مشاركة من صديق (إرفع صوتك) أحمد أبو رتيمة:
الشاب اليمني الفتي عمر باطويل ذو الثمانية عشر ربيعاً أريد لشمسه أن تغرب باكراً وأريد لصوته الحر أن يسكت بعد أن أزعج أعداء الحب والحياة من الذين تشبعوا بالكراهية واستغرقتهم ظلمات الجهل والعماية.
عمر بعمره القصير جداً اختزل حكاية أمة تائهة تتخذ من متاحف التاريخ ومحنطات التراث محلاً لإقامتها، وتحاصر كل من يرفع صوته داعياً إلى نور العقل ومنافحاً عن دين تراكمت عليه الأغبرة وتوارت إشراقة مبادئه خلف متون الموروثات وأقوال الأحبار والرهبان، صوَّرته ديناً موحشاً ثأرياً انتقامياً وأجهضت حقيقته الجميلة الداعية إلى العدل والسلام والرحمة للعالمين.
(وكان مسلحون قد قتلوا عمر باطويل في مدينة عدن اليمنية يوم الإثنين، 25 نيسان/أبريل).
بأي ذنب قتل عمر؟
يزعم الحمقى أن عمر قد ألحد، وأن الله أعطاهم صلاحيات بالنيابة عنه بمقاضاة خلقه وتوزيع الحياة والموت بينهم، واستناداً لهذه الصلاحيات أصدروا حكمهم بمصادرة ربيع الفتى عمر بعد أن تجرأ على كسر احتكارهم الحديث باسم الله وأعلن ثورته على سلطة كهانتهم.
نعم لقد كفر عمر..!
كفر عمر بالحقد والكراهية والعنصرية التي تبث في نفوس البشر باسم الدين. كفر عمر بالخرافات التي أنهكت حياتنا ودمرت بلداننا. كفر عمر بتأجير العقول للكهان وبتقديم كلام الشيوخ على كتاب الله المحفوظ من التحريف والتزييف.
لم يكفر عمر بالله الذي يدعو الناس إلى السلام والرحمة والعدل والإحسان. إنما أعلنها ثورةً بقلمه فقال: سنكتب ولن نتوقف حتى يعيش الجميع بسلام وحب وحرية.
لهذا قتلوه إذاً. لأنه أراد السلام والحب والحرية للجميع وليس لطائفة أو ملة تظن أن الله لها وحدها. لقد آمن عمر بالله رب العالمين وليس رب قبيلة أو طائفة دون غيرهم.
قتلوه لأنه كتب: نحتاج إلى ثورة أخلاقية، تعيدنا إلى إنسانيتنا وتوقظنا من غيبوبتنا، نحتاج إلى ثورة أخلاقية قبل الثورة الفكرية.
قتلوه لأنه آمن بالسلام فكتب: كنت أنظر إلى الكوكب كحلبة مصارعة وكل البشر أعداء، وبعد أن قرأت في التصوف والروحانية صرت أنظر إليه كمنزل كبير وكل البشر سكانه وإن اختلفوا..
قتلوه لأنه كان جميلاً، حين أشهروا في وجهه سيف الإلحاد رد عليهم: يا هؤلاء إنني أرى الله في الزهور؛ وأنتم ترونه في القبور!
يا لجمال هذه الكلمات! ولأن الجمال يفضح القبح غيبوه سريعاً لعل تغييبه يواري سوآتهم ويخفي بشاعتهم.
قتلوه لأنه عرف الحب طريقاً إلى الله يوم أن ناجى خالقه: اسمح لي اليوم بالحديث عنك.. فأنت الذي لا أقسم إلا بك لم أكن أعرفك حق المعرفة.. كنت خائفاً منك.. فأولئك الذين ينتسبون إليك زوراً أرعبوني من قربك.. صحيح أنني كنت أصلّي لك.. لكن ليس حباً فيك، بل خوفاً منك!
سامحني.. لم أعرفك إلا منذ سنوات قليلة.. أحببتك جداً.. شعرتُ بالأنس بقربك.. كنتُ آمناً.. أحدثك عما يجري لي دون معرفة أحد..
أتذكر ذلك اليوم الذي أخبرتك فيه عن سري الصغير.. وبعد ذلك ضحكتُ طويلاً.. هههه هههه ما أجملها من لحظة..
لكن يا رب لماذا يريدون أن نحبك بالغصب والقهر!! وأن نجلد أنفسنا رغبةً بما عندك!
لماذا يا رب يفرحون حين نبكي ونشعر بالتأنيب والندم تجاهك!
يا رب أنا الآن وبفضلك وبفضل الحب الذي بيننا لم أعد أكثرت لما يقولون.. سأعبدك وأتقرب إليك كما تحب أنت وليس كما يحبون هم !
فهم يفرحون بالألم وأنت تريد لنا اليسر.. يا رب كلمات الشكر والحمد لك ستكون قاصرة أمام عظمتك وجلالتك..
سأحيا كريما بك.. ومستمتعاً بالجنة التي خلقتها لي في الدنيا.. فقد سخرّت الكون لي لأحيا كريماً.. شاكراً.. عارفاً..
يا رب سأحبك إلى الأبد وحتى بعد الممات فلم أعد خائفاً بل مشتاق إلى لقائك..
وإلى ذلك اليوم تقبل خالص محبتي ومودتي يا خالقي.."
أنقل كلماته كما دوّنها على صفحته. هكذا إذاً عرف عمر ربه، عرفه بالفطرة والحب والشوق. عرفه قريباً لا تحتاج مناجاته إلى وسائط وكهان. عرفه معرفةً رحمانيةً ودودةً. وما دامت هذه هي معرفة عمر بربه، فلا عجب أن يفيض قلمه بالرحمة والحب والخير للإنسانية. إذ إن مسار أحدنا في هذه الحياة يتوقف على صورة الإله في قلبه كما قال أحدهم إنّ الإيمان بإله قاس يخلق إنسانا قاسياً، وكذلك الإيمان بإله رحيم يخلق إنساناً رحيماً.
إن مصابنا في الفكر التكفيري المتطرف الذي تفشى في أوطاننا مرده بالأساس إلى صورة الإله في أدبيات الجماعات المتطرفة. فهو إله وحشي منتقم يتلذذ بتعذيب الناس ويفرح بالقتل وسفك الدماء وجلد الظهور وتقطيع الأيدي والأرجل. لقد تمددت هذه الصورة الموحشة القاتمة للإله فحجبت كل معاني الرحمة والإحسان والبر والقسط رغم حضورها الغزير في آيات القرآن.
إن قتل فتىً في باكورة عمره يبشر بالحب والسلام والتعايش بين الأنام ليس حدثاً هيناً. بل هو صدمة مروعة ينبغي أن تستفزنا لإبصار عمق المأزق الأخلاقي والفكري الذي نعاني منه. وإن من قتل عمر في حقيقة الأمر ليس من نفذوا الجريمة وحدهم، بل هي منظومة فكرية وثقافية وسياسية مدانة بأكملها. إن هؤلاء القتلة لم يقترفوا فعلتهم إلا بعد أن نهلوا من معين ثقافي يقدس أفكار العنف ويؤمن بقتل المخالف، ونشأوا في مجتمعات كفرت بالعقل والرحمة وآمنت بالتعصب والإلغاء سبيلاً وحيداً للعلاقات الإنسانية.
هل تستفزنا هذه الجريمة لندرك أنه لا بديل عن الحوار والتعايش وحرية التفكير. ولننثر بذور السلام أم أن مزيداً من الأثمان الباهظة تنتظرنا؟
عن الكاتب: أحمد أبو رتيمة، كاتب وصحافي فلسطيني من قطاع غزة. كتب عدداً من المقالات الفكرية والاجتماعية والسياسية المنشورة في الصحف والمواقع العربية. شارك في تأليف فصل في كتاب صادر عن الجامعة الأمريكية في القاهرة بمناسبة مرور 20 عاماً على توقيع اتفاقيات أوسلو. وشارك في إنتاج عدد من الأفلام الوثائقية التي بثت من على قناة الجزيرة.
لمتابعة الكاتب على فيسبوك إضغط هنا.
الآراء الواردة في هذا المقال تعبر عن رأي الكاتب ولا تعبر بالضرورة عن رأي موقع (إرفع صوتك) أو شبكة الشرق الأوسط للإرسال. ويتم نشرها إيماناً بحرية التعبير وضرورة فتح الباب أمام نقاش جاد للأسباب التي أدت إلى انتشار التطرف والإرهاب في المنطقة.