بعدما أمضى أكثر من 10 أعوام في الاغتراب بين ألمانيا وبلجيكا والولايات المتحدة الأميركية، قرّر الشاب اللبناني سمير الزين العودة إلى بلاده وتحديدًا مدينته طرابلس في شمال البلاد. إرتبط جزء من عودته بظروف عائلية وجزء آخر برغبته في تحقيق إنجاز ما في موطنه ونقل خبرته إلى الديار.
على الرغم من الأجواء المشحونة والمتوترة التي سادت طرابلس في السنوات الأخيرة، تمكّن سمير من أن يبدأ عمله الخاص، وهو موقع الكتروني متخصّص بالأسهم والبورصة. لكنّ الأحوال الرديئة في البلاد عمومًا تجعله يفكّر بالهجرة مجدّدًا وإن كان لا يزال يحاول قدر الإمكان التمسّك بالبقاء في بلاده.
خيار التطرّف
يعتبر سمير أنّ مدينة طرابلس ليست منبعًا للتطرّف كما وُصمت، بل هي محافظة بطبيعتها. ويقول "الملتزمون دينيا في المدينة خلوقين".
يعود إلى جولات العنف التي شهدتها المدينة على مدى ثلاثة أعوام حتّى توقفت في أبريل/نيسان 2014 ويصنّف ما جرى وسط تداعيات غياب الإصلاح السياسي والانقسام الحاد في البلاد بين فريقي 8 و14 آذار.
يشرح إنّ الصراع الذي شهدته طرابلس كان بين طرفين لا يمتلكان الكفاءة. يصف فريقًا منهم، الذين شاركوا في الاقتتال، بالرجال من المستوى الثاني والطرف الآخر –أي السلطات الرسمية - بالمستوى الأوّل.
"ربما لو كنت في عمرٍ أصغر وكان اتساعي العقلاني أقلّ، لتمكّن المستوى الثاني من سحبي إلى العنف حين كانت الأحداث مندلعة في المدينة"، هكذا يقول سمير.
يوكّد أنّ المشكلة في لبنان، طرابلس تحديدًا، تكمن في غياب الدولة عن الحياة اليومية. ويقول "لا نرى رجال الأمن يفرضون القانون على الناس. لا يحب الناس رؤية مواطنين يفلتون من العقاب، هذا لا يشعرهم بالأمان".
إصلاح أمني
في أبريل 2014، نفّذت القوى الأمنية اللبنانية خطّة أمنية في المدينة هدفت إلى الحد من تداعيات الحرب الدائرة في الجوار السوري. وأسفرت المداهمات التي نُفذت في المدينة عن اعتقال معظم المتورطين بالعنف في المدينة، ليضافوا إلى عنابر من عرفوا بالمساجين الإسلاميين في لبنان.
سبق تطبيق الخطة الأمنية في طرابلس محاولة لزعزعة الثقة بين سكان طرابلس والجيش. وبرزت أزمة فعلية حول قدرة القوى الأمنية بمختلف أجهزتها أن تحفظ الأمن في المدينة. وشاع آنذاك تسجيل صوتي لأحد المواطنين يتّصل بقوى الأمن الداخلي ليجيبه أحد عناصر الأمن أنّه لا يمكنه القيام بشيء.
في دراسة تحت عنوان "رؤى لإصلاح قطاع الأمن في لبنان" نشرها الباحث الدكتور مصطفى أديب ضمن مبادرة الإصلاح العربي، يعتبر أديب أنّ "عدم الاستقرار السياسي والأمني المزمن يشجّع تجزّء مكونات قطاع الأمن المختلفة وطوافتها، مما يمنع سيطرة الدولة عليها ويؤدي إذن بشكل طبيعي إلى الإبقاء على عدم الاستقرار هذا بوصفه سببًا في تكوين النظام ونتيجة له".
وإذ يدرج لبنان ضمن أمثلة البلدان التي تنتمي إلى هذا الشكل، يشير إلى أن "لبنان يمتلك خاصية إضافية ألا وهي الهيكل الإقطاعي الطائفي للمجتمع الذي يسمح لأشكال شتى من التدخلات الأجنبية بأن تتخذ هذا المكون أو ذاك من الجهاز فتجعل منه رأس حربة سياستها".
تعزيز قدرات الجيش
بدوره، يعتبر الباحث رافاييل لوفيفر في دراسة نشرها "مركز كارنيغي للشرق الأوسط" أنّ القتال الذي اندلع بين الجماعات السنّية المتطرّفة والجيش اللبناني في طرابلس في أواخر عام 2014 مؤشر على الشرخ بين المؤسسة العسكرية والطائفة السنية في المدينة آنذاك.
ويشير لوفيفر إلى أن "مشاركة لبنان في التحالف الدولي ضد الإرهاب تعني توقّع حدوث مزيد من المعارك بين وحدات الجيش اللبناني والجماعات المتطرّفة. وبالتالي ينبغي على الجيش اللبناني أن يعدّل تكتيكاته وأساليبه وعتاده وفقاً لهذا النمط الجديد من مكافحة التمرّد".
ويضيف "من خلال توفير المزيد من الموارد المالية والبشرية لمساعدة الجيش اللبناني على تحسين كفاءته التدريبية والتكيّف مع هذا النهج الجديد، يمكن لداعميه الأجانب تسريع وتيرة هذا التحوّل، والتقليص بشكل كبير من عدد الضحايا المدنيين والأضرار المادية التي تطال البنية التحتية – وهذان عاملان أساسيان في كسب قلوب وعقول السكان المحليين".
إصلاح ديني
يتحدّث لوفيفر أيضًا عن "تسهيل صعود التطرّف الديني بسبب غياب القيادة الدينية الحكيمة على رأس الطائفة السنّية". ويعتبر أن "دار الفتوى، وهي المؤسّسة المكلّفة رسمياً بتقديم التوجيه الإسلامي والتعليم الديني اللذين أقرّتهما الدولة للمسلمين السنّة اللبنانيين، قد شابتها سلسلة من الفضائح في السنوات الأخيرة أضرّت بصدقيتها بصورة بالغة".
ويضيف أنّ "تراجع نفوذ وقدرات دار الفتوى تأثير عميق على الطائفة السنّية. فقد حدّ ذلك من قدرة الهيئة على إدارة المساجد الكثيرة في البلاد، ما أدّى إلى ترك عدد متزايد من أماكن العبادة في أيدي دعاة غير مؤهّلين، بعضهم من المتطرّفين. كما سهّل ذلك ظهور المزيد من الهيئات الإسلامية الأكثر راديكالية وغير الرسمية".
الحكومة المركزية
يقول عضو بلدية طرابلس عزّت الدبوسي لموقع "ارفع صوتك" إنّ توصيف مشكلة طرابلس يتطلّب منا العودة بالزمن إلى الوراء. "فطرابلس منذ عشرات السنين منسية من قبل الحكومة المركزية". ويشير إلى غياب "المشاريع الانمائية تماما عن المدينة، بالإضافة إلى هجرة أهالي الارياف الى المدينة واقامتهم في مناطق شعبية هي مكتظة اصلا بسكانها".
يشير الدبوسي كذلك إلى الضائقة الاقتصادية التي مر بها البلد لفترات طويلة . ويقول "عندما تغيب الحكومة المركزية والدولة عن أدنى واجباتها، فمن الطبيعي ان تنشأ حالات شاذة ناجمة عن الفقر والبطالة". يذكر أيضًا التسرب المدرسي الذي أظهرت الدراسات أن أرقامه "مخيفة" في مدينة طرابلس.
يصف الدبوسي طابع المدينة بالمتديّن والمحافظ نوعًا ما، لكنّه يقول "في المقابل لا يجب أن ننسى أيضا أن مدينة طرابلس وفي أحلك الظروف والحروب التي مرت على لبنان بقية واحة للعيش الواحد بين جميع أبنائها وطوائفها. والدلائل كثيرة فحتى عندما حكمت المدينة قوة إسلامية في الثمانينيات، لم تتعرض كنائس الاخوة في الطائفة المسيحية لأي اعتداء وبقي شارع الكنائس موجودا بكنائسه وشارع مار مارون ومعالم كثيرة اخرى دون التعرض لها او لأحد من ابنائها".
يضيف الدبوسي "إنطلاقا مما ذكرته، فلا يجوز إلصاق أو ربط المدينة ببعض الحالات الشاذة التي نشأت، فتعداد سكان المدينة هو ٣٠٠٠٠٠ الف نسمة فإن شذّ منهم العشرات لا نستطيع أن نتهم أو نربط المدينة بهذه الحالات الشاذة. والفقر والجهل والبطالة هم من أهم اسباب نشوء هذه الظاهرة". وأضاف "لو قامت الحكومة المركزية بواجباتها ما كانت لتنشأ هذه الحالات الشاذة".
إصلاح اقتصادي
هناك بعض التشاؤم لدى الخبراء الاقتصاديين في الشمال، تجاه الأوضاع الاقتصادية والحياتية، على اعتبار أن الشمال بيئة طاردة أكثر منها جاذبة للاستثمارات. فإن الشمال لا يستحوذ على أكثر من ثلاثة في المئة من السياح الذين يزورون لبنان وعلى أقل من 1 في المئة من نفقاتهم.
أما أبرز مشاريع الاستثمارات العامة التي ستسهم في تمكين المنطقة اقتصادياً، فهي توسيع مرفأ طرابلس وتعميقه، وتشغيل مطار رينيه معوّض، تفعيل معرض رشيد كرامي الدولي، وإيصال الغاز الطبيعي المصري إلى شمال لبنان، وتشغيل خط سكة الحديد من طرابلس إلى الحدود السورية، وتطوير الإرث الثقافي في طرابلس. وعلى الرغم من وجود تصوّرات حول كيفية إعادة إحياء اقتصاد المدينة، فإنّ أيّ من هذه المشاريع ليس قيد التطبيق حتى الآن.
الصورة: شبان لبنانيون يشكلون سلسلة بشرية خلال تحرّك نظمّته الجمعيات الأهلية في مدينة طرابلس، شمال لبنان/وكالة الصحافة الفرنسية