بقلم علي عبد الأمير:

لا يختلط مفهوما الأمن والحرية على نحو واضح مثلما يختلطان في التجربة العراقية بعد العام 2003، بل إنّ الأهوال التي عاشها العراقيون بعد نهاية النظام الديكتاتوري جعلتهم يشعرون أن الحرية التي تحصلوا عليها بسقوط حكم الحروب والقمع لم تعد ذا معنى حيال الأثمان الباهظة التي يدفعونها. وذلك جراء التردي الأمني وتصاعد الإرهاب بجميع أشكاله، لتكون له اليد الأعلى في توجيه مسار البلاد، بحسب ما يراه عدد من الباحثين وصناع القرار في العراق.

مقايضة الحرية بالأمن

وفي هذا السياق يستعيد الباحث والاكاديمي د. حسين علاوي صورة العاصمة العراقية وآمالها بعد سقوط النظام الدكتاتوري في 9 ابريل/نيسان  2003. ويقول "كنّا نسير في شوارع بغداد بكل حرية، نتبادل الحديث والحوار عن حقبة امتدت إلى 35 عاماً ومستقبلنا المقبل. وأدركت ومنذ أول وهلة للتفجير الإرهابي في الصحن الحيدري بالنجف الأشرف أواخر آب/أغسطس 2003 أنّ الحرية التي أعطيت لنا انتهت وأنّنا سنبدأ مقايضتها مع من يملك السلطة من أجل الأمن. وكان هذا النفق (الإرهاب) الذي جعلنا نفقد الحرية وننتقل للتسليم التصاعدي للحريات الخاصة لصالح سلطة الأمن".

وبينما يعدد الدكتور علاوي أنواع السلطة في العراق من "سلطة اتحادية مركزية وسلطة محلية محافظة  وسلطة شعبية تتمثّل بقوة الرمز سواء كان دينياً أو مسلحاً أو اجتماعياً أو عشائرياً"، فهو يسمي التحولات الأكثر أهمية لجهة تراجع الحرية لصالح تلك السلطات، قائلاً "بدأنا نسلّم شيئاً فشيئاً، أجزاء من حريتنا الخاصة إلى السلطات الثلاث. وكانت الهيمنة والسطوة منذ عام 2003 – 2009 للسلطة الثالثة أيّ قوة الرمز، ثم كان للخدمات حافز كبير بجانب الأمن. فكنا بحاجة إلى العودة للبحث عن سلطة بديلة نتيجة عدم قدرة قادة المجتمع المحلي من توفير الخدمات دون الحكومة سواء كانت الاتحادية أم المحلية. آنذاك وبعد مرور كابوس الحرب الأهلية وما حصل في الوجدان العراقي عندما قامت الجماعات الإرهابية بتفجير ضريح الإمامين العسكريين في شباط/فبراير 2006، عندها وجدت أن هنالك حاجة للعودة والبحث عن الحرية مرة أخرى. وكانت الحملة على المليشيات 2008 وانتخابات مجالس المحافظات 2009 وفوز "دولة القانون" وغيرها من القوى السياسية التي تحاول العبور الرمزي نحو حياة جديدة".

المعادلة المتهالكة؟

رئيس مركز (أكد للشؤون الاستراتيجية والدراسات المستقبلية)، الدكتور علاوي، يعتبر أنّ الآمال التي عاشتها الحرية في العراق شهدت انتعاشاً في ربيع العام 2009، لكن "هكذا عاد جزء من الحريات الى المجتمع، وبدأنا التأسيس لوضع جديد. عادت الحريات، لنصطدم بنتائج انتخابات 2010  وما ترتب عليها من اتفاقات سياسية، والتي كانت مؤشراً على اختلال نظام الحريات العامة. وجاء أوّل احتجاج اجتماعي واسع من شريحة الشباب في شباط/فبراير 2011، حيث خرجت العديد من الطبقات الاجتماعية لتعبّر عن المطالبة بالأمن والخدمات والحريات العامة، ولننتقل بعد ذلك إلى عام 2012  لتمتزج الصراعات السياسية بالطائفة الاجتماعية وليعلن عن نشوء حركات الاحتجاج ذات اللون المذهبي (تمثل المكون السني في المحافظات العراقية الانبار، صلاح الدين، ديالى، الموصل، كركوك) وأخذت منحى المعادلة الصفرية المهلكة".

ويعتقد الباحث والأكاديمي المتخصص باستراتيجيات الأمن أن ثمة علاقة بين الأزمة التي تفاقمت بين بغداد ومحافظات الاحتجاجات السنية وصعود تنظيم داعش. موضحاً "كانت لحظة تاريخية لنشوء السراب القاتل (كيان داعش الإرهابي) على أثر إستغلال مشاعر المحتجين والمتمردين على السلطة الاتحادية لمحاولة اسقاط الحكومة، وشلّ قدرتها المحلية عبر إثارة الحرب التي بدأت بسقوط محافظة نينوى 10 حزيران/يونيو 2014، لكن فتوى المرجع الديني الأعلى في النجف الاشرف السيد علي السيستاني أوقفت الزحف ليتطوع المقاتلون في "الحشد الشعبي"، ولتبدأ معارك التطهير للمدن والمحافظات نتيجة اجتياح كيان داعش الإرهابي وتحالفه مع القوة المتمردة على السلطة الاتحادية، ولنبدأ مساراً جديداً لتطهير الأراضي إلى أن وصلنا إلى اللحظة التاريخية التي تمر علينا ونحن في العام الثاني للحرب على الإرهاب لكيان داعش الإرهابي".

الحرية: حلم يراود الجميع

وفيما يشير الدكتور علاوي إلى أنّ "الحرية بقيت حلماً راود الجميع وبعد شعورنا بالأمن، بدأ العديد من العراقيين يطالبون بالخدمات والحرية كما حصل في احتجاجات آب/أغسطس 2015 نتيجة تردي الخدمات"، إلّا أنّه يستدرك "منذ أول وهلة للهجمات على فرنسا في 13 تشرين الثاني/نوفمبر، تلمست كيف يفرض قانون الطوارئ ويبقى السكان في منازلهم. عندها أدركت أنّ الحرية ستكون أولوية ثانية بعد الأمن، كون الأمن هو سر تعزيز الحرية".

*الصورة: الباحث والأكاديمي المتخصص بالدراسات الأمنية والإستراتيجية د. حسين علاوي/إرفع صوتك

يمكنكم التواصل معنا وإرسال الفيديوهات والصور لموقعنا عبر تطبيق “واتساب” على الرقم 0012022773659

المزيد من المقالات

مواضيع ذات صلة:

Palestinians gather to receive food cooked by a charity kitchen, in Khan Younis
حذر تقرير جديد نشرته الأمم المتحدة، الخميس، من تفاقم أزمة الجوع العالمية- تعبيرية

حذر تقرير جديد نشرته الأمم المتحدة، الخميس، من تفاقم أزمة الجوع العالمية، حيث يعاني ملايين الأشخاص حول العالم من انعدام الأمن الغذائي الحاد. وأشار التقرير إلى أن الصراعات، والتغيرات المناخية، قد أدت إلى زيادة حادة في أعداد الجوعى، خاصة في مناطق مثل السودان وقطاع غزة.

وعقب نشر التقرير، تحدث ثلاثة مسؤولين أمميين، عبر الفيديو، إلى صحفيين في نيويورك، حيث قدموا إحاطة عن التحديث نصف السنوي للتقرير العالمي عن الأزمات الغذائية لعام 2024 والذي يغطي الفترة حتى نهاية أغسطس 2024.

وأكد المسؤولون الأمميون الحاجة الماسة إلى زيادة التمويل الإنساني والعمل على معالجة الأسباب الجذرية للأزمات الغذائية، مثل الصراعات والتغيرات المناخية، وذلك لمنع تفاقم الوضع وتجنب حدوث مجاعات أوسع نطاقا.

وفي بداية الإحاطة قدم، ماكسيمو توريرو، كبير الخبراء الاقتصاديين في منظمة الأغذية والزراعة (الفاو) لمحة عامة عن النتائج الرئيسية للتقرير.

ويُظهر التقرير أن عدد الأشخاص الذين يواجهون مستوى كارثيا من انعدام الأمن الغذائي تضاعف من 705 آلاف شخص في 5 دول وأقاليم في عام 2023 إلى 1.9 مليون في 4 دول أو أقاليم في عام 2024. وهذا هو أعلى رقم يسجله التقرير العالمي عن الأزمات الغذائية، ويعود ذلك في الغالب إلى الصراع في قطاع غزة والسودان، وفقا لتوريرو.

ويشار إلى أن التصنيف المتكامل للأمن الغذائي يتكون من خمس مراحل، ومستوى "الأزمة" أو انعدام الأمن الغذائي الحاد هو المرحلة الثالثة من التصنيف. المرحلة الرابعة هي الطوارئ، أما المرحلة الخامسة فهي الكارثة أو المجاعة.

وقال توريرو إن اشتداد وتيرة الصراعات في غزة والسودان وأيضا الجفاف الناجم عن ظاهرة النينيو وارتفاع أسعار المواد الغذائية المحلية يزيد من عدد الأشخاص الذين يواجهون مستويات عالية من انعدام الأمن الغذائي الحاد في 18 دولة مقارنة بعام 2023.

مجاعة مستمرة في مخيم زمزم

في السودان، قال توريرو إن المجاعة مستمرة في مخيم زمزم للنازحين بالقرب من مدينة الفاشر في ولاية شمال دارفور، ومن المتوقع أن تستمر حتى أكتوبر المقبل. ونبه إلى أن العديد من المناطق الأخرى في جميع أنحاء السودان معرضة أيضا لخطر المجاعة بسبب استمرار العنف ومحدودية المساعدات الإنسانية.

وأضاف المسؤول الأممي أن الصراع يستمر في التسبب بتدهور سريع للأمن الغذائي في السودان، حيث تشير التقديرات إلى أن حوالي 26% من الأشخاص سيواجهون مستويات عالية من انعدام الأمن الغذائي الحاد. وتم تصنيف حوالي 25.6 مليون شخص على أنهم يعانون من مستوى أزمة أو أسوأ.

وألقى الصراع في السودان بظلاله على الأمن الغذائي في البلدان المجاورة مثل تشاد وجنوب السودان، وفقا لتوريرو.

أزمة الغذاء في غزة الأكثر شدة في التاريخ

أما بشأن الوضع في غزة، يقول توريرو إن أزمة الغذاء لا تزال الأكثر حدة في تاريخ التقرير العالمي عن الأزمات الغذائية، مع وجود ما يقرب من 2.2 مليون شخص من السكان ما زالوا في حاجة ماسة إلى الغذاء والمساعدة.

وقد اشتدت حدة الأزمة، حيث عانى نصف السكان من المجاعة خلال الفترة بين مارس وأبريل، ارتفاعا من ربع السكان خلال الفترة من ديسمبر 2023 إلى فبراير 2024.

وتشير التوقعات إلى انخفاض هذه النسبة إلى 22% من السكان - أي حوالي 495 ألف شخص، خلال الفترة بين يونيو وسبتمبر 2024، ولا تشير الأدلة المتاحة إلى المجاعة على الرغم من أن خطرها لا يزال قائما.

جانب إيجابي

على الصعيد الإيجابي، قال توريرو إن تحسن موسم الحصاد والاستقرار الاقتصادي أديا إلى تحسن في الأمن الغذائي في 16 دولة.

ومن بين هذه الدول الـ 16 شهدت 5 دول - هي أفغانستان وكينيا والكونغو الديمقراطية وغواتيمالا ولبنان - انخفاضا في عدد الأشخاص الذين يواجهون مستويات عالية من انعدام الأمن الغذائي الحاد بمقدار مليون شخص على الأقل، منذ بلوغ الذروة في عام 2023، لكن جميع هذه الدول لا تزال في وضع الأزمة.

ما المطلوب؟

فيما يتعلق بالإجراءات المطلوبة لتحسين وضع الأمني الغذائي، تطرق، عارف حسين، كبير الاقتصاديين في برنامج الأغذية العالمي، إلى أمرين قال إنهما مطلوبان بشدة وهما الوصول إلى الأشخاص المحتاجين والتمويل المستدام.

وأضاف: "لا يكفي أن يكون لديك واحد من هذين الأمرين. أي إذا توفر الوصول وحده فهذا لا يكفي، وإذا توفر المال وحده فهو لا يكفي أيضا. أنت بحاجة إلى الاثنين معا (...) ولذلك نسعى إلى التأكد من وجود وصول وتمويل مستدامين حتى نتمكن من مساعدة الأشخاص المحتاجين سواء في غزة أو في السودان أو في أي مكان آخر".

وتحدث حسين عن مشكلة أخرى وهي "الإجهاد في مجال التمويل"- في إشارة إلى الإجهاد الذي أصاب الجهات المانحة. وشدد في هذا السياق على ضرورة معالجة الأسباب الجذرية لانعدام الأمن الغذائي سواء تعلق ذلك بالمناخ أو بالصراع، "لأنه ما لم نعالج الأسباب الجذرية، فلا ينبغي لنا أن نتوقع انخفاضا في الاحتياجات".

الهزال يفتك بالأطفال في مناطق الأزمات

الدكتور فيكتور أغوايو، مدير التغذية ونمو الطفل في منظمة اليونيسف تحدث في إحاطته عن الهزال بوصفه الشكل الأكثر تهديدا للحياة من أشكال سوء التغذية لدى الأطفال. وقال إن الهزال يظل مرتفعا جدا بين الأطفال الذين يعيشون في بلدان تعاني من أزمات غذائية.

ويعود ذلك، وفقا للمسؤول الأممي، إلى عدم قدرة الأسر على الوصول إلى الأطعمة المغذية لأطفالها أو تحمل تكلفة تلك الأطعمة، فضلا عن عدم القدرة على الوصول إلى خدمات الصحة والتغذية والمياه والصرف الصحي.

وقال أغوايو إن التقرير العالمي يسلط الضوء على زيادة مقلقة في هزال الأطفال، مع مستويات حرجة في 8 دول هي الكاميرون وتشاد وجيبوتي وهايتي والسودان وسوريا وأوغندا واليمن.

أكثر من 50 ألف طفل في غزة يعانون من سوء التغذية الحاد

وقال مدير التغذية ونمو الطفل في اليونيسف إنه زار غزة الأسبوع الماضي ورأى بنفسه كيف انعكست شهور من الحرب والقيود الشديدة المفروضة على الاستجابة الإنسانية، وأدت إلى انهيار أنظمة الغذاء والصحة والحماية، مع عواقب كارثية على تغذية الأطفال.

ووصف النظام الغذائي للأطفال الصغار بأنه "رديء للغاية"، حيث لا يتناول أكثر من 90 في المئة منهم سوى نوعين من الطعام، يوميا، في أفضل الأحوال، وأضاف: "ونحن نقدر أن أكثر من 50 ألف طفل يعانون من سوء التغذية الحاد ويحتاجون إلى علاج منقذ للحياة الآن".

ومضى قائلا: "التقيت أثناء وجودي في غزة بأطباء وممرضات وعاملين في مجال التغذية ينفذون البرامج التي ندعمها... واستمعت إلى نضالات الأمهات والآباء في سبيل إطعام أطفالهم. وما من شك لدي في أن خطر المجاعة وأزمة التغذية الشديدة واسعة النطاق في غزة حقيقي".

حاجة إلى وقف فوري لإطلاق النار

أغوايو قال إن هناك سبيلا واحدا لمنع ذلك الخطر وأضاف: "نحن بحاجة إلى وقف إطلاق النار، على الفور، ومع وقف إطلاق النار، يجب توفير وصول إنساني مستدام وواسع النطاق إلى قطاع غزة بأكمله. وقف إطلاق النار والاستجابة الإنسانية غير المقيدة وحدهما الكفيلان بتمكين الأسر من الوصول إلى الغذاء، بما في ذلك التغذية المتخصصة للأطفال الصغار، والمكملات الغذائية للنساء الحوامل، وخدمات الصحة والمياه والصرف الصحي لجميع السكان".

في السودان، يتأثر أكثر من 25 مليون شخص بانعدام الأمن الغذائي - بمن فيهم ما يقرب من 3.7 مليون طفل يعانون من سوء التغذية الحاد. وتستمر هذه الأرقام في الارتفاع بسبب النزوح الجماعي، والوصول الإنساني المحدود، وتعطل خدمات الصحة والتغذية، وفقا لأغوايو.

ودعا المسؤول في منظمة اليونيسف إلى استجابة إنسانية غير مقيدة وواسعة النطاق للوقاية المبكرة والكشف عن وعلاج سوء التغذية الحاد بين الأطفال الأكثر ضعفا، وخاصة لمن تقل أعمارهم عن 5 سنوات، وأمهاتهم، والذين تتعرض حياتهم للخطر بسبب هذه الأزمات المتصاعدة المتعددة.