بغداد – بقلم ملاك أحمد:

"لا أفهم لماذا نبقى في بلد يستهدف الأطباء ولا يقدّر أهمية وجودهم والحفاظ عليهم؟"، يتساءل المتخصّص بالجراحة الباطنية الدكتور علاء الجميلي.

ويتابع الجميلي، الذي يعمل في بغداد، في حديثه لموقع (إرفع صوتك) "منذ العام 2003 وحتى الآن، اغتيل المئات من الأطباء وتحمّلنا الكثير بغية البقاء والاستمرار بالعمل بعد أن ضاعفوا رواتبنا والحوافز المالية في سنوات الاقتتال الطائفي. لكن أن تُرفع الحوافز ونستلم رواتبنا الشهرية كل 50 يوم أو أكثر، فهذا ما لا يمكن قبوله".

ويضيف "كلّ الأطباء الذين غادروا البلاد توفرت لهم فرص عمل مهمة ويستلمون رواتب مغرية وأوضاعهم الاقتصادية مستقرة، فلماذا لا نهاجر مثلهم؟".

امتيازات مالية لا تحفز للبقاء

على الرغم من أنّ وزارة الصحة والبيئة تهتم كثيراً بتعيين الأطباء الجدد، لم يكن مفاجئاً أن تراهم بعد تخرجهم من الجامعات الطبية وقد حملوا حقائبهم للهجرة خارج البلاد.

يقول محمد الموسوي، وهو طالب مرحلة نهائية في كلية الطب ببغداد، في حديث لموقع (إرفع صوتك) "لا يمكن أن أقتنع وسط الأوضاع الأمنية غير المستقرة وتهديدات القتل من دون أن تكون لي امتيازات مالية تحفزني بالبقاء وعدم الهجرة".

يحاول محمد منذ الآن أن يستبق الأوضاع الصعبة التي يتوقّعها بعد تخرّجه، باحثاً عن طريق خارج البلاد لممارسة مهنته هناك.

هجرة أطباء المستشفيات الحكومية

تتركز هجرة الكفاءات العلمية بصورة خاصّة في دوائر الدولة ومؤسساتها، كحال وزارة الصحة والبيئة. ويقدّر عدد الأطباء الذين هاجروا العراق حتى نهاية العام  2015 بأكثر من 17 آلف طبيب، بحسب ما أعلن في مؤتمر لوزارة التعليم العالي والبحث العلمي حول هجرة الكفاءات العلمية عُقد مؤخراً في بغداد. وشكّلت الأوضاع الاقتصادية وانخفاض الموازنة المالية وتقليص الرواتب والأوضاع الامنية غير المستقرة أهمّ دوافع هجرتهم.

ويقرّ الدكتور أحمد الرديني، المتحدّث الرسمي لوزارة الصحة والبيئة، في حديث لموقع (إرفع صوتك) بهجرة "كبيرة وملحوظة" في صفوف أطباء المستشفيات الحكومية. ويحمّل الرديني المسؤولية لقلّة المخصصات المالية التي اعتمدت سياسة التقشف فضلاً عن التهديدات الأمنية التي يتعرّض لها الأطباء. ويبدي الرديني قلقه إزاء هذه الظاهرة ويشير إلى أنّ المؤسسات الصحية بدأت تعاني بالفعل من قلة الاطباء.

02

فشل مشروع (دعوة الكفاءات العلمية)

ما تحدّث به الدكتور أحمد الرديني يؤكده ستار نوروز، معاون مدير دائرة شؤون الهجرة في وزارة الهجرة والمهجرين في حديث لموقع (إرفع صوتك)، لكنّه يوضح أنّ الوزارة لا تملك إحصائية دقيقة عن الكفاءات العلمية التي هاجرت خلال الأشهر القليلة الماضية.

يتحدّث نوروز عن مشروع (دعوة الكفاءات العلمية) الذي تبنته وزارة الهجرة والمهجرين وفق قرار مجلس الوزراء 441 للعام 2008، والذي عدل بقانون رقم 39 لعام 2010. ويقضي القانون بتشجيع أيّ كفاءة علمية غادرت البلد قبل العام 2003 أو بعده للعودة ومساعدتها في الانتساب الوظيفي وبنفس الدرجة الوظيفية ومميزاتها، ويعد بحصولها على منحة مالية قدرها أربعة ملايين دينار وقطعة أرض وغيرها من الامتيازات.

ويقول إنّ المشروع "يتجه الآن نحو الفشل بسبب الأوضاع الاقتصادية المتأزمة في البلاد وانهيار أسعار النفط الذي يعد المورد الرئيسي للخزينة العراقية".

ويشكّك نوروز بقدرة الحكومة العراقية على إقناع الكفاءات المحلية التي هاجرت بالعودة مرة ثانية. ويؤكد "فقد المشروع مصداقيته لأنّ قوانينه لم تطبق على نحو مناسب".

الحكومة ستبقى عاجزة

لا تقتصر هجرة الكفاءات العلمية من العراق على الأطباء فحسب، بل تشمل الكثير من الاختصاصات المختلفة. وهو ما يرجعه الخبير الاقتصادي محسن عبد اللطيف إلى "تصريحات الحكومة بصورة علنية ومخيبة للآمال بإفلاس مؤسّساتها وتهديداتها المتواصلة بالاستغناء عمّن يعملون في ظلّها بسبب الوضع الاقتصادي المتأزم".

هذا الواقع يعيد إلى ذهن عبد اللطيف هجرة الكفاءات العلمية إبّان الحصار الاقتصادي في تسعينيات القرن الماضي من أجل البحث عن فرص عمل مناسبة لهم في دول العالم. ويشير إلى أنّ "الجهات الحكومية ستبقى عاجزة عن الحد من هـذه الظواهر التي تفاقمت بسبب اعتمادها الكلي على الموارد النفطية وإهمال القطاعات الأخرى".

عودتي للعراق كانت خطأ فادحاً

وسط مرآب لسيارات نقل الركاب في العاصمة بغداد، يقف جانباً وميض علي، الذي يعمل كسائق سيارة أجرة. وهو من حملة الشهادات العليا (الماجستير) في الهندسة .

منذ بضعة أعوام، قرّر علي العودة من ايطاليا التي هاجر إليها بعدما أغلقت أمامه أبواب التوظيف أو التعيين في مؤسسات الدولة. وحينها كان يعلّق الآمال كغيره من الشباب على جدية الحكومة العراقية في تبني عودة الكفاءات ودعوتهم للمساهمة في بناء البلد.

لكنّه بعد العودة اكتشف أنّ القوانين والامتيازات التي وُضعت من منح مالية وقطع أراضي وتوظيف في كل من دوائر الدولة – بحسب الاختصاص - من الممكن أن تموت بسبب الروتين والمحسوبية والعلاقات.

ويقول علي في حديث لموقع (إرفع صوتك) "عودتي الى العراق كانت خطأ فادحاً، إذ أنّي حتى الآن لم أستلم ما وعدت به الحكومة مقابل العودة بسبب الروتين والإجراءات الادارية المعقدة".

ويضيف "من بين القوانين التي وضعتها الوزارات لعودة الكفاءات للعمل في مؤسساتها هي تقديم وثيقة تثبت حاجة مؤسسة ما لتخصصك. وهنا المعضلة، لانّ معظم المؤسسات الحكومية ومنذ مدة تعاني من قلة الفرص الوظيفية بسبب شحّ الأموال".

يفكر علي الآن بالعودة إلى ايطاليا. لكن سوء أوضاعه الاقتصادية لا يتيح له ذلك. كل ما يستطيع أن يفعله الآن، حسب قوله، هو العمل كسائق سيارة أجرة (تاكسي) أملاً في جمع ما يكفي من المال  للهجرة من جديد.

*الصور: تتركز هجرة الكفاءات العلمية بصورة خاصة في دوائر الدولة ومؤسساتها/إرفع صوتك

يمكنكم التواصل معنا وإرسال الفيديوهات والصور لموقعنا عبر تطبيق “واتساب” على الرقم 0012022773659

المزيد من المقالات

مواضيع ذات صلة:

الحرب أدت إلى تدمير جزء كبير من البنية الأساسية في قطاع غزة بما في ذلك المراكز التعليمية
الحرب أدت إلى تدمير جزء كبير من البنية الأساسية في قطاع غزة بما في ذلك المراكز التعليمية

مع بدء السنة الدراسية الجديدة في معظم أنحاء الشرق الأوسط، يجد تلاميذ قطاع غزة أنفسهم للعام الثاني على التوالي دون مدارس ينهلون منها العلم والمعرفة، مما حدا برهط من المسؤولين والأهالي إلى إيجاد بعض الحلول الفردية، وفقا لتقرير نشرته صحيفة "وول ستريت جورنال" الأميركية.

وكان من المفترض أن يبدأ العام الدراسي الجديد رسميا هذا الأسبوع، في القطاع الذي يشهد حربا شرسة منذ أكثر من أحد 11 شهرا بين الجيش الإسرائيلي وحركة حماس، المصنفة "منظمة إرهابية" في الولايات المتحدة ودول أخرى.

وأدى القصف إلى تدمير جزء كبير من البنية الأساسية الحيوية في القطاع الفلسطيني، بما في ذلك المراكز التعليمية، التي كانت تستوعب نحو مليون تلميذ تحت سن 18 عاماً، وفقاً للأمم المتحدة.

وفي ظل صعوبة تأمين مساحة آمنة لتدريس الأطفال، قررت وفاء علي، التي كانت تدير مدرسة بمدينة غزة قبل الحرب، فتح فصلين دراسيين في منزلها شمالي القطاع، حيث يتجمع العشرات من الأطفال لتعلم العربية والإنكليزية بالإضافة إلى مادة الرياضيات.

وقالت علي: "أرادت الأسر أن يتعلم أطفالها القراءة والكتابة بدلاً من إضاعة الوقت في المنزل، خاصة أن الحرب لن تنتهي قريبا".

ولا يستطيع المعلمون الوصول إلا إلى نسبة صغيرة من الأطفال الذين حرموا من التعليم بسبب الحرب، التي بدأت بعد أن هاجمت حركة حماس إسرائيل في 7 أكتوبر، مما أسفر عن مقتل 1200 شخص، معظمهم من المدنيين، وبينهم نساء وأطفال، حسب بيانات رسمية.

وردًا على ذلك، شنت إسرائيل عملية عسكري أدت إلى مقتل أكثر من 41 ألف شخص، غالبيتهم من النساء والأطفال، وفقًا لوزارة الصحة في القطاع.

"نبذل قصارى جهدنا"

من جانبها، أوضحت آلاء جنينة، التي تعيش حاليا في خيمة بوسط قطاع غزة، أن طفلها البالغ من العمر 4 سنوات وابنتها ذات السبع سنوات، يتلقيان دروسًا في خيمة قريبة.

وقالت المراة البالغة من العمر 33 عاما، إنها زارت مؤخرا "مدرسة الخيام"، مضيفة: "لقد أحزنني ذلك. ليس لديهم ملابس أو حقائب أو أحذية. لكننا نبذل قصارى جهدنا".

وتقول وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "أونروا"، التي تدير عشرات المدارس بالقطاع، إن أكثر من ثلثي مدارسها دُمرت أو تضررت منذ بدء الحرب.

ووفقا للوكالة، فقد قُتل "مئات" الفلسطينيين الذين نزحوا إلى مرافق الأونروا، ومعظمها مدارس، بينما تؤكد إسرائيل
أن ضرباتها على المدارس وملاجئ الأونروا "تستهدف المسلحين الذين يستخدمون تلك المرافق"، وهو أمر تنفيه حركة حماس.

ورفضت هيئة تنسيق أعمال الحكومة في المناطق، وهي الهيئة العسكرية الإسرائيلية المسؤولة عن التنسيق مع جماعات الإغاثة، التعليق، كما لم يستجب مكتب رئيس الوزراء الإسرائيلي لطلب التعليق من الصحيفة الأميركية.

"بقع لليأس والجوع"

وقالت "الأونروا" إنها أطلقت برنامج العودة إلى التعلم، الذي سيجلب حوالي 28 ألف طفل إلى عشرات المدارس، لافتة إلى أن ذلك البرنامج سيركز على "الدعم النفسي والفنون والرياضة ومخاطر الذخائر المتفجرة، ثم سيتعمق أكثر في مواد القراءة والكتابة والرياضيات".

وفي هذا الصدد، قال المفوض العام للأونروا، فيليب لازاريني، الأربعاء، على وسائل التواصل الاجتماعي: "الكثير من المدارس لم تعد مكانًا للتعلم. لقد أصبحت بقعا لليأس والجوع والمرض والموت".

وتابع: "كلما طالت فترة بقاء الأطفال خارج المدرسة.. كلما زاد خطر تحولهم إلى جيل ضائع. وهذه وصفة للاستياء والتطرف في المستقبل".

من جانبه، أوضح الباحث في مركز دراسات النزاع والعمل الإنساني بقطر، معين رباني، أن قطاع غزة "كان لديه معدلات تعليم عالية نسبيًا، على الرغم من نسب الفقر الكبيرة التي تسوده".

وأضاف رباني أن الفلسطينيين "سعوا منذ فترة طويلة إلى التعليم للتقدم وسط ظروف اقتصادية صعبة، حيث وقد وفرت لهم الأمم المتحدة ومنظمات غير حكومية مختلفة فرصًا تعليمية جيدة".

ولفت في حديثه للصحيفة الأميركية، إلى أن العديد من الفلسطينيين في غزة "اعتادوا على فقدان أراضيهم ومنازلهم وممتلكاتهم، وبالتالي اهتموا بالتعليم، لأنه أمر يمكنك أن تأخذه معك أينما ذهبت".

وهناك ثمن نفسي للابتعاد عن المدرسة على الأطفال أيضًا، إذ قالت ليزلي أركامبولت، المديرة الإدارية للسياسة الإنسانية في منظمة إنقاذ الطفولة الأميركية، إن قضاء عام بعيدًا عن المدرسة والأصدقاء والملاعب والمنازل خلال صراع مسلح عنيف، "يمثل إزالة للركائز الأساسية للاستقرار والسلامة للأطفال".

وشددت على أن "عدم اليقين والتوتر وفقدان المجتمع، يمكن أن يؤدي إلى تحفيز أنظمة الاستجابة الطبيعية للتوتر في الجسم، والتي يمكن أن تكون ضارة بمرور الوقت".

واستطردت حديثها بالتأكيد على أن "تكرار هذه الأعراض أو استمرارها لفترات طويلة، قد يؤدي إلى مجموعة من النتائج السلبية على الصحة العقلية، التي لا يتعافى منها الأطفال بسهولة".

وكانت منظمة الأمم المتحدة للطفولة (اليونيسيف)، قد كشفت في وقت سابق هذا الشهر، أن الأطفال في قطاع غزة "هم الفئة الأكثر تضررًا" مما يحدث هناك، وهم بحاجة ماسة لدعم نفسي وتعليمي بشكل عاجل.

وقال الناطق باسم المنظمة، كاظم أبو خلف، في تصريحات نقلتها وكالة الأنباء الفلسطينية (وفا)، إن الوضع الحالي في غزة "يتطلب استجابة عاجلة لمساعدة الأطفال الذين يعانون من فقدان التعليم والأضرار النفسية الجسيمة التي يتعرضون لها".

وشدد على أن "جميع الأطفال في القطاع يحتاجون إلى دعم نفسي، حيث فقد ما لا يقل عن 625 ألف طفل عامًا دراسيًا منذ بدء الحرب.. وبعض الأطفال تعرضوا لبتر أطرافهم وهم بحاجة إلى الخروج من القطاع لتلقي العلاج، فيما يعاني العديد من الأطفال من الخوف والقلق بسبب الحرب".