بقلم جنى فواز الحسن:
يجمع علماء النفس في العالم العربي على أنّ المجتمعات العربية لا تنتج "طفولة سعيدة" ولا شخصيات سوية في المستقبل. وإذ يشاهد الأطفال العنف المحيط بهم ويختبرون مآسي تفوق قدرتهم على التحمّل، تتكوّن داخلهم تشوّهات نفسية من الصعب معالجتها إن لم يتم استدراكها في وقتٍ مبكر.
سلوكيات العنف
تقول الأخصائية النفسية العراقية الدكتورة شيماء عبد العزيز إنّ "الترسبات التي تنتج عن المجتمعات غير المستقرّة التي تعاني من الحروب وعدم الأمان تستمرّ لفترة طويلة وتنتقل سلوكيات العنف فيها إلى الأطفال والمراهقين".
تتحدّث عبد العزيز عن تطوّر الشخصية لدى الطفل والمراهق وتشير إلى أنّ "غياب الهدوء النفسي في طور النمو ومرحلة اكتساب الطباع لدى الطفل أو المراهق يؤدّي إلى أن يكتسب الشخص المعني الخبرات والصور العنيفة التي يراها أمامه. وبسبب عدم قدرة الطفل على الإدراك والتحليل، تصبح هذه السلوكيات العنيفة هي السائدة والمرغوبة لديه ويبدأ بممارستها مع أصدقائه وزملائه في المدرسة".
تعطي الدكتورة عبد العزيز مثالاً يتمثّل في تواجد الرجال المسلحين في الشوارع بكثرة وتقول إنّ "الطفل الذي يرى هذه المشاهد سيعتقد أنّ هذا السلوك يمثّل القوّة والسلطة لأنّ الآخرين يخافون من هؤلاء المسلحين، وبالتالي سيرغب في أن يصبح قويّاً مثلهم".
عبارات عسكرية
تشير عبد العزيز إلى أنّ سلوكيات العنف تتجلّى كذلك يومياً في الخطاب الذي يعتمده الأطفال في مناطق الصراع كسورية والعراق. وتقول "بات الأطفال يستعملون عبارات تدلّ على العنف سواء في تعاملهم بين بعضهم البعض أو تعاملهم مع الخارج. حين أقوم بدراسات تشمل الأطفال، ألاحظ أنّهم يستخدمون عبارات عسكرية في اللعب عوضاً عن العبارات المدنية وتتضمن كلماتهم مصطلحات كاقتل واسفح واذبح واحمل بندقية وهات السيف".
وتضيف عبد العزيز "كانت ألعاب الأطفال سابقاً تعاونية واجتماعية تنمّي حب الآخر واحترام الأكبر سنّاً والقيم المماثلة، لكن الحال تغيّر جذرياً في أيامنا هذه".
المناهج الدراسية والدينية
تعتبر عبد العزيز أنّ "هذا العنف في الخطاب لدى الأطفال نتيجة حتمية ليس فقط للعنف الجسدي الذي يحيط بهم، بل كذلك العنف الذي بات موجوداً في المناهج الدراسية الأكاديمية والدينية". وتقول "في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، لم تكن مظاهر العنف موجودة في المناهج الدراسية. تغيّرت المناهج الآن وصرنا نرى صور دبابات وأسلحة في كتب الأطفال وحتّى في مفردات تعليم الطفل. المناهج الدينية تغيّرت كذلك وصارت متّجهة نحو زرع قيم العنف والكره ضد الآخر بدل التسامح والأخلاق. هذا الدين الطائفي الذي بات معتمداً خطير جدّاً".
وسائل الإعلام
من جهتها، تعتبر الأخصائية في علم النفس التربوي اللبنانية ليندا نصر أنّ "مشاهد العنف المألوفة في العالم العربي لا تنتج طفولة سعيدة بل شخصيات معقّدة في المستقبل ستريد بدورها أن تعيد مشاهد العنف التي تربت عليها".
"الإعلام لا يساعد الجيل الجديد"، بحسب نصر. "شاشات التلفزة تتناقل العنف وتتنافس لنقل صور وتقارير دمويّة من دون تحذيرات مسبقة ألّا يشاهد الأطفال هذه المشاهد. نحن نعرف أنّ الدم موجود في كل مكان وتجنيب الطفل هذه المشاهد لا يعني أن نخدعه ليظنّ أنّ العالم مكان أفضل، لكن لتجنيبه الترسبات النفسية التي تنتج عن هذا الدم".
تقول نصر إنّ "مظاهر العنف باتت تعدّ مقبولة في الشارع. وإذا نظرنا حولنا، نلاحظ أنّ مرحلة الصدمة بهول المشاهد العنيفة من سفك دماء وقطع رؤوس وحرق انتهت. بات المشهد مألوفاً حتى بالنسبة للأطفال وبالتالي حين يكبر طفل ما ويقوم بالقتل بدمّ بارد، لا يمكن لومه كليّاً. المجتمع هو من صدّر له هذه الثقافة أساساً".
سوق الألعاب
تشير الدكتورة عيد العزيز إلى أنّ الألعاب التي باتت متوفرة للأطفال أيضاً باتت عنيفة. وتقول "عند الذهاب إلى الأسواق الشعبية، نلاحظ أن معظم الألعاب صارت عبارة عن قنابل ومسدسات ورشاشات وبعضها مؤذٍ فعلياً. إذا أراد الأهل أن يكافئوا أطفالهم ويصحبونهم لشراء لعبة ما لتهنئتهم على أمر إيجابي قاموا به، يجدون أنّ الأسواق مليئة بالأسلحة ولو كانت ألعاباً".
وتضيف "لا يمكن أيضاً غضّ النظر عن وفرة الألعاب النارية التي قد تكون أصواتها أحياناً أعلى حتّى من أصوات الانفجارات. ماذا نتوقّع بعد مظاهر القسوة والعدوان هذه من أطفالنا وأجيال الغد؟".
ما الحل؟
بحسب نصر "الحلّ ليس سهلاً ولا يمكن أن تتمّ معالجة الوضع الراهن في ليلة وضحاها. لا يمكننا أن نحلم ببناء شخصية سوية في المستقبل إن لم تبدأ حكوماتنا بتطبيق خطوات عملية لمعالجة مصادر العنف في المجتمعات العربية. هناك ضرورة قصوى لإعادة تأهيل المدارس وفرض الرقابة على وسائل الإعلام والعمل مع الأهل لتوجيههم حول تربية أطفالهم".
تضيف نصر "لقد تعاملت مع أطفال لاجئين في لبنان عانوا من مشاهد العنف وأصوات القصف في سورية. بعض الأهل يعون خطورة الأمر، لكنّ البعض الآخر يغذّون جنوح الأطفال نحو العنف ويحمّلونهم البنادق ويشجّعونهم على الانتقام. يجب أحياناً حماية الأبناء حتّى من ذويهم وللأسف الحكومات لا تلعب الدور المنوّط بها والمنظمات الإنسانية لا يمكنها تحمّل العبء وحدها".
*الصورة: الترسبات التي تنتج عن المجتمعات غير المستقرّة التي تعاني من الحروب وعدم الأمان تستمرّ لفترة طويلة وتنتقل سلوكيات العنف فيها إلى الأطفال والمراهقين/وكالة الصحافة الفرنسية
يمكنكم التواصل معنا وإرسال الفيديوهات والصور لموقعنا عبر تطبيق "واتساب" على الرقم 0012022773659