية في قطاع غزة بما في ذلك المراكز التعليمية
الحرب أدت إلى تدمير جزء كبير من البنية الأساسية في قطاع غزة بما في ذلك المراكز التعليمية

مع بدء السنة الدراسية الجديدة في معظم أنحاء الشرق الأوسط، يجد تلاميذ قطاع غزة أنفسهم للعام الثاني على التوالي دون مدارس ينهلون منها العلم والمعرفة، مما حدا برهط من المسؤولين والأهالي إلى إيجاد بعض الحلول الفردية، وفقا لتقرير نشرته صحيفة "وول ستريت جورنال" الأميركية.

وكان من المفترض أن يبدأ العام الدراسي الجديد رسميا هذا الأسبوع، في القطاع الذي يشهد حربا شرسة منذ أكثر من أحد 11 شهرا بين الجيش الإسرائيلي وحركة حماس، المصنفة "منظمة إرهابية" في الولايات المتحدة ودول أخرى.

وأدى القصف إلى تدمير جزء كبير من البنية الأساسية الحيوية في القطاع الفلسطيني، بما في ذلك المراكز التعليمية، التي كانت تستوعب نحو مليون تلميذ تحت سن 18 عاماً، وفقاً للأمم المتحدة.

وفي ظل صعوبة تأمين مساحة آمنة لتدريس الأطفال، قررت وفاء علي، التي كانت تدير مدرسة بمدينة غزة قبل الحرب، فتح فصلين دراسيين في منزلها شمالي القطاع، حيث يتجمع العشرات من الأطفال لتعلم العربية والإنكليزية بالإضافة إلى مادة الرياضيات.

وقالت علي: "أرادت الأسر أن يتعلم أطفالها القراءة والكتابة بدلاً من إضاعة الوقت في المنزل، خاصة أن الحرب لن تنتهي قريبا".

ولا يستطيع المعلمون الوصول إلا إلى نسبة صغيرة من الأطفال الذين حرموا من التعليم بسبب الحرب، التي بدأت بعد أن هاجمت حركة حماس إسرائيل في 7 أكتوبر، مما أسفر عن مقتل 1200 شخص، معظمهم من المدنيين، وبينهم نساء وأطفال، حسب بيانات رسمية.

وردًا على ذلك، شنت إسرائيل عملية عسكري أدت إلى مقتل أكثر من 41 ألف شخص، غالبيتهم من النساء والأطفال، وفقًا لوزارة الصحة في القطاع.

"نبذل قصارى جهدنا"

من جانبها، أوضحت آلاء جنينة، التي تعيش حاليا في خيمة بوسط قطاع غزة، أن طفلها البالغ من العمر 4 سنوات وابنتها ذات السبع سنوات، يتلقيان دروسًا في خيمة قريبة.

وقالت المراة البالغة من العمر 33 عاما، إنها زارت مؤخرا "مدرسة الخيام"، مضيفة: "لقد أحزنني ذلك. ليس لديهم ملابس أو حقائب أو أحذية. لكننا نبذل قصارى جهدنا".

وتقول وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "أونروا"، التي تدير عشرات المدارس بالقطاع، إن أكثر من ثلثي مدارسها دُمرت أو تضررت منذ بدء الحرب.

ووفقا للوكالة، فقد قُتل "مئات" الفلسطينيين الذين نزحوا إلى مرافق الأونروا، ومعظمها مدارس، بينما تؤكد إسرائيل
أن ضرباتها على المدارس وملاجئ الأونروا "تستهدف المسلحين الذين يستخدمون تلك المرافق"، وهو أمر تنفيه حركة حماس.

ورفضت هيئة تنسيق أعمال الحكومة في المناطق، وهي الهيئة العسكرية الإسرائيلية المسؤولة عن التنسيق مع جماعات الإغاثة، التعليق، كما لم يستجب مكتب رئيس الوزراء الإسرائيلي لطلب التعليق من الصحيفة الأميركية.

"بقع لليأس والجوع"

وقالت "الأونروا" إنها أطلقت برنامج العودة إلى التعلم، الذي سيجلب حوالي 28 ألف طفل إلى عشرات المدارس، لافتة إلى أن ذلك البرنامج سيركز على "الدعم النفسي والفنون والرياضة ومخاطر الذخائر المتفجرة، ثم سيتعمق أكثر في مواد القراءة والكتابة والرياضيات".

وفي هذا الصدد، قال المفوض العام للأونروا، فيليب لازاريني، الأربعاء، على وسائل التواصل الاجتماعي: "الكثير من المدارس لم تعد مكانًا للتعلم. لقد أصبحت بقعا لليأس والجوع والمرض والموت".

وتابع: "كلما طالت فترة بقاء الأطفال خارج المدرسة.. كلما زاد خطر تحولهم إلى جيل ضائع. وهذه وصفة للاستياء والتطرف في المستقبل".

من جانبه، أوضح الباحث في مركز دراسات النزاع والعمل الإنساني بقطر، معين رباني، أن قطاع غزة "كان لديه معدلات تعليم عالية نسبيًا، على الرغم من نسب الفقر الكبيرة التي تسوده".

وأضاف رباني أن الفلسطينيين "سعوا منذ فترة طويلة إلى التعليم للتقدم وسط ظروف اقتصادية صعبة، حيث وقد وفرت لهم الأمم المتحدة ومنظمات غير حكومية مختلفة فرصًا تعليمية جيدة".

ولفت في حديثه للصحيفة الأميركية، إلى أن العديد من الفلسطينيين في غزة "اعتادوا على فقدان أراضيهم ومنازلهم وممتلكاتهم، وبالتالي اهتموا بالتعليم، لأنه أمر يمكنك أن تأخذه معك أينما ذهبت".

وهناك ثمن نفسي للابتعاد عن المدرسة على الأطفال أيضًا، إذ قالت ليزلي أركامبولت، المديرة الإدارية للسياسة الإنسانية في منظمة إنقاذ الطفولة الأميركية، إن قضاء عام بعيدًا عن المدرسة والأصدقاء والملاعب والمنازل خلال صراع مسلح عنيف، "يمثل إزالة للركائز الأساسية للاستقرار والسلامة للأطفال".

وشددت على أن "عدم اليقين والتوتر وفقدان المجتمع، يمكن أن يؤدي إلى تحفيز أنظمة الاستجابة الطبيعية للتوتر في الجسم، والتي يمكن أن تكون ضارة بمرور الوقت".

واستطردت حديثها بالتأكيد على أن "تكرار هذه الأعراض أو استمرارها لفترات طويلة، قد يؤدي إلى مجموعة من النتائج السلبية على الصحة العقلية، التي لا يتعافى منها الأطفال بسهولة".

وكانت منظمة الأمم المتحدة للطفولة (اليونيسيف)، قد كشفت في وقت سابق هذا الشهر، أن الأطفال في قطاع غزة "هم الفئة الأكثر تضررًا" مما يحدث هناك، وهم بحاجة ماسة لدعم نفسي وتعليمي بشكل عاجل.

وقال الناطق باسم المنظمة، كاظم أبو خلف، في تصريحات نقلتها وكالة الأنباء الفلسطينية (وفا)، إن الوضع الحالي في غزة "يتطلب استجابة عاجلة لمساعدة الأطفال الذين يعانون من فقدان التعليم والأضرار النفسية الجسيمة التي يتعرضون لها".

وشدد على أن "جميع الأطفال في القطاع يحتاجون إلى دعم نفسي، حيث فقد ما لا يقل عن 625 ألف طفل عامًا دراسيًا منذ بدء الحرب.. وبعض الأطفال تعرضوا لبتر أطرافهم وهم بحاجة إلى الخروج من القطاع لتلقي العلاج، فيما يعاني العديد من الأطفال من الخوف والقلق بسبب الحرب".