" محمد كان شاباً عادياً، كان دائماً يضحكنا إذا وجدنا ساكتين، كان محباً للعمل ومحباً للحياة ".
هكذا تتذكر نزيهة ابنها محمد أمين الجلاصي، الذي ذهب إلى "أرض الجهاد" ولم يعد إلى أحضانها. مرارة الفقد لا تقل لديها عن مرارة الأسئلة التي لم تحصل بعد على إجابات لها. بالأمس ودعها "عريساً"، بلحية خفيفة ورائحة معطرة، مرتدياً قميصاً وحذاءً جديدين، ذاهباً بعقد عمل ليصنع الحلويات في ليبيا ويدخر المزيد من النقود لزفافه. وبعد عشرين يوماً فقط يأتيها خبر موته في سوريا، ويطلب منها أصدقاؤه أن تفرح وأن تحتسبه "عند الله شهيدا"!
قصة محمد لا تختلف عن قصص الآلاف من الشباب المسلم في شرق البلاد وغربها، الذين التحقوا بتنظيم الدولة الإسلامية "داعش" مخلفين وراءهم العديد من الأسئلة دون إجابات. الكثير منهم كانوا مثل محمد، لم تظهر عليهم أي آثار للتطرف الديني من قبل، ولم يعرف أهلهم أي ميول لديهم للانضمام لأي جماعة جهادية. كيف التحقوا إذاً، ولماذا؟ هل هم إرهابيون، أم أنهم ضحايا للإرهاب؟
ترفض نزيهة وصف محمد بـ ""إرهابي"، ولا تزال تراه في مخيلتها ذلك الشاب الحنون الذي يصنع الحلويات.
امتهن محمد صناعة الحلويات بعد إكماله الثانوية العامة. كان يبيع حلوى " الفريكاسي" التونسية المعروفة، ويصنع السندويشات ويبيعها في وقت فراغه. لم يكن متشدداً دينياً، بدأ يصلي منذ كان عمره 21 عاماً تقريباً. ولم يكن يحب أفلام العنف، حسبما قالته أمه. كان يريد أن يبني بيتاً في الطابق الذي يعلو منزلهم ويتزوج فيه وأن ينجب أبناء تربيهم له والدته. تقول أخته المقربة منه "كان يحلم بالمستقبل، وكان يعمل ووضعه المادي جيد، وعندما فكر في الذهب إلى ليبيا توقعنا أنه يريد أن يجمع القليل من المال لكي يعود ويتزوج".
غادر محمد إلى ليبيا وكان على تواصل مستمر مع والدته. غير أنه انقطع عن التواصل عدة أيام، ثم اتصل بوالدته ليخبرها أنه في سوريا. انتفضت وصرخت فيه " ولدي، عد. لماذا ذهبت. ألم تقل أنك ستدفنني". فجاءها صوته مرتبكاً عبر الهاتف "سأعود يا أمي، لا تخافي وكلي جيداً. ربما يأخذون منا هواتفنا في الأيام المقبلة، فإن وجدتي خطي مغلقاً فلا تقلقي، أنا بخير وسأعود قريباً".
في آخر اتصال له أخبرها أنه في إدلب ومتوجه إلى حلب. المكالمة التالية جاءت من الرقم نفسه، ولكنها حملت صوتأً آخر. لم تتحمل الأم ما حمله من خبر فأخذت ابنتها الهاتف لتسمع الكلمات التالية "بشري الأهل فإن أخاك محمد استشهد".
لا يعرف أحد حتى اليوم قصة موت محمد. البعض يقول إنه قضى بعد أن قصفته دبابة أو أن صاروخاً وقع عليه. غير أن والدته تشعر أن ولدها لا يزال حياً، وتريد أن تطالب بحقه حياً أو ميتاً ممن تسبب له في هذا المصير الأليم.
قصة محمد ليست فريدة في تونس، إذ تذكر إحصائية أجراها المعهد الدولي للدراسات " بروكينجز" أن تونس تأتي في مقدمة الدول الأكثر تصديراً للمقاتلين مع داعش. وبينت الدراسة أن المقاتلين التونسيين المنضمين للتنظيم بلغوا نحو 3000 مقاتل. وهو الأمر الذي يطرح العديد من الأسئلة المثيرة للجدل حول هذا البلد الذي عرف بانفتاحه على الغرب والليبرالية.
ما هي أسباب انضمام التوانسة إلى تنظيم داعش؟ هذا ما نتناوله غداً في الجزء الثاني من " إرهابيون أم ضحاياً".
*الصورة: "محمد كان شاباً عادياً، كان دائماً يضحكنا إذا وجدنا ساكتين"