في مقابلة أجريت أواخر التسعينيات، طُلب من الكاتب اللبناني المولد أمين معلوف، الذي يعيش في فرنسا منذ عام 1976، التعليق على المنفى، فأجاب، من بين أمور أخرى ، أنه لا يعتبر نفسه لاجئا، بل هو شخص غادر وطنه ليكتشف غيره.
"أنا لا أحب حقا مفهوم المنفى، لأنه يفترض مسبقا أنك ملزم بالانتماء إلى بلد واحد وأنك بلا جذور لا محالة في مكان آخر. لا، للإنسان جذور في السماء".
لذلك أصبح تصور الدولة الخيالية، التي يحكمها المثقفون، وتحاول "إصلاح العالم"، أقرب إلى التحقق قبل أي وقت مضى، مع ظهور مفهوم المدن الحرة التي توفر ملاذات آمنة للكتاب والمثقفين، والصحافيين و المترجمين و المشتغلين الثقافيين من الشرق الأوسط، حيث الحياة في المنفى في المدن التي تؤسس هذه الدولة، للمفارقة، شرطًا أساسيًا للخلق و الإبداع، في ضوء تراجع حرية الرأي والتعبير في بلدانهم الأم، أو في البلدان الوسيطة في بعض الأحيان.
في العالم اليوم أكثر من 70 مدينة حول العالم، 25 منها في السويد. وتستقبل بشكل سنوي الصحافيين والمترجمين والموسيقيين والفنانين التشكيليين، وفناني المسرح والمدونين والأكاديميين والمصورين والمخرجين وغيرهم، الذين يتعرضون للرقابة و/أو الاضطهاد.
التقى "ارفع صوتك"، مع ثلاثة كتّاب من الشرق الأوسط أقاموا في ثلاث مدن مختلفة، تتبنى فكرة الحرية والثقافة كقوة دافعة في مجتمع متعدد الثقافات، حيث يمكن تلوين الثقافات والتعبيرات الفنية ببعضها البعض.
حريّة ولكن..
استقبلت بلدية أوسترشوند شمال-غرب السويد في خريف 2020 دارين طاطور، وهي شاعرة وكاتبة مسرحية ومصورة وناشطة فلسطينية من مدينة الرينه العربية الواقعة بين الناصرة وقانا في الجليل.
من خلال كتاباتها، تعطي طاطور صوتا لأقلية في منطقة متضررة من النزاع الإسرائيلي الفلسطيني، ومعارضة احتلال فلسطين حاضرة في كل ما تكتبه وهو أمر كان عليها أن تدفع ثمناً باهظاً من أجله.
وسُجنت طاطور في إسرائيل عام 2015، وبعد خمسة أشهر في السجن، تبعتها الإقامة الجبرية لمدة ثلاث سنوات، ونددت منظمة القلم الدولية بشدة بالحكم وقالت إن الاتهامات وجهت إليها لأنها مارست، بشعرها ونشاطها، حقها في حرية التعبير بشكل سلمي.
تروي طاطور لـ"ارفع صوتك" رحلة الانتقال إلى المدينة الحرة، وكيف أثرت على تصورها حول العالم:
"أكثر الأشياء التي شعرت بها في السويد بعد وصولي كانت الأمان والهدوء والحرية، خاصة أنني جئت إليها بعد تجربة قاسية في السجن، وانعدام الحرية لي كفنانة وكاتبة وشاعرة. إقامتي في السويد جعلتني أشعر معنى أن أكون إنسانة متساوية الحقوق والواجبات، وأن لا أعامل بعنصرية".
وتضيف "في البداية وفور وصولي إلى المدينة، كانت حياتي صعبة جدا من حيث التأقلم مع كل ما هو جديد، حيث م أستطع النوم في الأشهر الأولى بسبب شدة الهدوء والصمت في المدينة، إذ اعتدتُ على الضجيج والحركة والاكتظاظ".
"كان العيش فيها بمثابة الولادة الجديدة واكتشاف ماهية الإنسانية. تجربة علمتني معنى أن أكون إنسانة، وهي ممتعة ومليئة بالتحديات والصعوبات"، تتابع طاطور، مشيرةً إلى أن أكبر التحديات كان المناخ واللغة في السويد، ولا تزال تعاني بسبب صعوبة التأقلم.
وتقول "شكّل الثلج وموسم الشتاء الطويل مشاعري، وتسبب بعدم قدرتي على الكتابة والشعور بما حولي. كان تفكيري كله كيف أوقف تسلل البرد إلى جسدي، كيف أخرج وأستطيع التأقلم مع درجة حرارة تصل إلى 20 تحت الصفر. كان تأقلمي مع المناخ شيئا مستحيلا خاصة أن مناخ مدينة أوسترشوند مختلف كل الاختلاف وبشكل جذري عن المناخ الذي عشت وتربيت فيه على مدار 39 عاماً في فلسطين".
وتبيّن طاطور أن "صدمة المناخ كانت قاسية لها ولجسدها الذي لم يتحمله، وربما يكون السبب في ترك للسويد والعودة إلى فلسطين والعيش مجددا ضمن قسوة الاحتلال".
صحافة وشعر
بالنسبة إلى الصحافي والشاعر العراقي ميزر كمال، يبدو أن الاعتماد على الفيزا السياحية للإقامة في تركيا، أصبح أمراً مرهقاً، لذلك بدأ البحث عن أداة للانتقال إلى ملاذ آمن يوفر له الحد الأدنى من الشروط الضرورية لاستكمال العمل على مجموعة مشاريع كان يخطط لإنجازها.
يروي كمال بدأت رحلة الانتقال إلى مدينة ستوكهولم التي استقبلت قبله الشاعر السوري فرج بيرقدار، و الفنان التشكيلي العراقي أشرف الأطرقجي.
"عندما علمتُ أن هناك منظمة (ICORN) ايلتي مكن من خلالها توفير مدينة أو مدن آمنة للكتاب والصحافيين المعرضين للخطر والتهديدات في بلدانهم، كنتُ حينها صحافياً معرضاً للتهديد بسبب نشاطي الصحافي، والعودة إلى العراق مستحيلة بالنسبة لي، وبقائي في الدولة التي اخترتها للإقامة ليس مضموناً، ففي كل عام كان عليّ تجديد إقامتي السياحية، التي قد تُرفض مثلما حدث ويحدث مع الكثيرين"، يقول كمال.
ويوضح لـ"ارفع صوتك": "تواصلتُ مع المنظمة حسب الطريقة المعتمدة لديهم في الموقع، وجرى كل شيء بطريقة سلسلة واحترافية معهم، وبالفعل بعد سنة وثلاثة أشهر أخبرتني المنظمة أن مدينة ستوكهولم تعرض عليّ الإقامة لمدة سنتين بمنحة كاملة مع بيت الثقافة والمسرح السويدي بالتعاون مع بلدية ستوكهولم والأكاديمية السويدية، وكانت هذه بداية تجربة جديدة، مهمة بالنسبة لي".
ويرى كمال أن البيئة الآمنة والمؤسسات الداعمة هي أهم ما يحتاجه الكاتب أو الصحافي أو الفنان لممارسة عمله المهني والإبداعي، مردفاً "وهو ما وفرته له ستوكهولم والمؤسسات الثقافية فيها، بدءاً من بيت الثقافة والمسرح مروراً بالأكاديمية السويدية التي وفرت لي مقعداً مهماً برفقة عدد من الكتاب والصحافيين والناشرين السويديين، وأعتبر الاحتكاك بهم غاية في الضرورة والأهمية لممارسة عملي، سواء على الصعيد المهني من خلال اشتغالي في الصحافة، أو الصعيد الإبداعي، المتمثل بالأدب".
وعن المشاريع التي يعمل على إنجازها خلال مدة إقامته، يقول كمال: "مشروع (Poetry Project) مع بيت الثقافة والمسرح في ستوكهولم، وهو مشروع شعري يستهدف الشباب العرب اللاجئين، ممن لديهم موهبة الشعر. ويقوم على اختيار عدد من الشعراء الشباب لتطوير مهاراتهم في تقنيات الكتابة وأساليب الشعر الحديثة، وبعد جولة من ورش العمل الإبداعية سيجري اختيار 20 قصيدة، تترجم أيضاً إلى اللغة السويدية، ويقرأ الشعراء قصائدهم في مهرجان (A Night with Buddha) السنوي الذي يُقام على مسرح Kulturhuset Stadsteaterns".
ويتابع: "مشروعٌ آخر يتعلق بعملي الصحافي، وهو تحقيق استقصائي عن فساد (شركات) سويدية وتورطها بصفقات وهمية في العراق، وهذا المشروع هو قيد التطوير مع التلفزيون السويدي وكذلك منظمة Organized Crime and Corruption Reporting Project الدولية، أتمنى أن يُنجز قريباً بالشكل الذي نخطط أن يظهر فيه، ويساهم في كشف ملفات فساد ضخمة في العراق والسويد".
مهرجانات وجوائز
"فترة الإقامة تعطيك فرصة لتكوين علاقات قوية في المجتمع السويدي وتطوير مهارات، سواء باللغة أو العمل في السويد "، يقول الصحافي السوري علي الإبراهيم لـ"ارفع صوتك".
وخلال إقامته في مدينة يونشوبينغ، تمكن من إنجاز فيلمه الوثائقي الأول "One Day in Aleppo" الذي شارك في 31 مهرجاناً، بينها مهرجان "إدفا" الهولندي و"صن دانس" الأميركي ولندن السينمائي، وحصد 17 جائزة دولية.
كما ألّف الإبراهيم كتاباً باللغة السويدية عن الحرب في سوريا، واشترك في تأليف كتاب آخر بعنوان "مختارات الحياة الإبداعية في المنفى" مع مجموعة من الكتاب الذي يعيشون في مدن حرة أخرى في السويد.
ويصف تجربته قائلاً: "برنامج الزمالة في المدن الحرة تكتشف من خلاله حرية التعبير التي فقدناها في بلادنا لأكثر من خمسة عقود. تكتشف من خلالها قيمة العمل الصحافي والكلمة والصورة التي من خلالها يمكننا تغيير الواقع وخلق التأثير الذي نسعى إليه كصحافيين".
ومن الصعوبات التي يواجهها المقيمون في المدن الحرّة، قصر المدة المخصصة لتنفيذ مشروع والنجاح فيه لأجل البقاء في السويد، حسب الإبراهيم.
ويتابع "كما أن المنافسة في بيئة ثقافية صحافية في السويد، مهمة شاقة تتطلب الكثير من الجهد والممارسة والتشبيك مع مؤسسات وزملاء لأخذ الفرصة للمشاركة في قصص وتحقيقات وأفلام وثائقية".
تاريخ الملاذ الآمن
عملياً، يعني برنامج الملاذ الآمن أن كل قاصد له ممن يتعرض للرقابة أو الاضطهاد في مسقط رأسه، يحصل على إقامة فنية لمدة عامين تتضمن السكن المجاني والمساعدات، بالإضافة إلى نشاطات مبرمجة، بهدف دمجهم في الحياة الثقافية داخل المدينة والمقاطعة بشكل أكبر.
وذلك ليتمكن المبدعون المقيمون في هذه المدن، من تطوير مهاراتهم، والعمل بحرية في مجالهم الفني، والمساهمة في تطوير وتنوع الفن والحياة الثقافية، والعمل على تأمين حرية التعبير وتعزيز الديمقراطية، من خلال ممارسة العمل الفني دون التعرض للتهديد أو المضايقة أو الاضطهاد أو السجن.
ويتم إنشاء الملاذ البديل بالتعاون مع شبكة مدن اللاجئين الدولية (ICORN)، وهي منظمة غير ربحية تعمل مع نادي القلم الدولي (PEN International)، يتم من خلال تقسيمها الفرعي لجنة الكتاب في السجن (WiPC) وهي المسؤولة عن التحقق من احتياجات الحماية لمقدم الطلب وخلفيته.
وانطلقت فكرة المدن الحرة من اجتماع بمدينة ستافنجر النرويجية، في أوائل يونيو 2006، ضم ممثلين من حوالي 15 مدينة واثنين من أعضاء نادي القلم.
مهما بدا هذا الخلق جديدًا وفريدًا، فهناك قصص النشأة الأولى عندما تم تشكيل البرلمان الدولي للكتاب (IPW) في يوليو 1993 بعد دعوة من 300 كاتب من جميع أنحاء العالم، استجابة للعدد المتزايد من جرائم قتل الكتاب في الجزائر.
وأكد الموقعون في حينه، على الحاجة إلى هيكل دولي جديد لديه القدرة على تنظيم نوع من التضامن الملموس مع المؤلفين المضطهدين.
وفي27 يونيو 1994 تم تأسيس IPW رسميًا وأصبح سلمان رشدي أول رئيس مجلس إدارة للمنظمة. وخلفه لاحقًا الكاتبان وول سوينكا ورسل بانكس.
كان مقر IPW في الأصل في ستراسبورغ ثم انتقل إلى باريس، حيث أصبح كريستيان سالمون الرئيس التنفيذي لها، وأظهر مفكرون فرنسيون مشهورون مثل جاك دريدا وبيير بورديو التزامًا قويًا. ا
تم اعتماد ميثاق IPW رسميًا، ووافق عليه البرلمان الأوروبي.
وبعد فترة وجيزة شكلت IPW الشبكة الدولية لمدن اللجوء (INCA)، وانضمت أكثر من 25 مدينة إلى الشبكة من جميع أنحاء أوروبا والولايات المتحدة والمكسيك.
و تعهدت المدن الأعضاء في INCA باستضافة المؤلف المضطهد وحمايته وتقديم الدعم اللازم لمدة عام واحد.
وقرر الاتحاد الدولي للمرأة كذلك "الدفاع عن حرية الإبداع حيثما تكون مهددة وإجراء تحقيقات وبحوث في الأشكال الجديدة للرقابة".
ولكن مع اقتراب القرن العشرين من نهايته، واجهت IPW و INCA عددًا من التحديات المالية والتنظيمية على حد سواء.
وسحب الممولون دعمهم وتوقفت المدن الأعضاء عن الانضمام، ليتم حل IPW عام 2004، وفي العام التالي ذهب INCA رسميًا بنفس الطريقة.
في فبراير 2004، لعب فندق Hotel de Ville في باريس دورًا رائعًا حيث كان في وقت واحد مكانًا للاجتماع لكل من حل INCA وإنشاء ICORN في المستقبل.
ودعت INCA المدن الأعضاء فيها لاجتماع أزمة البقاء، الذي يهدف إلى تعزيز وخلق بداية جديدة للشبكة. كان هذا الاجتماع فشلًا في إنقاذ INCA، ولكن من خلال جمع بعض أعضاء الشبكة الأكثر نشاطًا، أدى بشكل غير مباشر إلى زرع البذور الأولى لما أصبح ICORN.
اجتمعت مدينة فرانكفورت الألمانية، وستافنجر النرويجية لأول مرة بعد الاجتماع مباشرة في باريس، وجاء القرار باستكشاف إمكانيات مواصلة العمل المتزايد الأهمية المتمثل في توفير ملاذ للكتاب المضطهدين.
وبعد عام (فبراير 2005)، كانت مدينة ستافنجر التقت أعضاء سابقين وحاليين في INCA وفحصوا السؤال بمزيد من التفصيل: هل ينبغي، بناءً على النجاحات التي لا يمكن إنكارها لـ IPWوINCA والدروس المستفادة من أخطائهم، إنشاء مبادرة جديدة، هيكل جديد مستدام وفعال؟ حركة عالمية جديدة، حيث يمكن لم شمل المدن (والمناطق) وتعزيز جهودها لحماية وتعزيز الكتاب المعرضين للخطر من جميع أنحاء العالم؟
وافق الاجتماع على أن الأمر يستحق المخاطرة. وتم حث مضيفي الاجتماع، بعبارة أخرى ستافنجر، على ضمان وجود أساس مادي وقانوني للشبكة الجديدة.
ثم حدث ذلك. بعد التمويل الأولي من بلدية ستافنجر، وزارة الخارجية النرويجية، عقد اجتماع تأسيسي في ستافنجر في يونيو 2006، وإنشاء شبكة مدن اللاجئين الدولية (ICORN).
يختلف برنامج الملاذ الآمن عن برامج الإقامة الفنية الأخرى في أن أهم معيار للاختيار ليس الجدارة الفنية، بل الحاجة إلى الأمان و/ أو سماع صوت المرء ونشر أعماله.
كقاعدة عامة، الأمر يتعلق بنقل كاتب محترف أو فنان آخر من موقف خطير حيث يتعرض من خلال عمله للاضطهاد أو التهديد أو السجن، فمن المهام المهمة للملاذ توفير راحة البال، وإتاحة الفرصة للعمل المستقل بعيدًا عن الضغوط والمضايقات.