بقلم جنى فواز الحسن:

لنتخيّل بلداً مثل لبنان، يقف جميع من فيه ليلتقطوا صورة جماعية معاً. يبتسمون لوهلة، ثمّ ما أن تُغلق الأبواب عليهم، يبدأون بالعراك. هذا البلد الصغير يفاجئ الجميع دائماً بتناقضاته وقدرته على أن يكون مأزوماً، لكن في الوقت نفسه مستمرّ. يتغيّر من جيلٍ إلى جيل، ويبدو في الوقت نفسه عالقاً بين مخلفات ما مضى أكثر من قدرته على المضي إلى المستقبل.

الشباب اللبناني الذي هبّ مؤخراً للمطالبة بحقوقه متنوّع وله آراء ووجهات نظر ومطالب عديدة. لكن هل يتمكّن من أن يخلع عنه وعن الوطن معه عباءة الطوائف التي تعيق العيش المشترك والتطوّر في البلاد؟

أعود إلى الطائفة

فادي ملحم، أستاذ جامعي شاب في مادّة الألسنيات، يحلم ربما بقيادة مختلفة لوطنه، لكنّه لا يستطيع أن لا يلتحق بالطائفة، على حدّ تعبيره.

"من الصعب جداً إنتاج قيادات غير طائفية في لبنان، "أقلّه ليس في الوقت الراهن"، يقول ملحم لموقع (إرفع صوتك). "حتّى أنا على الصعيد الشخصي، رغم إيماني بفصل الدين عن الدولة، حين أرى طائفتي تتعرّض للظلم، أركض إليها وأعود إلى زعيم الطائفة".

ويضيف "تقصير الدولة هو ما يحثّني على هذه العودة. نحن نضطر للذهاب إلى المرجعية الطائفية حين نريد أن نجد عملاً أو ندخل إلى المستشفى. تقصير الدولة هو ما يدفعني إلى طائفتي".

بحسب فادي، "توجد نوايا لدى الشباب، أفضل النوايا إن جاز القول، والإمكانيات موجودة من ثقافة وعلم وذكاء، لكنّنا تشرّبنا وتنشقنا الطائفية مع الهواء الذي نتنفسه منذ الطفولة. ولم نقم حتّى الآن بما يؤهلنا للخروج من هذه الشرنقة".

وعن الحراك الأخير في لبنان، يقول فادي "لو كان أحد من الشباب المنظمين للحراك قد بادر بطرح منطقي ومضوا بالمطالب خطوة تلو الأخرى، لمشينا معهم. لكن حين يخرج أحدهم بشعارات فضفاضة كتغيير النظام وهو عنوان عريض ليس إلّا، كيف نتبعه؟".

"كان الأحرى بهم المطالبة بالتغيير المرحلي، حلّ أزمة النفايات وبعدها الكهرباء.. أنا لا أرى التغيير الآن، ربما الجيل القادم".

وعند سؤال فادي ما إذا كان يرضى بقائد لديه مشروع تنموي لبناني متكامل وهو معتدل وعادل لكن من خارج طائفته، فهل يسانده. "نعم طبعاً"، يجيب فادي. "إن وُجد شخص مقنع لهذه الدرجة، فنحن معه".

مدراس لبنان طائفية

على عكس فادي، تريد الناشطة والعاملة في مجال التدريب والتربية صالحة ناصر أن تخرج من التصنيفات المذهبية. "بالنسبة لي، لن أتخلى عن فكرة تحسين الشباب وجعله يدرك أنّه ينتمي إلى وطن وليس حزب. أعتقد أنّ قدرة الشباب على القيادة مرتبطة بمدى انفتاحهم على الآخر وقبولهم للاختلاف. الشباب هنا متعلمون ويودّون لو أنّ المرجعية الحقيقية في لبنان كانت الإنسانية"، تقول صالحة.

وتشير في حديث لموقع (إرفع صوتك) إلى أنّه "نحن كلبنانيين نعاني من أزمة هوية ومواطنة، ولا يمكن تغيير هذا الأمر إلّا عبر الحد من تأثير النظام البطريركي والتخفيف من صلاحيته".

تعود الأزمة بالنسبة لصالحة إلى الأسس التي قام عليها البلد ونظامه التربوي وتقول "في مرحلة التعليم الابتدائي، يتعلّم الطفل المثاليات والانتماء إلى مجتمع واسع، ثمّ في مرحلة المتوسط يكتشف الواقع والأحزاب".

"أرى ضرورة على البدء بالعمل على المناهج الدراسية والشق التربوي"، تقول صالحة. "حتى المدارس ومناهجها تأخذ منحى طائفي أو حزبي. وللأسف، المدراس للبنانية ليست علمانية لا في التطبيق ولا الفكر ولا الثقافة".

لا ترى صالحة أن الشباب اللبناني تنقصه الأهلية للقيادة، لكن الفرصة. تقول "لا يمكنني مثلاً أن أصل إلى منصب ريادي في هذا البلد لأنّي خارج المحاصصة الطائفية. يقولون لي كثيراً ترشحي للانتخابات النيابية أو البلدية، لكن لماذا؟ لأذهب وأتذلل للأحزاب حتى يساندوني؟ هذا عدا عن كوني امرأة".

وتضيف صالحة "في تعاملي مع النساء يومياً، أفاجأ بقدرتهن على الابتكار والأفكار التي يقدّمونها وهنّ يكسرن قوقعة الدين في مناطق معيّنة. هذه القدرات للأسف تذهب سدى، إذ كيف السبيل لهنّ ليصلن؟"

هوية ضائعة

الناشط عربي العنداري لا يرى كذلك أنّ لبنان ينقصه الشباب الكفوء، ويقول لـ (إرفع صوتك) "نحن لدينا الموارد البشرية القادرة على إنتاج القيادة، لكن يجب أن تكون الظروف موضوعية وطبيعية. وهذا الأمر غير متوفر على أرض الواقع".

يشير العنداري أيضاً إلى وجود عوامل مشجّعة وأخرى تكبح التغيير في لبنان. "العامل المشجّع هو أنّ الناس وصلت إلى مرحلة من اليأس والاشمئزاز جعلتهم أخيراً يتحركون لمطالبهم".

لكن، يضيف العنداري "الناس يخافون كذلك بسبب المحيط المتفجر. العالم تقلق لأنّ التغيير قد يقود إلى المجهول. العامل السلبي الآخر هو الهوية الضائعة لدى اللبنانيين. هناك حالة من الانقسام الطائفي والتبعية العشائرية، والناس تسلّم أمورها إلى قائد ما بحسب ارتباط عاطفي أو طائفي وليس التقييم الموضوعي".

وإذ يؤكّد أن التوريث السياسي من ضمن العوائق التي تحدّ من فرص الشباب اللبناني، يشير إلى أنّ الحل يكمن في تكوين مجموعة لبنانية وليس فرد لبناني ليقود البلاد.

ويقول "القادة كجماعة وليس فرد، هذا ما يحتاجه لبنان. سيكون من السهل الإيقاع بالفرد ورميه في فخ الانقسامات الطائفية وفرزه أو حصره في مكان معيّن. لكن إن كانت هناك جماعة بتنوع ثقافي ومذهبي، لن يتمكن أحد من اختصارها واختزالها. كيفية وإمكانية تشكيل جماعة قيادية هي المأزق الذي واجه شباب الحراك اللبناني في لبنان ولا زالت تواجهنا".

"خلينا نحنا بالشارع"

الناشط طارق ملّاح، الذي برز خلال المظاهرات اللبنانية، يقول إنّ "الحراك المدني تظاهر ضد الفساد بالسلطة، سواء فساد 8 أو 14 آذار (الفريقان السياسيان الأبرز في البلاد). الحراك المدني يقوده شباب وصبايا بمختلف الأعمار الشبابية، وذلك تأكيد على دور الشباب بالتغيير الحاصل الآن في الشارع لإبراز الصوت الثالث خارج الاصطفاف السياسي المعهودة".

ملاّح من ضمن مؤسسي حملة "طلعت ريحتكم" التي كانت في صدارة الحراك اللبناني. ويقول إنّ "لا قائد احادي لهذه المجموعة، إنما الجميع يشارك في المناقشات وبأخذ  القرارات".

ويشير في حديث إلى موقع (إرفع صوتك) إلى أنّ الشباب اتجه إلى الشارع للمطالبة بإعادة تفعيل المؤسسات الدستورية، من بينها مجلس النواب، والمطالبة بانتخابات نيابية بناء على قانون انتخابي عصري تتمثل فيه جميع الفئات الاجتماعية.

ويضيف ملاّح "نعتبر أن التغيير لا يأتي سوى بأمرين: قانون انتخابي عصري ووعي اجتماعي للفساد الذي تمارسه السلطة السياسية الحاكمة اليوم. فالمحاسبة تأتي عبر انتخابات نيابية، ودورنا في الشارع اليوم هو فضح المحاصصة السياسية بين الأفرقاء".

وعن دوره ودور "طلعت ريحتكم" خارج الشارع، يقول طارق "لن نكون مرشحين للانتخابات كي لا يظن أحد أنّ حراكنا بالشارع هو وسيلة للوصول الى الحكم. الدور في الشارع مهم لإحداث تغيير ايضاً وللتصويب على الفساد الحاصل داخل مؤسسات الدولة".

ويختم "إن لم نترشح نحن، هناك شباب غيرنا وهم كثر. خلينا نحنا بالشارع".

*الصورة: "لن أتخلى عن فكرة تحسين الشباب وجعله يدرك أنّه ينتمي إلى وطن وليس حزب"/وكالة الصحافة الفرنسية

يمكنكم التواصل معنا وإرسال الفيديوهات والصور لموقعنا عبر تطبيق "واتساب" على الرقم 0012022773659

المزيد من المقالات

مواضيع ذات صلة:

الحرب أدت إلى تدمير جزء كبير من البنية الأساسية في قطاع غزة بما في ذلك المراكز التعليمية
الحرب أدت إلى تدمير جزء كبير من البنية الأساسية في قطاع غزة بما في ذلك المراكز التعليمية

مع بدء السنة الدراسية الجديدة في معظم أنحاء الشرق الأوسط، يجد تلاميذ قطاع غزة أنفسهم للعام الثاني على التوالي دون مدارس ينهلون منها العلم والمعرفة، مما حدا برهط من المسؤولين والأهالي إلى إيجاد بعض الحلول الفردية، وفقا لتقرير نشرته صحيفة "وول ستريت جورنال" الأميركية.

وكان من المفترض أن يبدأ العام الدراسي الجديد رسميا هذا الأسبوع، في القطاع الذي يشهد حربا شرسة منذ أكثر من أحد 11 شهرا بين الجيش الإسرائيلي وحركة حماس، المصنفة "منظمة إرهابية" في الولايات المتحدة ودول أخرى.

وأدى القصف إلى تدمير جزء كبير من البنية الأساسية الحيوية في القطاع الفلسطيني، بما في ذلك المراكز التعليمية، التي كانت تستوعب نحو مليون تلميذ تحت سن 18 عاماً، وفقاً للأمم المتحدة.

وفي ظل صعوبة تأمين مساحة آمنة لتدريس الأطفال، قررت وفاء علي، التي كانت تدير مدرسة بمدينة غزة قبل الحرب، فتح فصلين دراسيين في منزلها شمالي القطاع، حيث يتجمع العشرات من الأطفال لتعلم العربية والإنكليزية بالإضافة إلى مادة الرياضيات.

وقالت علي: "أرادت الأسر أن يتعلم أطفالها القراءة والكتابة بدلاً من إضاعة الوقت في المنزل، خاصة أن الحرب لن تنتهي قريبا".

ولا يستطيع المعلمون الوصول إلا إلى نسبة صغيرة من الأطفال الذين حرموا من التعليم بسبب الحرب، التي بدأت بعد أن هاجمت حركة حماس إسرائيل في 7 أكتوبر، مما أسفر عن مقتل 1200 شخص، معظمهم من المدنيين، وبينهم نساء وأطفال، حسب بيانات رسمية.

وردًا على ذلك، شنت إسرائيل عملية عسكري أدت إلى مقتل أكثر من 41 ألف شخص، غالبيتهم من النساء والأطفال، وفقًا لوزارة الصحة في القطاع.

"نبذل قصارى جهدنا"

من جانبها، أوضحت آلاء جنينة، التي تعيش حاليا في خيمة بوسط قطاع غزة، أن طفلها البالغ من العمر 4 سنوات وابنتها ذات السبع سنوات، يتلقيان دروسًا في خيمة قريبة.

وقالت المراة البالغة من العمر 33 عاما، إنها زارت مؤخرا "مدرسة الخيام"، مضيفة: "لقد أحزنني ذلك. ليس لديهم ملابس أو حقائب أو أحذية. لكننا نبذل قصارى جهدنا".

وتقول وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "أونروا"، التي تدير عشرات المدارس بالقطاع، إن أكثر من ثلثي مدارسها دُمرت أو تضررت منذ بدء الحرب.

ووفقا للوكالة، فقد قُتل "مئات" الفلسطينيين الذين نزحوا إلى مرافق الأونروا، ومعظمها مدارس، بينما تؤكد إسرائيل
أن ضرباتها على المدارس وملاجئ الأونروا "تستهدف المسلحين الذين يستخدمون تلك المرافق"، وهو أمر تنفيه حركة حماس.

ورفضت هيئة تنسيق أعمال الحكومة في المناطق، وهي الهيئة العسكرية الإسرائيلية المسؤولة عن التنسيق مع جماعات الإغاثة، التعليق، كما لم يستجب مكتب رئيس الوزراء الإسرائيلي لطلب التعليق من الصحيفة الأميركية.

"بقع لليأس والجوع"

وقالت "الأونروا" إنها أطلقت برنامج العودة إلى التعلم، الذي سيجلب حوالي 28 ألف طفل إلى عشرات المدارس، لافتة إلى أن ذلك البرنامج سيركز على "الدعم النفسي والفنون والرياضة ومخاطر الذخائر المتفجرة، ثم سيتعمق أكثر في مواد القراءة والكتابة والرياضيات".

وفي هذا الصدد، قال المفوض العام للأونروا، فيليب لازاريني، الأربعاء، على وسائل التواصل الاجتماعي: "الكثير من المدارس لم تعد مكانًا للتعلم. لقد أصبحت بقعا لليأس والجوع والمرض والموت".

وتابع: "كلما طالت فترة بقاء الأطفال خارج المدرسة.. كلما زاد خطر تحولهم إلى جيل ضائع. وهذه وصفة للاستياء والتطرف في المستقبل".

من جانبه، أوضح الباحث في مركز دراسات النزاع والعمل الإنساني بقطر، معين رباني، أن قطاع غزة "كان لديه معدلات تعليم عالية نسبيًا، على الرغم من نسب الفقر الكبيرة التي تسوده".

وأضاف رباني أن الفلسطينيين "سعوا منذ فترة طويلة إلى التعليم للتقدم وسط ظروف اقتصادية صعبة، حيث وقد وفرت لهم الأمم المتحدة ومنظمات غير حكومية مختلفة فرصًا تعليمية جيدة".

ولفت في حديثه للصحيفة الأميركية، إلى أن العديد من الفلسطينيين في غزة "اعتادوا على فقدان أراضيهم ومنازلهم وممتلكاتهم، وبالتالي اهتموا بالتعليم، لأنه أمر يمكنك أن تأخذه معك أينما ذهبت".

وهناك ثمن نفسي للابتعاد عن المدرسة على الأطفال أيضًا، إذ قالت ليزلي أركامبولت، المديرة الإدارية للسياسة الإنسانية في منظمة إنقاذ الطفولة الأميركية، إن قضاء عام بعيدًا عن المدرسة والأصدقاء والملاعب والمنازل خلال صراع مسلح عنيف، "يمثل إزالة للركائز الأساسية للاستقرار والسلامة للأطفال".

وشددت على أن "عدم اليقين والتوتر وفقدان المجتمع، يمكن أن يؤدي إلى تحفيز أنظمة الاستجابة الطبيعية للتوتر في الجسم، والتي يمكن أن تكون ضارة بمرور الوقت".

واستطردت حديثها بالتأكيد على أن "تكرار هذه الأعراض أو استمرارها لفترات طويلة، قد يؤدي إلى مجموعة من النتائج السلبية على الصحة العقلية، التي لا يتعافى منها الأطفال بسهولة".

وكانت منظمة الأمم المتحدة للطفولة (اليونيسيف)، قد كشفت في وقت سابق هذا الشهر، أن الأطفال في قطاع غزة "هم الفئة الأكثر تضررًا" مما يحدث هناك، وهم بحاجة ماسة لدعم نفسي وتعليمي بشكل عاجل.

وقال الناطق باسم المنظمة، كاظم أبو خلف، في تصريحات نقلتها وكالة الأنباء الفلسطينية (وفا)، إن الوضع الحالي في غزة "يتطلب استجابة عاجلة لمساعدة الأطفال الذين يعانون من فقدان التعليم والأضرار النفسية الجسيمة التي يتعرضون لها".

وشدد على أن "جميع الأطفال في القطاع يحتاجون إلى دعم نفسي، حيث فقد ما لا يقل عن 625 ألف طفل عامًا دراسيًا منذ بدء الحرب.. وبعض الأطفال تعرضوا لبتر أطرافهم وهم بحاجة إلى الخروج من القطاع لتلقي العلاج، فيما يعاني العديد من الأطفال من الخوف والقلق بسبب الحرب".