بقلم خالد الغالي:
تتصدّر تونس لائحة الدول المصدرة للمقاتلين في صفوف تنظيم داعش عالمياً. وتقدرّهم آخر الإحصائيات بحوالي 6000 مقاتل.
وإذا كانت الاتهامات في كثير من الدول تتجه، عن صواب أو خطأ، مباشرة إلى التعليم الديني، محمّلة إياه مسؤولية تفريخ الجهاديين، إلا أن هذا ليس الحال في تونس. حيث تمتلك البلاد تعليماً دينياً منفتحاً إلى حدٍّ بعيد، يراكم الإشادة حتى من الأطراف العلمانية في البلد.
لا يوجد في تونس، على عكس المغرب ومصر ودول أخرى، تعليم ديني موازٍ كالتابع للأزهر في القاهرة أو للقرويين في فاس. فمنذ سنة 1958، أنهت حكومة الرئيس الحبيب بورقيبة "التعليم الزيتوني"، وحوّلت جامعة الزيتونة إلى جامعة عصرية تحت وصاية وزارة التعليم. ووحدها الدولة تشرف على التعليم الديني في المدراس، بمختلف مراحلها الابتدائية والإعدادية والثانوية. حتى الكتاتيب القرآنية، تخضع لرقابة وزارة الشؤون الدينية.
الاستثناء التونسي
تصف دراسة أنجزها مركز كارنيغي للشرق الأوسط، في بيروت، سنة 2012، تونس بأنّها تقدم مقاربة مختلفة في مجال التعليم الديني عن باقي دول المنطقة.
يتكامل في هذه المقاربة ما يتم تدريسه في مادة التربية الإسلامية، وما يتلقاه التلاميذ في باقي مواد العلوم الاجتماعية والإنسانية. تقول الدراسة، التي أنجزها الباحث محمد فاعور، "تبدو قيم وأهداف التعلّم الخاصة بالدراسات الدينية والمدنية التونسية أكثر انسجاماً... ويهدف المنهج المدرسي لمختلف المواد... إلى تطوير القيم الشاملة للحرية المسؤولة والتعاون والمساواة والعدالة الاجتماعية واحترام الآخر".
وتؤكد الدراسة نفسها حضور موضوعي التسامح والتعايش مع الآخر بقوة داخل الكتب المدرسية التونسية. فرغم أن البلاد تتشكل من 98 في المئة من المسلمين، إلا أن "تاريخ اليهودية والمسيحية والإسلام جميعاً يُدرس كجزء من مادة الدراسات الاجتماعية في المدارس الثانوية الحكومية".
علاوة على ذلك، ترفض كتب التعليم الديني استبعاد غير المسلمين، وتعلي من شأن التسامح الديني تجاه المسيحيين واليهود "باعتباره قيمة إسلامية". كما تشجع احترام الأديان الأخرى وحرية العقيدة. وتعلي قيمة السلام، فتعتقد أن الحرب لا تجوز إلا في حالة العدوان أو الاضطهاد.
وفي المرحلة الثانوية، تتحول مادة التربية الإسلامية في المدارس الحكومية إلى مادة "التفكير الإسلامي"، "ما يعكس هدف المنهج الدراسي المتمثل في تعزيز التفكير التحليلي الذي لا يتعارض مع الأركان الأساسية للإسلام"، حسب الدراسة.
ويتابع محمد فاعور أن المناهج التونسية تضع الأعراف الدولية إطاراً مرجعياً لها، كما أن "المواضيع المختارة في المنهاج الدراسي التونسي، مثل الإنسان والتوحيد والإنسان والمجتمع، أكثر قابلية للتحليل الأعمق والتفكير الفلسفي".
تقليد قديم
لم يصل التعليم الديني في تونس إلى هذه المرحلة المتقدمة من الانفتاح والتطور من دون الاستناد على إرث تاريخي قديم. يقول الأكاديمي وأستاذ القانون بكلية الحقوق والعلوم السياسية بجامعة تونس، محمود حسن "انبنى التعليم الديني في تونس على ثوابت مستمدة من المخزون الحضاري للإسلام في مدينة القيروان. كانت هذه المدينة في وقت من الأوقات عاصمة لشمال إفريقيا، وأنشأت إسلاماً مالكياً عقلانياً منفتحاً يؤمن بالتعايش".
ويتابع الباحث التونسي "بعد القرن العاشر الميلادي، وجراء فترة طبعها غياب الاستقرار السياسي، انتقل هذا المخزون الثقافي إلى تونس التي صارت عاصمة للبلاد، فورثه جامع الزيتونة".
"ومع نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، ظهر مفكرون عقلانيون متنورون، كالطاهر بن عاشور وابنه فاضل بن عاشور والطاهر حداد. وألفوا كتباً وقدموا تفسيرات متنورة للتراث تقوم على الفكر المقاصدي وتحكيم العقل. أثرت هذه الكتابات بقوة في التعليم الديني ومناهج التدريس"، يؤكد محمود حسن.
لاحقاً، استفادت الحركة الوطنية التونسية، خلال مرحلة الحماية الفرنسية، من هذا المخزون المتراكم منذ قرون. ثمّ اعتمدته الدولة في مرحلة الاستقلال، لتبني نظامها التعليمي الديني.
ويشير أستاذ العلوم السياسية بجامعة تونس منير كشاو إلى مرحلة أخرى مهمة في تاريخ التعليم الديني التونسي، تتمثل في الإصلاحات التي كان وراءها وزير التربية الوطنية محمد الشرفي في نهاية الثمانينات وبداية التسعينات.
يقول منير كشاو "في تونس، ومنذ إصلاحات وزير التعليم محمد الشرفي، وقع إصلاح جذري لقطاع التعليم وتمت إعادة ضبط المناهج الدراسية الدينية. فأزيل منها كل ما يتعلق بالرؤية الحربية تجاه الآخر التي تركز على الجهاد، لصالح رؤية تقوم على التسامح والتعايش وتؤول الإسلام وفق نظرة مقاصدية وسياقية".
لم الإرهاب إذن؟
ضرب الإرهاب تونس بقوة في مرحلة ما بعد ثورة الياسمين سنة 2011. ولحدود اليوم، لا تزال قوات الجيش تواجه الجماعات المسلحة المتحصنة في جبل الشعانبي وسط غربي البلاد، على الحدود الجزائرية. ونجح الإرهابيون أكثر من مرة في الوصول إلى العمق التونسي، واستهداف أماكن حسّاسة في العاصمة تونس (متحف باردو) ومدينة سوسة الساحلية السياسية (فندق أمبريال مرحبا).
حسب منير كشاو، يكمن الخلل في أن "التعليم الديني في المدارس الحكومية لا يمثل إلا جزءاً يسيراً من التكوين الديني للفرد، الذي يأتي جزء كبير منه من خارج إطار المدرسة. إذ تساهم مؤسسات أخرى في التربية الدينية للشخص، سواء أكانت المساجد، حيث سلطة الشيخ أو الإمام وتأثيرهما ينافسان سلطة التعليم الديني الحكومي، أو الأسرة أو المجتمع أو حتى الجمعيات الدينية".
ويتابع الباحث التونسي "كل هذا يجعل أن السلطة الحقيقية على الناس في المجال الديني تقع خارج أسوار المدرسة. وهو ما يسهم في دفع المجتمع إلى مزيد من المحافظة، فيظهر التناقض بين الوجه التقدمي للتعليم الديني الحكومي والجانب الرجعي المحافظ للثقافة الغالبة في المجتمع التونسي".
من جهته، يرى محمود حسن أن الفوضى وضعف مؤسسات الدولة، عقب ثورة سنة 2011، أسهما أيضاً وبشكل كبير في ظهور جماعات متشددة. يقول المحامي والأكاديمي التونسي "انتشرت كثيراً خلال هذه الفترة جمعيات دينية تحمل فكراً متشدداً. وتم استغلال حالة الفوضى والتسيب، فظهرت الفتاوى الغريبة وفتح المجال أمام دعاة التشدد القادمين من الخارج. وكثرت الدعوات إلى الجهاد، من دون أن تحرك الحكومة التي كانت تقودها حركة النهضة ساكناً".
ويتابع "خلال تلك الفترة أيضاً، أعلن العفو التشريعي العام. وخرج من السجن الكثير من المتشددين، وشرعوا في العمل بشكل علني قبل أن يبادروا إلى تأسيس تنظيمات جهادية".
* الصورة: "المواضيع المختارة في المنهاج الدراسي التونسي... أكثر قابلية للتحليل الأعمق"/shutterstock
يمكنكم التواصل معنا وإرسال الفيديوهات والصور لموقعنا عبر تطبيق “واتساب” على الرقم 0012022773659