حسب نظرية التواصل البشري التي تلخص أعمال الفيلسوف والمعالج النفسي النمساوي بول واتزلاويك، "لا بد للإنسان من التواصل مع الآخرين لكي يتمكن من إدراك ماهية ذاته". فكيف التواصل مع مجتمع تسود فيه التناقضات في الظاهر والباطن؟ رحلة إلى مجتمع الميم تظهر حجم الارتباك والصعوبات التي الذي يعانيها أولئك الراغبون بالعبور من الدور الاجتماعي على أساس الجنس البيولوجي إلى الهوية الجندرية، في المحيط العربي وحتى خارجه.
بالنسبة لصانع الأفلام والكاتب العراقي الذي يعرف عن نفسه كـ"دراغ كوين"، عمرو القاضي، يعيش أفراد مجتمع الميم في رحلة بحثهم وإثباتهم للهوية المرجوة الكثير من الصعاب. وهذا ما يمكن لمسه في سيرته الذاتية التي تحمل عنوان "الحياة كوحيد قرن: رحلة من العار إلى الكبرياء وكل شيء بينهما"، حيث يقول: "لطالما سعيت حد اليأس لأظهر نفسي بجموحها، ولكني أردت أيضًا وبكل جوارحي أن أحظى بالقبول في الأماكن التي لا تشبهني".
خطاب مناهض قائم على "الأخلاق"
يواجه أفراد مجتمع الميم في المحيط العربي انتهاكات قد تصل حد الاعتقال التعسفي والعنف الجنسي، حسب ما يؤكد تقرير حديث لمنظمة "هيومن رايتس ووتش". ويوثق التقرير، الذي شاركت به منظمة "عراق كوير" العراقية لحقوق مجتمع الميم، حالات اغتصاب جماعي وتهديد بالقتل واستهداف سيبراني من ضمن تهديدات أخرى طالت أفرادا من المثليين جنسيا، مع الإشارة إلى أن الترهيب "يحدث غالبا في وضح النهار في الشوارع". ويضاف إلى ذلك الخطاب المناهض لمجتمع "الكوير من خلال السياسات القائمة على الأخلاق''
تعليقا على هذا الواقع، يشير فادي أبي علام، مدير حركة "السلام الدائم" وهو مستشار في الأمن الإنساني ووسيط في حل النزاعات، إلى "ضرورة الإحاطة بهذا الموضوع من كل زواياه. وهذا يشمل إلى جانب الزاوية الحقوقية، الزاويتين الدينية والثقافية بما فيها الموروثات. وهذا يعني أنه لا يمكن إنكار الواقع المجتمعي، بل لا بد من الاعتراف بأن المجتمع لا يتقبل الكثير من الأشياء بسهولة. وهذا لا يقتصر على مجتمع الميم وإنما على العنف البنيوي أيضا والمتأصل في اللاوعي الذي يجبر المرأة مثلا على الاستمرار بالمطالبة بالكوتا. ويرتبط تقبل الأفراد من مجتمع الميم بالطبع بعوامل عدة، كما يخضع لأفكار مسبقة. والأمر منوط بحرية كل شخص. ومع ذلك، لا يمكن المساومة من الناحية الحقوقية على حق كل إنسان بأن يتبنى الهوية التي يريد، علما بأنه لا ينبغي خلط احترام حرية الإنسان مع التشجيع على المثلية مثلا".
ويضيف أبي علام: "من الزاوية الحقوقية أيضا، لا بد من الحرص على تكافؤ القوانين مع مقاربة حقوق الإنسان. ويوجد في البلدان العربية وضمنا لبنان تعارض من حيث الخلط بين احترام القانون للحرية الشخصية في سياقات وتجريمها في سياق أخرى. وفي ذلك اعتداء على حقوق الإنسان وتخطي للشرعات والمعاهدات الدولية لحقوق الإنسان. وبغض النظر عن تقبل الأفراد من مجتمع الميم أو لا، يجب أن نقف قبل كل شيء مع حقوق الإنسان".
ويتقاطع كلام أبي علام مع تقرير آخر لـ "هيومن رايتس ووتس"، يسلط الضوء على معاناة العابرين/ات جندريا والواقع القاتم الذي يواجونه في معظم أنحاء منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وتحديدا لناحية "العقبات الهائلة أمام الاعتراف القانوني بهويتهم/ن". ويعرضهم هذا الواقع وفقا للتقرير "لانتهاكات من قبل قوات الأمن كالاعتقالات التعسفية (...) كما تقيد السلطات الطبية والقضائية في هذه البلدان بشكل جائر الحصول على الاعتراف القانوني بالجندر بناءً على وجهات نظر مضللة ترى أن هويات العابرين/ت جندريا أساسها مَرَضيّ".
إيقاعات علاجية
إزاء هذا الواقع، يلجأ أفراد مجتمع الميم إلى مقاربات مختلفة للتأقلم، من العيش "للحظات عابرة" في الهوية المرجوة إلى التحول الظاهري الكامل.
رينيه، سورية عابرة جندريا، صنفت كذكر عند الولادة بناء على هويتها البيولوجية، لجأت إلى "مقاربة شرقية أصيلة لعلاج رفض المجتمع للهوية المرتجاة: المسرح والرقص".. تركت رينيه بلادها هربا من مجتمع لا يزال يعاني من الرهاب أو الهوموفوبيا (بمسمياتها المختلفة) على الرغم من الدعم الذي حظيت به من أسرتها. شعرت منذ الخامسة من عمرها "بإنذارات من جسدها السجين في هوية لا تشبهه". تقول: "لم أشعر يوما بالرغبة بأن ألعب كالصبيان من أبناء جيلي، ومع تقدمي في السن، لم يغطي الشعر جسدي وما اخشوشن صوتي، بل لمحت حتى بعض التثدي".
انتظرت رينيه لتصبح في سن تسمح لها بالرحيل والتجأت إلى لبنان تمهيدا للهجرة إلى السويد بصفتها "لاجئة ترانس"، لكن المحطة اللبنانية لم تخل من الصعاب. "في سوريا، تضيف بنبرة من تخطى المعاناة، قد تكلفني زيارة السوبر ماركت أحيانا وابلا من الشتائم والعنف. قد أخرج لأشتري بعض الخضار على سبيل المثال ولا أعود إلا وقد نلت حصة مهينة من الاتهامات بـ"اللواط" وكأنها جريمة، ومن الرجم بالحجارة".
إزاء هذا الواقع، التجأت رينيه لما تسميه "المحاربة الثقافية" التي تسمح بالانقطاع عن الواقع و"تحقيق حلم الهوية للحظات بلا إسقاطات وعلى إيقاعات شرقية وغربية، لأن العبور النفسي أهم بأشواط من العبور الجسدي". تشدد: "سأستمر بالحرب الشرسية فكريا وسأرقص وسأعتلي خشبة المسرح. هناك أجد نفسي بلباس سندريلا وبياض الثلج وهناك أجدني بعيدا عن الأسئلة النمطية من نوع أأنت شاب أم فتاة؟".
وبعيدا عن المسرح، تحاول كمثيلاتها الاندماج ظاهريا قدر الإمكان حفاظا على أمنها الشخصي، ولذلك تلتجئ للباس لا يستفز أحدا. تستطرد: "إذا أردت أن أذهب إلى منطقة محافظة أحاول أن أتستر قدر الإمكان. وإذا ذهبت للبحر، أرتدي اللباس المرفق بالتنورة عند المنطقة السفلى لتغطية ظلال العضو الذكري وتجنب التنمر وبهذا أضمن نوعا من الاندماج".
يتحقق هذا الاندماج بدرجات متفاوتة، حسب الحاجة ومتطلبات كل فرد. على سبيل المثال، قد يكتمل العبور بتغيير هوية الصوت. في هذا السياق، تشرح الأخصائية ومعالجة النطق، بتول جابر أن "لكل إنسان هويته ولا شك بأنه من جملة المشاكل التي تواجه مجتمع الميم، هناك الإسقاطات المجتمعية التي يحفزها اختلاف الصوت. لذلك، يلجأ العابرون جندريا لتغيير الصوت خصوصا في حال التأنيث، من أجل طمس معالم الاختلافات في طريقة الكلام بين الذكر والأنثى. ويتدرب هؤلاء مع المعالج على أنماط الصوت ليتمكنوا أخيرا من التعبير عن رأيهم بالصوت الذي يناسب الهوية المرجوة.. وفي حالة الدراغ كوينز، يتمحور العمل حول طبقات الصوت وشكل الفم واللسان والمدى الصوتي الذي يتلاءم مع المسرح. والأمر سيان بالنسبة للترانس أو العابرين جندريا وهذا يشمل حتى اختيار المفردات التي تعتبر من ضمن السمات المحددة للجندر عند التعبير".
من جملة العوائق، يختبر أفراد مجتمع الميم مشكلة من نوع آخر تتصل بالتنميط الذي يصمهم تلقائيا بالعاملين في تجارة الجنس. وتعزو رينيه أسبابها لعدم تكافؤ الفرص وصعوبة الاستفادة من الفرص التعليمية المتاحة. ومن هذا المنطلق نشأت جمعيات مثل "قادرة"، التي تهدف لمساعدة العابرات جندريا على الحصول على الاكتفاء الذاتي. تشرح مؤسسة الجمعية: "نوجه العابرات جندريا نحو مهن مثل التجميل أو الفن أو الصوف والحياكة لإبعادهن عن العوز الذي قد يدفع بهن للمتاجرة بالجسد وتمنحهن الحماية التي لا تتوفر بسبب انخفاض المستوى الأكاديمي. ومع ذلك لا تحظى الترانس بدعم الجمعيات النسائية التي قد لا تصنفها ضمن جمهورها المستهدف. وهذا عائق جديد أيضا".
"الغرب ليس الحلم"
ما الحل بالنسبة لهؤلاء؟ في الأفق، يلمع الغرب كأرض الأحلام لكن الواقع مختلف تماما. تتعدد قصص أفراد مجتمع الميم حول الاصطدام بعوائق جديدة في الغرب تماما كقصة عمرو القاضي. فبينما يواجهون في العالم العربي معضلة الاندماج في المجتمع أقله من الناحية الشكلية، يقفون أمام مشكلة الفروقات الثقافية بالإضافة إلى التعصب الجندري في عالم الشتات. واليوم في ظل التغييرات العالمية والأزمة الأوكرانية، لم تعد طلبات الهجرة المقدمة من هذه الفئة هي الأولوية. يأسف سامي المتحول جندريا لأن "معاناة العرب مزدوجة والانتظار للظفر بالفيزا مثقل بالهموم، فمن ناحية هناك الخوف من البدء من الصفر ومن ناحية أخرى هناك الخوف من العنصرية".
وتؤكد رينيه على اختبارها المعاناة نفسها خلال طلبها المساعدة "حيث قد تركز الجهات التي يفترض أن تساعد الأقليات على جذور الشخص أكثر من أحلامه. أصبت بالصدمة بعد مقابلة لم يسألني أحد خلالها عن حالي بل عن عمي وابنه المجندين في الجيش السوري النظامي. ما شأني بهما؟ أما إن كانت الجروح الجسدية شرطا للحصول على اللجوء، فإن في داخلنا جرحا نفسيا كبيرا يحرمنا من العيش بحرية".
رينيه تجزم بأن "أوروبا ليست الحلم كما يخيل للهاربين من واقعهم العربي"، ويتقاطع حكمها هذا مع شهادة القاضي الذي لم يجد في عالم الأداء والاستعراض ما يشبه هويته كما يراها، وإنما أنماطا تترجم إسقاطات الغرب على العرب وتؤطر ذوي الجذور الشرقية ضمن أدوار "الإرهابي والمشتبه به ذو اللحية الكثيفة والعربي الذي يصرخ وهو يحمل سلاحا في يده".