بقلم ألان سركيس:

يضرب الإرهاب البلدان العربية من المحيط إلى الخليج، وتخطى حدود الدول ليصل إلى أوروبا، وأصبح العالم في مواجهة مع هذه الظاهرة التي تفشّت، وباتت داعش الجسم الذي يُرعب الكرة الأرضية.

إذا نظرنا إلى عمق الأزمة، نرى أن تمدّد التنظيمات الإرهابية في الشرق عرف مجده وانتشاره بعد اندلاع الأزمة السورية في 15 آذار/مارس 2011، من ثمّ بعد اقتطاع داعش مساحات شاسعة من الأراضي العراقية بدءاً من حزيران 2014، قدّرت بنحو 100 ألف كيلومتر، ليعرف العالم بعدها إعلان زعيم داعش أبو بكر البغدادي ولادة دولة "الخلافة الإسلامية".

لا ينكر أحد مدى قوّة التنظيمات الإرهابية، واحتلالها مساحات كبيرة في سورية والعراق واليمن وليبيا، وتهديدها دولاً أخرى، لكن السؤال الذي يطرح نفسه لماذا بقي لبنان بمنأى عن الاجتياحات الداعشية؟

تداخلت عوامل عدّة لتجنّب لبنان هذه الكأس التكفيريّة، فالناظر إلى المشهد اللبناني عن بعد، يرى أنّ الدولة اللبنانية ضعيفة ومنقسمة على ذاتها، والسلطة السياسية غير قادرة على اتخاذ القرارات، والجيش اللبناني غير مجهّز لخوض الحروب الطويلة والصعبة، كذلك فإنّ وجود الميليشيات اللبنانية وغير اللبنانية لا تسمح للبنان بالمواجهة، إضافة إلى الخلافات السياسية والمذهبية التي تعصف بالساحة اللبنانية.

واجه لبنان الإرهاب في 2 آب عام 2014 في بلدة عرسال الحدودية قرب السلسلة الشرقية المحاذية لسوريا، واستطاع هزيمة التنظيمات الإرهابية، وسقط له في المعركة عدد كبير من الجنود، ووقع قسم كبير منهم في الأسر بيد "جبهة النصرة" وتنظيم داعش، وخاض الجيش معارك متنقلة مع تنظيمات إرهابية في مدينة طرابلس (شمال لبنان)، وصيدا (جنوب لبنان) واستطاع هزيمة التنظيمات الإرهابية. من ثم أكمل حملته بالقضاء على الشبكات وتوقيفها.

وتعود أسباب نجاح لبنان في حربه على الإرهاب إلى عدة أسباب من أبرزها:

أولاً: عدم وجود بيئة حاضنة للإرهاب وللفكر التكفيري وخصوصاً داخل البيئة السنية، إذ يتميّز لبنان بتنوعه الطائفي والمذهبي، ولا يستطيع اي مكوّن من الاتجاه نحو التطرّف. فالذي حارب التنظيمات السنيّة المتطرفة فكرياً وسياسياً وأعطى غطاءً للجيش اللبناني هو تيار "المستقبل" السني برئاسة رئيس الحكومة الأسبق سعد الحريري، بعدما سعت هذه التنظيمات للتوسّع في المناطق السنية ولبنان وبناء إمارات تلاقي توسّعها في سوريا والعراق والمنطقة.

ثانياً: وجود إجماع لبناني من كل المكونات على رفض الإرهاب ومكافحته لأن تمدّده وانتشاره سيؤدي إلى حرب أهلية نظراً للميول السياسية لكل مكوّن.

ثالثاً: وعي اللبنانيين الذين جرّبوا الحرب الأهلية (1975-1990) على عدم العودة إلى لغة السلاح وإدخال البلاد في حرب جديدة، لا يعرف احد كيف تنتهي.

رابعاً: احتضان الجيش اللبناني من قبل الجميع، والتركيز على دوره في محاربة الإرهاب وإعطائه الضوء الأخضر من قبل السلطة السياسية والحكومة لتوجيه الضربات لهذه التنظيمات أينما وجدت وفي أي منطقة كانت.

خامساً: الحرب الاستباقية التي شنتها الأجهزة الأمنية اللبنانية على الشبكات الإرهابية السرية، وتوقيفها معظم الشبكات بعد رصده الدقيق، وتجنيد الأجهزة الاستخباراتية نشاطها وعملها على محاربة الإرهاب، مما شلّ قدرة هذه الشبكات على التحرّك.

سادساً: التسليح الدولي للجيش اللبناني، ففي السابق كان هناك قرار بعدم إعطاء الجيش اللبناني السلاح النوعي، أما الآن فنرى أن الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا ومعظم الدول الكبرى، تمنح الجيش اللبناني السلاح ليتصدّى للإرهابيين على حدود السلسلة الشرقية الفاصلة مع سوريا وفي الداخل.

سابعاً: الغطاء الدولي الذي يظلل لبنان، حيث يؤكد معظم المسؤولين الغربيين على تحييد لبنان عن صراعات المنطقة، وعدم السماح للتنظيمات الإرهابية بالاقتراب منه.

تعتبر هذه العوامل من أبرز الأمور التي ساعدت لبنان على الصمود في وجه الهجمة الإرهابية، مع العلم أنه دفع ثمناً كبيراً في مواجهاته السابقة، حيث سقط له عدد كبير من الضحايا، إضافة إلى أن هناك تسعة جنود ما زالوا مختطفين لدى تنظيم داعش في جرود عرسال.

ومع أن الأجواء ما تزال هادئة في لبنان، إلاّ ان تطورات الأوضاع في المنطقة، والأزمة السياسية التي تضرب البلاد وغياب رئيس الجمهورية، تُبقي الأوضاع قلقة ومهدّدة بالانفجار في أي وقت كان.

عن الكاتب: ألان سركيس، صحافي لبناني، خريج كلية العلوم السياسية والإدارية، عمل في صحف لبنانية عدّة، ويتابع مواضيع لبنانية وإقليمية. 

لمتابعة سركيس على تويتر إضغط هنا. وعلى فيسبوك إضغط هنا

الآراء الواردة في هذا المقال تعبر عن رأي الكاتب ولا تعبر بالضرورة عن رأي موقع (إرفع صوتك) أو شبكة الشرق الأوسط للإرسال، ويتم نشرها إيماناً بحرية التعبير وضرورة فتح الباب أمام نقاش جاد للأسباب التي أدت إلى انتشار التطرف والإرهاب في المنطقة.

المزيد من المقالات

مواضيع ذات صلة:

Palestinians gather to receive food cooked by a charity kitchen, in Khan Younis
حذر تقرير جديد نشرته الأمم المتحدة، الخميس، من تفاقم أزمة الجوع العالمية- تعبيرية

حذر تقرير جديد نشرته الأمم المتحدة، الخميس، من تفاقم أزمة الجوع العالمية، حيث يعاني ملايين الأشخاص حول العالم من انعدام الأمن الغذائي الحاد. وأشار التقرير إلى أن الصراعات، والتغيرات المناخية، قد أدت إلى زيادة حادة في أعداد الجوعى، خاصة في مناطق مثل السودان وقطاع غزة.

وعقب نشر التقرير، تحدث ثلاثة مسؤولين أمميين، عبر الفيديو، إلى صحفيين في نيويورك، حيث قدموا إحاطة عن التحديث نصف السنوي للتقرير العالمي عن الأزمات الغذائية لعام 2024 والذي يغطي الفترة حتى نهاية أغسطس 2024.

وأكد المسؤولون الأمميون الحاجة الماسة إلى زيادة التمويل الإنساني والعمل على معالجة الأسباب الجذرية للأزمات الغذائية، مثل الصراعات والتغيرات المناخية، وذلك لمنع تفاقم الوضع وتجنب حدوث مجاعات أوسع نطاقا.

وفي بداية الإحاطة قدم، ماكسيمو توريرو، كبير الخبراء الاقتصاديين في منظمة الأغذية والزراعة (الفاو) لمحة عامة عن النتائج الرئيسية للتقرير.

ويُظهر التقرير أن عدد الأشخاص الذين يواجهون مستوى كارثيا من انعدام الأمن الغذائي تضاعف من 705 آلاف شخص في 5 دول وأقاليم في عام 2023 إلى 1.9 مليون في 4 دول أو أقاليم في عام 2024. وهذا هو أعلى رقم يسجله التقرير العالمي عن الأزمات الغذائية، ويعود ذلك في الغالب إلى الصراع في قطاع غزة والسودان، وفقا لتوريرو.

ويشار إلى أن التصنيف المتكامل للأمن الغذائي يتكون من خمس مراحل، ومستوى "الأزمة" أو انعدام الأمن الغذائي الحاد هو المرحلة الثالثة من التصنيف. المرحلة الرابعة هي الطوارئ، أما المرحلة الخامسة فهي الكارثة أو المجاعة.

وقال توريرو إن اشتداد وتيرة الصراعات في غزة والسودان وأيضا الجفاف الناجم عن ظاهرة النينيو وارتفاع أسعار المواد الغذائية المحلية يزيد من عدد الأشخاص الذين يواجهون مستويات عالية من انعدام الأمن الغذائي الحاد في 18 دولة مقارنة بعام 2023.

مجاعة مستمرة في مخيم زمزم

في السودان، قال توريرو إن المجاعة مستمرة في مخيم زمزم للنازحين بالقرب من مدينة الفاشر في ولاية شمال دارفور، ومن المتوقع أن تستمر حتى أكتوبر المقبل. ونبه إلى أن العديد من المناطق الأخرى في جميع أنحاء السودان معرضة أيضا لخطر المجاعة بسبب استمرار العنف ومحدودية المساعدات الإنسانية.

وأضاف المسؤول الأممي أن الصراع يستمر في التسبب بتدهور سريع للأمن الغذائي في السودان، حيث تشير التقديرات إلى أن حوالي 26% من الأشخاص سيواجهون مستويات عالية من انعدام الأمن الغذائي الحاد. وتم تصنيف حوالي 25.6 مليون شخص على أنهم يعانون من مستوى أزمة أو أسوأ.

وألقى الصراع في السودان بظلاله على الأمن الغذائي في البلدان المجاورة مثل تشاد وجنوب السودان، وفقا لتوريرو.

أزمة الغذاء في غزة الأكثر شدة في التاريخ

أما بشأن الوضع في غزة، يقول توريرو إن أزمة الغذاء لا تزال الأكثر حدة في تاريخ التقرير العالمي عن الأزمات الغذائية، مع وجود ما يقرب من 2.2 مليون شخص من السكان ما زالوا في حاجة ماسة إلى الغذاء والمساعدة.

وقد اشتدت حدة الأزمة، حيث عانى نصف السكان من المجاعة خلال الفترة بين مارس وأبريل، ارتفاعا من ربع السكان خلال الفترة من ديسمبر 2023 إلى فبراير 2024.

وتشير التوقعات إلى انخفاض هذه النسبة إلى 22% من السكان - أي حوالي 495 ألف شخص، خلال الفترة بين يونيو وسبتمبر 2024، ولا تشير الأدلة المتاحة إلى المجاعة على الرغم من أن خطرها لا يزال قائما.

جانب إيجابي

على الصعيد الإيجابي، قال توريرو إن تحسن موسم الحصاد والاستقرار الاقتصادي أديا إلى تحسن في الأمن الغذائي في 16 دولة.

ومن بين هذه الدول الـ 16 شهدت 5 دول - هي أفغانستان وكينيا والكونغو الديمقراطية وغواتيمالا ولبنان - انخفاضا في عدد الأشخاص الذين يواجهون مستويات عالية من انعدام الأمن الغذائي الحاد بمقدار مليون شخص على الأقل، منذ بلوغ الذروة في عام 2023، لكن جميع هذه الدول لا تزال في وضع الأزمة.

ما المطلوب؟

فيما يتعلق بالإجراءات المطلوبة لتحسين وضع الأمني الغذائي، تطرق، عارف حسين، كبير الاقتصاديين في برنامج الأغذية العالمي، إلى أمرين قال إنهما مطلوبان بشدة وهما الوصول إلى الأشخاص المحتاجين والتمويل المستدام.

وأضاف: "لا يكفي أن يكون لديك واحد من هذين الأمرين. أي إذا توفر الوصول وحده فهذا لا يكفي، وإذا توفر المال وحده فهو لا يكفي أيضا. أنت بحاجة إلى الاثنين معا (...) ولذلك نسعى إلى التأكد من وجود وصول وتمويل مستدامين حتى نتمكن من مساعدة الأشخاص المحتاجين سواء في غزة أو في السودان أو في أي مكان آخر".

وتحدث حسين عن مشكلة أخرى وهي "الإجهاد في مجال التمويل"- في إشارة إلى الإجهاد الذي أصاب الجهات المانحة. وشدد في هذا السياق على ضرورة معالجة الأسباب الجذرية لانعدام الأمن الغذائي سواء تعلق ذلك بالمناخ أو بالصراع، "لأنه ما لم نعالج الأسباب الجذرية، فلا ينبغي لنا أن نتوقع انخفاضا في الاحتياجات".

الهزال يفتك بالأطفال في مناطق الأزمات

الدكتور فيكتور أغوايو، مدير التغذية ونمو الطفل في منظمة اليونيسف تحدث في إحاطته عن الهزال بوصفه الشكل الأكثر تهديدا للحياة من أشكال سوء التغذية لدى الأطفال. وقال إن الهزال يظل مرتفعا جدا بين الأطفال الذين يعيشون في بلدان تعاني من أزمات غذائية.

ويعود ذلك، وفقا للمسؤول الأممي، إلى عدم قدرة الأسر على الوصول إلى الأطعمة المغذية لأطفالها أو تحمل تكلفة تلك الأطعمة، فضلا عن عدم القدرة على الوصول إلى خدمات الصحة والتغذية والمياه والصرف الصحي.

وقال أغوايو إن التقرير العالمي يسلط الضوء على زيادة مقلقة في هزال الأطفال، مع مستويات حرجة في 8 دول هي الكاميرون وتشاد وجيبوتي وهايتي والسودان وسوريا وأوغندا واليمن.

أكثر من 50 ألف طفل في غزة يعانون من سوء التغذية الحاد

وقال مدير التغذية ونمو الطفل في اليونيسف إنه زار غزة الأسبوع الماضي ورأى بنفسه كيف انعكست شهور من الحرب والقيود الشديدة المفروضة على الاستجابة الإنسانية، وأدت إلى انهيار أنظمة الغذاء والصحة والحماية، مع عواقب كارثية على تغذية الأطفال.

ووصف النظام الغذائي للأطفال الصغار بأنه "رديء للغاية"، حيث لا يتناول أكثر من 90 في المئة منهم سوى نوعين من الطعام، يوميا، في أفضل الأحوال، وأضاف: "ونحن نقدر أن أكثر من 50 ألف طفل يعانون من سوء التغذية الحاد ويحتاجون إلى علاج منقذ للحياة الآن".

ومضى قائلا: "التقيت أثناء وجودي في غزة بأطباء وممرضات وعاملين في مجال التغذية ينفذون البرامج التي ندعمها... واستمعت إلى نضالات الأمهات والآباء في سبيل إطعام أطفالهم. وما من شك لدي في أن خطر المجاعة وأزمة التغذية الشديدة واسعة النطاق في غزة حقيقي".

حاجة إلى وقف فوري لإطلاق النار

أغوايو قال إن هناك سبيلا واحدا لمنع ذلك الخطر وأضاف: "نحن بحاجة إلى وقف إطلاق النار، على الفور، ومع وقف إطلاق النار، يجب توفير وصول إنساني مستدام وواسع النطاق إلى قطاع غزة بأكمله. وقف إطلاق النار والاستجابة الإنسانية غير المقيدة وحدهما الكفيلان بتمكين الأسر من الوصول إلى الغذاء، بما في ذلك التغذية المتخصصة للأطفال الصغار، والمكملات الغذائية للنساء الحوامل، وخدمات الصحة والمياه والصرف الصحي لجميع السكان".

في السودان، يتأثر أكثر من 25 مليون شخص بانعدام الأمن الغذائي - بمن فيهم ما يقرب من 3.7 مليون طفل يعانون من سوء التغذية الحاد. وتستمر هذه الأرقام في الارتفاع بسبب النزوح الجماعي، والوصول الإنساني المحدود، وتعطل خدمات الصحة والتغذية، وفقا لأغوايو.

ودعا المسؤول في منظمة اليونيسف إلى استجابة إنسانية غير مقيدة وواسعة النطاق للوقاية المبكرة والكشف عن وعلاج سوء التغذية الحاد بين الأطفال الأكثر ضعفا، وخاصة لمن تقل أعمارهم عن 5 سنوات، وأمهاتهم، والذين تتعرض حياتهم للخطر بسبب هذه الأزمات المتصاعدة المتعددة.