بقلم علي عبد الأمير:
حتى نهاية ثمانينيات القرن الماضي، كان العراق يفخر بوجود نخبة مثقفة تمتد من خيرة المهندسين والأطباء والأكاديميين ولا تنتهي بمنتجي الآداب والفنون والإعلام، غير أن فخراً كهذا ما لبث أن انفرط على مراحل كانت توجز أوضاع البلاد. فالحروب (مع إيران 1980-1988) و(غزو الكويت 1990 ثم حرب تحريرها، وما تلاهما من ضرب النظام السابق للشمال والجنوب 1991)، ومن ثم بدء تأثير العقوبات الدولية القاسية، جعلت استحقاقات الدولة المسيطرة كلياً على حركة المجتمع متجهة إلى التعبئة العسكرية، وضم كل قطاعات الإنتاج البشري إلى الآلة الحربية. ومن هنا جاءت إشارة الرئيس العراقي السابق صدام حسين في العام 1990 "لا نحتاج هذا العدد من الأكاديميين في الزراعة وعليهم التوجه إلى منشآت التصنيع العسكري أو الاستقالة".
صحيح أن الدولة العراقية رعت ابتداء من منتصف سبعينيات القرن الماضي بعثات دراسية متقدمة أرسلت بموجبها آلافاً للتخصص في العلوم، لكن ذلك كان يتم وفق حسابات سياسية، فالمبعوثون هم من "المؤكد ولاءهم للسلطة".
موضوعات متعلقة:
مراقبون: “السعودية 2030” مشروع للمستقبل يهدده عدم استقرار المنطقة
الطريق إلى الشمس… عبر الأردن والمغرب
وفي حين كانت تسيطر الدولة على اقتصاد البلاد بشكل كلي، وتشغّل ملايين العاملين من متحصلي الشهادات الجامعية الأولية والكوادر الوسطى (مساعدي مهندسين ومساعدي أطباء ومساعدي مهندسين زراعيين وموظفين في مكاتب ومؤسسات)، موفرة لهم مرتبات تجعل ديمومتهم كـ" طبقة متوسطة" أمراً ممكناً، فإنها تخلت عن ذلك بعد فرض العقوبات الدولية على العراق، فأصبح من يمثلون "الطبقة المتوسطة" أمام تحديات مثل: إما البحث عن "عمل حر" والتخلي عن الدور التنويري والمعرفي والعلمي والتربوي، أو الهجرة إلى خارج البلاد.
ماذا تبقى من الطبقة المتوسطة في العراق؟
الثقل الأكبر في مسؤولية إعادة إحياء "الطبقة المتوسطة" في العراق والتي كان لها الدور البارز في بناء العراق المعاصر (1920-1958)، سيكون في من تبقى من علماء ومهندسين وأطباء وأكاديميين وبرجوازيين صغار، غير أن هؤلاء وبعد أن أصبحوا هدفاً لعمليات اختطاف تنتهي بإطلاقهم مقابل أموال طائلة (100- 250 ألف دولار)، أو اغتيال لأسباب من بينها اختلافات طائفية وعداوات شخصية، انضموا إلى "عراقيي الخارج". وسجلت الأرقام التقديرية سفر نحو 200 ألف من مكوني "الطبقة المتوسطة" إلى خارج البلاد بعد سقوط نظام الرئيس صدام حسين. إن العراق الراهن يشهد نمواً مستمراً في فئة البرجوازية الطفيلية الموزعة، بحسب الخبير والباحث في الاقتصاد السياسي الدكتور كاظم حبيب، وهو نمو في مجالات عدة غير إنتاجية، كقطاعات السمسرة العقارية والتجارة والمضاربات المالية.
وصار جزء من ممثلي هذه الفئة يحتل مراكز مهمة في السلطات الثلاث التشريعية والتنفيذية والقضائية، وجزء آخر يعمل في المقاولات والعقار، وجزء ثالث يشرف على العقود النفطية والسلاح وعلى اقتصاد النفط الخام، وجزء رابع يشتغل في التجارة الخارجية، وجزء خامس يلتقي مباشرة بالشركات التجارية الأجنبية والتي تعمل لصالحها، وجزء سادس يمارس نشاطه المالي في المضاربات المالية وسوق الأوراق النقدية.
ويرى حبيب أن "هذه الأجزاء أو المراتب من الفئات الطفيلية لا تعتمد في أسلوب حياتها ومعيشتها على رواتبها الحكومية العالية وامتيازاتها الكثيرة حسب، بل وعلى السحت الحرام وأساليب نشاط غير مشروعة تستنزف أموال الدولة من الباطن أيضاً".
وتأسيساً على نفوذ هذه "الفئات الطفيلية"، فإن الواقع القائم بالعراق واتجاهات تطوره الراهنة يدفعان بهذه الفئة الاجتماعية خارج إطار الطبقة الوسطى ويصنفانها في خانة الفئة الحاكمة الرثة المستغِلة للشعب وموارده المالية على طريقة القطط السمان.
ويرى الباحث العراقي ابراهيم الحريري أن "نهوض الطبقة الوسطى من جديد مشروط في الحقيقة باستعادة الدولة لهيبتها وعودة الأمن والاستقرار إلى البلاد"، غير أن هذا الشرط الأساسي، يبدو غير فاعل بل حظوظه أشبه بالمستحيلة، مع كون الدولة هي القوة الأضعف في العراق حيال قوى صاعدة تعتبر نفسها فوق القانون مثل رجال الدين وشيوخ العشائر، فضلاً عن مجموعات مسلحة خارج أي التزام قانوني أو دستوري، وهي بذلك تلجم فرص ظهور الطبقة المتوسطة التي تنتعش في ظروف الاستقرار السياسي والأمني.
*الصورة: منطقة الشورجة في بغداد حيث تنشط تبادلات تجارية مختلفة/وكالة الصحافة الفرنسية
يمكنكم التواصل معنا وإرسال الفيديوهات والصور لموقعنا عبر تطبيق “واتساب” على الرقم 0012022773659