بقلم د. مصطفى النجار:
حين كنت صغيرا علّمني الإسلاميون أن العلمانية هي "إقامة الحياة بدون الدين سواء بالنسبة للأمة أم للفرد". ولقنوني أن العلمانية تعادي الدين وتهدف لهدمه ولا بد من التصدي لها، لأن الإيمان الحق يتعارض مع مبادىء العلمانية!
تشرّب قلبي هذه الأفكار وتعجّبت من هؤلاء الذين يقضون حياتهم لهدم الأديان والفضائل الإنسانية. وازداد اقتناعي أن الإسلاميين هم حراس الدين وهم الذين سيأخذون بيدي إلى الجنة.
في بداية دراستي الجامعية أواخر التسعينيات، تظاهرت ضد رواية - لم أقرأها – قيل لي أن كاتبها يسيء للإسلام ويصف القرآن بـ "الخراء". كان لديّ استعداد للموت دفاعا عن الدين الذى يحاربه هؤلاء العلمانيون الذين صاروا يجسدون بداخلي كل معاني الشرور.
استطاع الإسلاميون إقناعي فى طفولتي وبداية شبابي أن قراءتهم للدين وفهمهم هو الفهم الوحيد الصحيح وأن ما عدا ذلك هو ضلال. لم أكن أفهم لماذا كانوا يحذرونني من قراءة كتب العلمانيين بل وكتب الإسلاميين الآخرين المختلفين معهم في الأفكار. حين خالفت رغبتهم هذه وتركت عقلي وفكري يسبح فى بحار الفكر المختلفة، فاجأني هذا التنوع في قراءة الدين والتعامل مع نصوصه.
اكتشفت أن الدين له قراءات مختلفة وأن ما يحرمه هؤلاء قد يكون مباحا لدى آخرين. بالتدريج، تحرر عقلي من أحادية الفكر وصرت أشمئز من احتكار الفهم وادعاء امتلاك الحقيقة.
خضت مرحلة زلزلة العقول ومراجعة الأفكار. كان الصراع بداخلي عنيفاً لأنه يمسّ هويتي الفكرية والنفسية ويعيد تأطير نظرتي للعالم من حولي بكل ما فيه. تكسّرت أمام عيني الكثير من المُسلمات والقناعات التى اكتشفت خواءها وعدم منطقها. لم أفهم مشاعر الكراهية التى كنت أُحمّل بها ضد كل مختلف عني في الدين أو الفكر. لم أفهم كيف يثيبني الله على كراهية الآخرين وكيف يعتبرون ذلك من تمام العبادة. لم أفهم لماذا عليّ أن أفرح وأنا أرى قتل المدنيين الأبرياء الذين لا ذنب لهم فيما تفعله حكوماتهم. خجلت من نفسى وأنا أراجع فقه الجهاد الذى يبيح سبي النساء واغتصابهن باسم الدين. خجلت من التمييز بين البشر بسبب العقيدة. لم أدرِ كيف يمكن أن أقبل أن تسير حياتي طبقا لفهم وعقول واجتهاد أناس فى زمن قديم لم يعرفوا معنى المواطنة ولم تساعدهم وسائل الاتصال الحديثة فى التعرف والتواصل مع غيرهم من البشر، ليدركوا أن تصنيف البشر تبعا لدينهم وأفكارهم هو رذيلة إنسانية يجب التوقف عنها.
تعرّفت على أشد المختلفين معي في الأفكار. لم أجدهم بهذا السوء الذى كنت أتخيله. لم يعد لفظ العلمانية يضايقني كما كنت قبل ذلك. لم أعد أرها هدما للدين، بل وجدتها تطورا للفكر الإنساني الذى أدرك خطورة كهنوت الدين وخلطه بالسياسة. أدركت أن للعلمانية تعاريف كثيرة، منها ما يناسبني ومنها ما اختلف معه. فهمت الفرق بين إقصاء الأديان من حياة الناس وبين إبعاد الدين عن السياسة تقديسا للدين وحفظا له من الابتذال.
لم أعد معنيا بهوس الإسلاميين وتخويفهم من العلمانية بدعايات مضللة. لم أعد أجد حرجا أن أطالب وأناضل من أجل بناء دولة علمانية صريحة لا تعادي الدين كما يزعمون، بل تحفظ للناس حق الاعتقاد وتحترم كل العقائد المختلفة ولا تجعلها سببا للتمييز أو الاضطهاد. لم أعد أجد أي غضاضة بين كوني مؤمنا بالعلمانية وإبعاد الدين عن السياسة وبين كوني مؤمنا بالله ومعتقدا في دين سماوي أنزله.
لم يعد ابتزاز المتطرفين من الناحيتين يمثل لي شيئا. فمن يعادون الأديان ويحاربونها لا يختلفون كثيرا عمن يوظفون الدين من أجل الدنيا ويحتكرون فهمه ليفرضوا الوصاية على الناس. ليس من حق أحد أن يمنع أحد حق الاعتقاد أو حتى عدم الاعتقاد واللادينية.
سأربى أبنائي على ذلك. سأخبرهم أن من يقتلون الناس باسم الدين وادعاء نصرة الإسلام هم مجرمون وقتلة. سأطلب منهم أن يقرؤوا بلا توقف وأن يراجعوا أفكارهم وقناعاتهم كل حين. علينا أن نتحلى بالشجاعة ونجهر بأفكارنا ولا نبالى بابتزاز البعض أو تخوينهم أو تكفيرهم. دفعت أقطارنا العربية ثمنا باهظا للتعايش مع التطرف ووجهه الآخر من الاستبداد الفاشي الذى حكمها باسم الوطنية، فتأخرنا كثيرا عن المستقبل. فلنطوي هذه الصفحة المظلمة. ولنناضل من أجل دولة مدنية علمانية لا دينية ولا عسكرية، لا توظف الدين ولا المشاعر الوطنية لاستعباد الشعوب.
عن الكاتب: الدكتور مصطفى النجار، طبيب أسنان ومدون مصري ونائب برلماني سابق. يكتب النجار للعديد من المواقع والجرائد اليومية، كموقع (المصري اليوم). نشط في التدوين والكتابة عن قضايا حقوق الإنسان. وفاز بجائزة أحد أفضل خمسة مدونين عرب في مجال حقوق الإنسان عام 2009. وكرّمه مركز معلومات حقوق الإنسان ببيروت.
لمتابعة النجار على تويتر، إضغط هنا. وعلى فيسبوك، إضغط هنا.