محمد الدليمي

تزخر الذاكرة العراقية بعشرات الألعاب الشعبية التي كان يلعبها أطفالُ العراق يوميا، وكان يندرُ أن يكون بينها ألعاب تحض على العنف.

أما في الأعياد، فكان أطفال العراق يصدحون بالغناء ويملأون الشوارع باللعب. وهذا المشهد بدأ بالغياب عن الشوارع رويداً رويداً، ليحل محله أطفالُ يحملون أسلحة بلاستيكية تستخدم ذخيرة بلاستيكية تحاكي الرصاص الحقيقي.

ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، حيث يفضل الأطفال الألعاب النارية التي تصدر أصواتاً عالية عند تفجيرها. فصارت بعض المحال تبيع ما يطلق عليه "الرمانة"، وهي مفرقعة صوتية للأطفال لا يعلو فوق صوتها إلا أصوات تفجيرات حقيقية تهز هذه المدينة أو تلك.

 ونتيجة هذه الألعاب، تستقبل مستشفيات العراق كل عامٍ الكثير من الأطفال ممن يصابون بطلقات بلاستيكية، وأدت ببعضهم بإصابات تصل إلى فقدان إحدى العينين وحروق مختلفة.

سلّم نفسك!

يقول علي الموسوي إن ابنه (حسن) يستقبله كل يوم بجملة "سلم نفسك"، وهو يحمل سلاحاً بلاستيكياً، وإن عليه أن يمثل "دور الإرهابي المستسلم والجاثي على ركبتيه".

"مجبر ألعب ويه ابني لعبة الحشد وداعش"، يقول علي الذي يملك متجراً لبيع الأجهزة الكهربائية شرق بغداد.

 أما حسن، فرغم عمره الذي لا يتجاوز 9 سنوات فيقول بصوت مليء بالفخر والاعتزاز، "آني القائد هنا وبالمدرسة". ويكمل حسن "كلنا نلعب هذي اللعبة بالمدرسة. ولازم اللي أضربه يموت".

حسن ليس مختلفاً عن أقرانه، حيث يبدو أن المجتمع صار يتقبل فكرة الطفل والسلاح ويعتبرها جزءاً من حياته اليومية. أما والده فيجد نفسه مجبراً على الاستجابة لرغبات ابنه، الذي يبدأ بالبكاء إن حاول الرفض أو تأجيل وقت اللعب.

وإلا خسرنا جيلاً بأكمله

وسط إقبال منقطع النظير من الأطفال على شراء كل ما يماثل الأسلحة، ومع استسلام الآباء والأمهات لهذه الظاهرة، استغل التجار فرصة الربح السريع فأغرقوا الأسواق بهذه المنتجات.

وحاول البرلمان العراقي وفي مناسبات عدة، إصدار قانون يحرم استيراد الأسلحة البلاستيكية وحظر العديد من الألعاب النارية (التي يطلق عليها العراقيون تسمية الصعّادات). لكن لم تنجح تلك المحاولات حتى الآن.

وفي محافظات البصرة وميسان، سنت المجالس المحلية قوانين تحاول وقف مد هذه الأسلحة البلاستيكية، غير أنها منيت بالفشل وسط عدم تطبيق القوانين، فضلا عن الصلاحية الاتحادية المطلوبة لوقف الاستيراد.

يقول الناشط المدني عماد أحمد إن الجانب القانوني مهم جداً وإن مستقبل طفولة العراق مهدد بالخطر بسبب ما يلعبوه. "الكل يتفق على أهمية الألعاب في تكوين شخصية الطفل. ومن أول واجبات الدولة هو توفير البيئة السليمة والقوانين الرادعة لكل ما يعكر هذه البيئة".

ويضيف عماد، الذي ينشط في زيارة مؤسسات تعنى بشؤون الأطفال من روضات ودور لرعاية الأيتام ومستشفيات وغيرها، "أينما تذهب، ستجد أطفالاً يلعبون ألعاباً عنيفة. يخططون لاغتيال بعضهم، خطف بعضهم. ويحفظون من أسماء الأسلحة ما لم يكن يحفظه جندي في الجيش. يجب أن يتوقف كل هذا وإلا خسرنا جيلاً بأكمله سيخلق العنف وسيذهب ضحية لهذا العنف".

ألعاب الفيديو وبرامج التلفاز

لا يقتصر انتشار ألعاب العنف على الأسلحة البلاستيكة ويتجاوزه إلى عالم ألعاب الفيديو وبرامج التلفزيون ومنها الرسوم المتحركة. وفي دراسات مختلفة توصل باحثون إلى أن الأطفال الذين يشاهدون مشاهد عنف على التلفاز ولمدة ساعة واحدة يومياً يزداد احتمال تصنيفهم بالعدوانية لثلاثة أضعاف.

وتؤكد الدراسة أن الأطفال يتعلمون من الألعاب وبعض الرسوم المتحركة أن العنف مرح وليس له عواقب، فبموت بطل اللعبة ثم عودته للحياة "يعتقدون أنه ليست هناك عاقبة خطيرة من ضرب شخص ما في رأسه، وهو بالطبع أمر غير صحيح في عالم الواقع".

وتحذر دراسة أخرى من انخفاض نسبة التعارف بين الأطفال الذين يشاهدون مشاهد العنف، فضلا عن ارتفاع نسبة السلوك العدواني بينهم.

أخاف من العيد

سلمى الجبوري، امرأة عراقية وربة بيت، رأت خطورة هذه الألعاب مرأى العين حين كاد ابنها (مرتضى) ذو السبعة أعوام أن يفقد بصره في عيد الفطر عام 2013، بسبب إصابته بشرارة من الألعاب النارية (الصعّادات) التي يطلقها البعض احتفالا بالعيد.

تروي سلمى لموقع (إرفع صوتك) "دخل البيت وعينه اليمين تنزف ونصف وجهه مغطى بالدم، نجاني الله من جلطة من شدة خوفي وهلعي".

مرتضى كان محظوظاً، عكس غيره من الأطفال الذين رأتهم سلمى في المستشفى. فإصابته كانت تحت العين بقليل.

وبسبب إقبال الأطفال على الألعاب النارية والاسلحة البلاستيكية خلال أيام العيد تقول سلمى "صرت أخاف من العيد، لأن كل الأطفال يحملون أسلحة بلاستيكية والشارع مليء بأصوات تفجيرات وكلنا نعتقد أنها حقيقية".

كانت سلمى قد خسرت زوجها عام 2009 بعد مقتله في تفجير انتحاري. واليوم، تؤكد سلمى أنها ستفعل كل ما يمكنها للحفاظ على حياة ابنها.

"خسرت أبوه بتفجير، وما راح أخسر ابني بسبب ألعاب".

*الصورة: حاول البرلمان العراقي في عدة مناسبات حظر العديد من الألعاب النارية/وكالة الصحافة الفرنسية

المزيد من المقالات

مواضيع ذات صلة:

الحرب أدت إلى تدمير جزء كبير من البنية الأساسية في قطاع غزة بما في ذلك المراكز التعليمية
الحرب أدت إلى تدمير جزء كبير من البنية الأساسية في قطاع غزة بما في ذلك المراكز التعليمية

مع بدء السنة الدراسية الجديدة في معظم أنحاء الشرق الأوسط، يجد تلاميذ قطاع غزة أنفسهم للعام الثاني على التوالي دون مدارس ينهلون منها العلم والمعرفة، مما حدا برهط من المسؤولين والأهالي إلى إيجاد بعض الحلول الفردية، وفقا لتقرير نشرته صحيفة "وول ستريت جورنال" الأميركية.

وكان من المفترض أن يبدأ العام الدراسي الجديد رسميا هذا الأسبوع، في القطاع الذي يشهد حربا شرسة منذ أكثر من أحد 11 شهرا بين الجيش الإسرائيلي وحركة حماس، المصنفة "منظمة إرهابية" في الولايات المتحدة ودول أخرى.

وأدى القصف إلى تدمير جزء كبير من البنية الأساسية الحيوية في القطاع الفلسطيني، بما في ذلك المراكز التعليمية، التي كانت تستوعب نحو مليون تلميذ تحت سن 18 عاماً، وفقاً للأمم المتحدة.

وفي ظل صعوبة تأمين مساحة آمنة لتدريس الأطفال، قررت وفاء علي، التي كانت تدير مدرسة بمدينة غزة قبل الحرب، فتح فصلين دراسيين في منزلها شمالي القطاع، حيث يتجمع العشرات من الأطفال لتعلم العربية والإنكليزية بالإضافة إلى مادة الرياضيات.

وقالت علي: "أرادت الأسر أن يتعلم أطفالها القراءة والكتابة بدلاً من إضاعة الوقت في المنزل، خاصة أن الحرب لن تنتهي قريبا".

ولا يستطيع المعلمون الوصول إلا إلى نسبة صغيرة من الأطفال الذين حرموا من التعليم بسبب الحرب، التي بدأت بعد أن هاجمت حركة حماس إسرائيل في 7 أكتوبر، مما أسفر عن مقتل 1200 شخص، معظمهم من المدنيين، وبينهم نساء وأطفال، حسب بيانات رسمية.

وردًا على ذلك، شنت إسرائيل عملية عسكري أدت إلى مقتل أكثر من 41 ألف شخص، غالبيتهم من النساء والأطفال، وفقًا لوزارة الصحة في القطاع.

"نبذل قصارى جهدنا"

من جانبها، أوضحت آلاء جنينة، التي تعيش حاليا في خيمة بوسط قطاع غزة، أن طفلها البالغ من العمر 4 سنوات وابنتها ذات السبع سنوات، يتلقيان دروسًا في خيمة قريبة.

وقالت المراة البالغة من العمر 33 عاما، إنها زارت مؤخرا "مدرسة الخيام"، مضيفة: "لقد أحزنني ذلك. ليس لديهم ملابس أو حقائب أو أحذية. لكننا نبذل قصارى جهدنا".

وتقول وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "أونروا"، التي تدير عشرات المدارس بالقطاع، إن أكثر من ثلثي مدارسها دُمرت أو تضررت منذ بدء الحرب.

ووفقا للوكالة، فقد قُتل "مئات" الفلسطينيين الذين نزحوا إلى مرافق الأونروا، ومعظمها مدارس، بينما تؤكد إسرائيل
أن ضرباتها على المدارس وملاجئ الأونروا "تستهدف المسلحين الذين يستخدمون تلك المرافق"، وهو أمر تنفيه حركة حماس.

ورفضت هيئة تنسيق أعمال الحكومة في المناطق، وهي الهيئة العسكرية الإسرائيلية المسؤولة عن التنسيق مع جماعات الإغاثة، التعليق، كما لم يستجب مكتب رئيس الوزراء الإسرائيلي لطلب التعليق من الصحيفة الأميركية.

"بقع لليأس والجوع"

وقالت "الأونروا" إنها أطلقت برنامج العودة إلى التعلم، الذي سيجلب حوالي 28 ألف طفل إلى عشرات المدارس، لافتة إلى أن ذلك البرنامج سيركز على "الدعم النفسي والفنون والرياضة ومخاطر الذخائر المتفجرة، ثم سيتعمق أكثر في مواد القراءة والكتابة والرياضيات".

وفي هذا الصدد، قال المفوض العام للأونروا، فيليب لازاريني، الأربعاء، على وسائل التواصل الاجتماعي: "الكثير من المدارس لم تعد مكانًا للتعلم. لقد أصبحت بقعا لليأس والجوع والمرض والموت".

وتابع: "كلما طالت فترة بقاء الأطفال خارج المدرسة.. كلما زاد خطر تحولهم إلى جيل ضائع. وهذه وصفة للاستياء والتطرف في المستقبل".

من جانبه، أوضح الباحث في مركز دراسات النزاع والعمل الإنساني بقطر، معين رباني، أن قطاع غزة "كان لديه معدلات تعليم عالية نسبيًا، على الرغم من نسب الفقر الكبيرة التي تسوده".

وأضاف رباني أن الفلسطينيين "سعوا منذ فترة طويلة إلى التعليم للتقدم وسط ظروف اقتصادية صعبة، حيث وقد وفرت لهم الأمم المتحدة ومنظمات غير حكومية مختلفة فرصًا تعليمية جيدة".

ولفت في حديثه للصحيفة الأميركية، إلى أن العديد من الفلسطينيين في غزة "اعتادوا على فقدان أراضيهم ومنازلهم وممتلكاتهم، وبالتالي اهتموا بالتعليم، لأنه أمر يمكنك أن تأخذه معك أينما ذهبت".

وهناك ثمن نفسي للابتعاد عن المدرسة على الأطفال أيضًا، إذ قالت ليزلي أركامبولت، المديرة الإدارية للسياسة الإنسانية في منظمة إنقاذ الطفولة الأميركية، إن قضاء عام بعيدًا عن المدرسة والأصدقاء والملاعب والمنازل خلال صراع مسلح عنيف، "يمثل إزالة للركائز الأساسية للاستقرار والسلامة للأطفال".

وشددت على أن "عدم اليقين والتوتر وفقدان المجتمع، يمكن أن يؤدي إلى تحفيز أنظمة الاستجابة الطبيعية للتوتر في الجسم، والتي يمكن أن تكون ضارة بمرور الوقت".

واستطردت حديثها بالتأكيد على أن "تكرار هذه الأعراض أو استمرارها لفترات طويلة، قد يؤدي إلى مجموعة من النتائج السلبية على الصحة العقلية، التي لا يتعافى منها الأطفال بسهولة".

وكانت منظمة الأمم المتحدة للطفولة (اليونيسيف)، قد كشفت في وقت سابق هذا الشهر، أن الأطفال في قطاع غزة "هم الفئة الأكثر تضررًا" مما يحدث هناك، وهم بحاجة ماسة لدعم نفسي وتعليمي بشكل عاجل.

وقال الناطق باسم المنظمة، كاظم أبو خلف، في تصريحات نقلتها وكالة الأنباء الفلسطينية (وفا)، إن الوضع الحالي في غزة "يتطلب استجابة عاجلة لمساعدة الأطفال الذين يعانون من فقدان التعليم والأضرار النفسية الجسيمة التي يتعرضون لها".

وشدد على أن "جميع الأطفال في القطاع يحتاجون إلى دعم نفسي، حيث فقد ما لا يقل عن 625 ألف طفل عامًا دراسيًا منذ بدء الحرب.. وبعض الأطفال تعرضوا لبتر أطرافهم وهم بحاجة إلى الخروج من القطاع لتلقي العلاج، فيما يعاني العديد من الأطفال من الخوف والقلق بسبب الحرب".