بقلم حسن عبّاس:

أمام تصاعد مدّ التطرّف الإسلامي وبروز التنظيمات الإرهابية، تطرح بعض الأصوات فكرة العلمانية كحلّ للأزمة المصيرية التي تعاني منها دول الشرق الأوسط. لكن العرب اختبروا الحياة في ظل أنظمة علمانية ويحتاج ما خبروه إلى إعادة قراءة.

لا يهدف هذا الموضوع إلى مساجلة فكرتي العلمانية وحكم الشريعة نظرياً. فلا شك في أن فكرة العلمانية بما تتضمّنه من تقبّل للعقائد المتنوّعة في الفضاء العام تقدّم حلاً للتعصب ورفض الآخر.

لكنه يهدف إلى أمر آخر تماماً، وهو التأكيد على أن العبرة ليست بالفكرة بل بتطبيق الفكرة. فكل الأنظمة العربية الديكتاتورية التي عرفها العالم العربي حكمت باسم العلمانية أو المدنية، لكن ممارساتها كانت تشبه الممارسات التي يقوم بها حالياً الإسلاميون المتطرّفون. وقد تفيد المقارنة بين "العلمانيات العربية" وبين التطرّف في عدم تكرار أخطاء الماضي.

سقوط "نواة الدولة الحديثة"

يرى أستاذ علم الاجتماع السياسي في جامعة السوربون والسياسي السوري برهان غليون أن "قانون التعاقب السياسي في العالم العربي لا يزال هو قانون الإقصاء. فمَن يستلم السلطة يقصي الآخر".

وبرأيه هذا مستمر منذ نهاية "الفترة شبه الليبرالية" التي شهدتها دول عربية مثل سورية والعراق ومصر بعد استقلالها واستمرت حتى ستينيّات القرن الماضي حين استولت على السلطة حركات إيديولوجية عملت على إقصاء خصومها.

هكذا سادت ثقافة اغتيال المعارضين والنخب وصارت السلطات، بحسب غليون، ترى أن "الشعب زائد عن اللزوم ويعيق سيطرة الطغمة الحاكمة"، لافتاً إلى افتتاح ما أسماها "الأزمة الأخلاقية التي نعيشها منذ عقود عدّة".

وأشار غليون، في حديث إلى موقع (إرفع صوتك)، إلى الفشل في تطوير "نواة الدولة الحديثة" التي ظهرت بعد الاستقلال وإلى "العودة إلى الدولة السلطانية، دولة مَن يملكها، سواء أكان حزباً أم طائفة أم طبقة. فصار الشعب عبارة عن رعايا".

ووصف الأنظمة العربية بأنها "أكثر من ديكتاتورية. فالديكتاتوريات كانت تقمع معارضيها أما الأنظمة العربية فقد قمعت كل الناس لكي لا يتحدثون في السياسة".

سمات مشتركة

العلمانية الحقيقية، برأي غليون، تعني "أن كل شخص حرّ بمعتقداته شرط أن يلتزم بالقوانين، والدولة العلمانية مفتوحة للجميع". لكن في تطبيق هذا المفهوم عربياً "صارت العلمانية وسيلةً للإقصاء".

وحالياً، يرى غليون أن هنالك "عودة إلى القرون الوسطى" ويردّ ذلك إلى انقلاب الدولة على المجتمع. ومن سمات هذه العودة أنه "لم يعد من قيمة لحياة الإنسان".

وهنا تُثار إشكالية. لو لم تكرّس الأنظمة العربية المفاهيم التسلّطية هل كان الإسلام سينتج مثل هذه الحركات المتطرّفة التي تنتشر حالياً؟

برأي غليون، "لو كانت الأنظمة تتعامل مع الشعوب بشكل طبيعي لكانت نشأت أحزاب منظمة لا حركات متطرّفة، فكل نظام يخلق معارضته على شاكلته".

لكن ما حصل هو أن "الروح التقليدية صارت هي الأساس وعدنا إلى الطوائف والعصبيات وانهارت قيم الدولة الحديثة كالمواطنة والمساواة وحكم القانون".

ويعرض غليون نقاط تشابه بين الأنظمة العربية وبين الحركات المتطرّفة:

ـ الانغلاق على الذات وعدم تقبّل الآخر.

ـ انتهاج سياسة الإقصاء والانقلاب على القيم الحديثة. إذ ترى التنظيمات المتطرفة أن حرية الفرد جريمة كما كانت الأنظمة الديكتاتورية ترى في الحرية السياسية. وحالياً، "صارت الحرية الفردية تعتبر كفراً وصار هنالك أمير يمتلك مصائر الناس".

ـ الحركات المتطرّفة هي حركات أيديولوجية ويلعب الدين بالنسبة إليها نفس الدور الذي كانت تلعبه العقيدة بالنسبة للأنظمة المتسلطة.

وعلى مستوى الممارسات، يرى غليون تشابهاً أيضاً بين الفريقين:

ـ استخدام العنف بمختلف الأشكال ضد المختلفين.

ـ الانطلاق من مفاهيم الحقد والثأر والانتقام والتنكيل بالآخر.

ـ إرهاب المجتمع وابتزازه.

ـ الاستهتار بحياة الأفراد.

ـ الاستهتار بكل ما يمت بصلة إلى الثقافة والمثقفين.

ـ استعراض العنف، فكما أن تنظيماً كداعش يصوّر جرائمه ويوثقها، كذلك كانت الأنظمة العربية ولا تزال تسرّب تسجيلات تظهر تعذيب المعتقلين، وكل ذلك بهدف إرهاب المجتمع.

والخلاصة هي أن العبرة ليست في اسم الفكرة التي تتبنّاها السلطة وترفع لواءها. العبرة هي في المفاهيم التي تسود في المجتمع وتنظّم علاقة المواطنين بالسلطة وببعضهم البعض. ما يفتقده العالم العربي هو نموذج الديموقراطية الذي يسمح للجميع بالعيش معاً بسلام.

الصورة: "صار الشعب عبارة عن رعايا"/وكالة الصحافة الفرنسية

يمكنكم التواصل معنا وإرسال الفيديوهات والصور لموقعنا عبر تطبيق “واتساب” على الرقم 0012022773659

المزيد من المقالات

مواضيع ذات صلة:

الحرب أدت إلى تدمير جزء كبير من البنية الأساسية في قطاع غزة بما في ذلك المراكز التعليمية
الحرب أدت إلى تدمير جزء كبير من البنية الأساسية في قطاع غزة بما في ذلك المراكز التعليمية

مع بدء السنة الدراسية الجديدة في معظم أنحاء الشرق الأوسط، يجد تلاميذ قطاع غزة أنفسهم للعام الثاني على التوالي دون مدارس ينهلون منها العلم والمعرفة، مما حدا برهط من المسؤولين والأهالي إلى إيجاد بعض الحلول الفردية، وفقا لتقرير نشرته صحيفة "وول ستريت جورنال" الأميركية.

وكان من المفترض أن يبدأ العام الدراسي الجديد رسميا هذا الأسبوع، في القطاع الذي يشهد حربا شرسة منذ أكثر من أحد 11 شهرا بين الجيش الإسرائيلي وحركة حماس، المصنفة "منظمة إرهابية" في الولايات المتحدة ودول أخرى.

وأدى القصف إلى تدمير جزء كبير من البنية الأساسية الحيوية في القطاع الفلسطيني، بما في ذلك المراكز التعليمية، التي كانت تستوعب نحو مليون تلميذ تحت سن 18 عاماً، وفقاً للأمم المتحدة.

وفي ظل صعوبة تأمين مساحة آمنة لتدريس الأطفال، قررت وفاء علي، التي كانت تدير مدرسة بمدينة غزة قبل الحرب، فتح فصلين دراسيين في منزلها شمالي القطاع، حيث يتجمع العشرات من الأطفال لتعلم العربية والإنكليزية بالإضافة إلى مادة الرياضيات.

وقالت علي: "أرادت الأسر أن يتعلم أطفالها القراءة والكتابة بدلاً من إضاعة الوقت في المنزل، خاصة أن الحرب لن تنتهي قريبا".

ولا يستطيع المعلمون الوصول إلا إلى نسبة صغيرة من الأطفال الذين حرموا من التعليم بسبب الحرب، التي بدأت بعد أن هاجمت حركة حماس إسرائيل في 7 أكتوبر، مما أسفر عن مقتل 1200 شخص، معظمهم من المدنيين، وبينهم نساء وأطفال، حسب بيانات رسمية.

وردًا على ذلك، شنت إسرائيل عملية عسكري أدت إلى مقتل أكثر من 41 ألف شخص، غالبيتهم من النساء والأطفال، وفقًا لوزارة الصحة في القطاع.

"نبذل قصارى جهدنا"

من جانبها، أوضحت آلاء جنينة، التي تعيش حاليا في خيمة بوسط قطاع غزة، أن طفلها البالغ من العمر 4 سنوات وابنتها ذات السبع سنوات، يتلقيان دروسًا في خيمة قريبة.

وقالت المراة البالغة من العمر 33 عاما، إنها زارت مؤخرا "مدرسة الخيام"، مضيفة: "لقد أحزنني ذلك. ليس لديهم ملابس أو حقائب أو أحذية. لكننا نبذل قصارى جهدنا".

وتقول وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "أونروا"، التي تدير عشرات المدارس بالقطاع، إن أكثر من ثلثي مدارسها دُمرت أو تضررت منذ بدء الحرب.

ووفقا للوكالة، فقد قُتل "مئات" الفلسطينيين الذين نزحوا إلى مرافق الأونروا، ومعظمها مدارس، بينما تؤكد إسرائيل
أن ضرباتها على المدارس وملاجئ الأونروا "تستهدف المسلحين الذين يستخدمون تلك المرافق"، وهو أمر تنفيه حركة حماس.

ورفضت هيئة تنسيق أعمال الحكومة في المناطق، وهي الهيئة العسكرية الإسرائيلية المسؤولة عن التنسيق مع جماعات الإغاثة، التعليق، كما لم يستجب مكتب رئيس الوزراء الإسرائيلي لطلب التعليق من الصحيفة الأميركية.

"بقع لليأس والجوع"

وقالت "الأونروا" إنها أطلقت برنامج العودة إلى التعلم، الذي سيجلب حوالي 28 ألف طفل إلى عشرات المدارس، لافتة إلى أن ذلك البرنامج سيركز على "الدعم النفسي والفنون والرياضة ومخاطر الذخائر المتفجرة، ثم سيتعمق أكثر في مواد القراءة والكتابة والرياضيات".

وفي هذا الصدد، قال المفوض العام للأونروا، فيليب لازاريني، الأربعاء، على وسائل التواصل الاجتماعي: "الكثير من المدارس لم تعد مكانًا للتعلم. لقد أصبحت بقعا لليأس والجوع والمرض والموت".

وتابع: "كلما طالت فترة بقاء الأطفال خارج المدرسة.. كلما زاد خطر تحولهم إلى جيل ضائع. وهذه وصفة للاستياء والتطرف في المستقبل".

من جانبه، أوضح الباحث في مركز دراسات النزاع والعمل الإنساني بقطر، معين رباني، أن قطاع غزة "كان لديه معدلات تعليم عالية نسبيًا، على الرغم من نسب الفقر الكبيرة التي تسوده".

وأضاف رباني أن الفلسطينيين "سعوا منذ فترة طويلة إلى التعليم للتقدم وسط ظروف اقتصادية صعبة، حيث وقد وفرت لهم الأمم المتحدة ومنظمات غير حكومية مختلفة فرصًا تعليمية جيدة".

ولفت في حديثه للصحيفة الأميركية، إلى أن العديد من الفلسطينيين في غزة "اعتادوا على فقدان أراضيهم ومنازلهم وممتلكاتهم، وبالتالي اهتموا بالتعليم، لأنه أمر يمكنك أن تأخذه معك أينما ذهبت".

وهناك ثمن نفسي للابتعاد عن المدرسة على الأطفال أيضًا، إذ قالت ليزلي أركامبولت، المديرة الإدارية للسياسة الإنسانية في منظمة إنقاذ الطفولة الأميركية، إن قضاء عام بعيدًا عن المدرسة والأصدقاء والملاعب والمنازل خلال صراع مسلح عنيف، "يمثل إزالة للركائز الأساسية للاستقرار والسلامة للأطفال".

وشددت على أن "عدم اليقين والتوتر وفقدان المجتمع، يمكن أن يؤدي إلى تحفيز أنظمة الاستجابة الطبيعية للتوتر في الجسم، والتي يمكن أن تكون ضارة بمرور الوقت".

واستطردت حديثها بالتأكيد على أن "تكرار هذه الأعراض أو استمرارها لفترات طويلة، قد يؤدي إلى مجموعة من النتائج السلبية على الصحة العقلية، التي لا يتعافى منها الأطفال بسهولة".

وكانت منظمة الأمم المتحدة للطفولة (اليونيسيف)، قد كشفت في وقت سابق هذا الشهر، أن الأطفال في قطاع غزة "هم الفئة الأكثر تضررًا" مما يحدث هناك، وهم بحاجة ماسة لدعم نفسي وتعليمي بشكل عاجل.

وقال الناطق باسم المنظمة، كاظم أبو خلف، في تصريحات نقلتها وكالة الأنباء الفلسطينية (وفا)، إن الوضع الحالي في غزة "يتطلب استجابة عاجلة لمساعدة الأطفال الذين يعانون من فقدان التعليم والأضرار النفسية الجسيمة التي يتعرضون لها".

وشدد على أن "جميع الأطفال في القطاع يحتاجون إلى دعم نفسي، حيث فقد ما لا يقل عن 625 ألف طفل عامًا دراسيًا منذ بدء الحرب.. وبعض الأطفال تعرضوا لبتر أطرافهم وهم بحاجة إلى الخروج من القطاع لتلقي العلاج، فيما يعاني العديد من الأطفال من الخوف والقلق بسبب الحرب".