باحث أكاديمي: الديمقراطية في العراق "وُلدت غريبة"
رغم مضيّ نحو عقدين من الزمن على التحول العراقي من الدولة الشمولية إلى النظام الديمقراطي، عبر آليات التمثيل الشعبي وصناديق الاقتراع والتداول السلمي للسلطة، إلا أن مسارها ما زال متشابكاً ومعقداً.
وبحكم التجربة الفتية، كان المراقبون والمعنيون بالنظم السياسية يعولون على عامل الوقت في إنضاج التجربة الديمقراطية في جمهورية حكمتها الديكتاتورية قرابة 40 عاماً.
ومع أن العراق سجل خلال تلك المرحلة خمس تجارب ديمقراطية على المستوى التشريعي باختيار ممثلين عن الشعب، وكذلك في مجال التصويت على الدستور والحكومات المحلية، إلا أن أغلبها يؤشر على أن النتائج تم تجييرها لمصالح سياسية وحزبية، بما يعطل المفهوم والغاية التي وجدت لأجلها صناديق الاقتراع.
وتعيش البلاد، أزمة سياسية خانقة ممتدة منذ شهور فجرتها الانتخابات التشريعية المبكرة التي جرت في أكتوبر 2021، حتى وصلت إلى الاشتباكات المسلحة عند المنطقة الرئاسية ببغداد في أغسطس الماضي، راح ضحيتها العشرات بين قتيل وجريح.
يقول المؤلف والباحث الأكاديمي نديم الجابري، إن "الديمقراطية في العراق ولدت غريبة عن المفاهيم الاجتماعية والسياسية، بما جعلها قابلة للتأويل والاجتهاد الحزبي الذي قادها بالنهاية إلى مخرجات شائكة وسائبة تركت البلاد أمام مصير مجهول".
ويضيف لـ"ارفع صوتك"، أن "المشكلة الرئيسة في استعصاء الديمقراطية على النمو في الأرض العراقية، تكمن في أن الولايات المتحدة أرادت تعميمها في البلاد من الأعلى إلى الأسفل، فيما كان المفترض أن تعمم تلك الثقافات عبر المدارس والجامعات والمؤسسات باعتماد التصويت والانتخاب وغيرها من الممارسات، لا أن تبدأ مباشرة من رأس المؤسسة التشريعية والنيابية".
"فضلاً عن ذلك، أن تخويل الإسلام السياسي بإدارة النظام الديمقراطي والسير في تلك الممارسات، أبعدها عن الممارسة الحقيقية وقنوات الوصول إلى قطف الثمار، باعتبار أن البيئة الدينية عادة ما تتقاطع مع تلك المفاهيم رغم اعتماد آلياتها في الانتخابات وغيرها"، يتابع الجابري.
ويلفت إلى أن "الديمقراطية التي كان من المفترض أن تؤسس لدولة المواطنة وجدناها تبنى على المكونات القومية والطائفية، بما يعزز اعتلاء الهويات الفرعية على حساب العنوان العام لمفردة المواطن والاعتبارات البنائية والحقوقية التي تكفل المساواة والعدل".
وعن مصير الديمقراطية في البلاد عقب ذلك السفر الطويل من الأزمات والتعثر، يرى الجابري، أن "ذلك يعتمد على استعداد القوى السياسية ووعيها بمجريات الأحداث، بما يفرض عليها إجراء المراجعة الشاملة لسلوكياتها ومفاهيمها في تلاقف ذلك العنوان".
ويشير إلى أن العزوف الكبير من قبل المواطنين على التصويت في الانتخابات الماضية، كان "دليلاً على فقدان المواطن العراقي الثقة بصناديق الاقتراع".
من جانبه، يقول رئيس مرصد الحريات الصحافية، هادي جلو مرعي: "نتيجة للظروف والجغرافية الدينية والعقائدية وطبيعة المجتمع العراقي، قد تكون الديمقراطية هي ذاتها السبب الرئيس في صناعة الأزمات وليس العكس".
ويوضح لـ"ارفع صوتك": "في ظل الأنظمة الشمولية عادة ما تخمد القوميات والطوائف والهويات الثانوية الأخرى على حساب عنوان أوحد، وبتبدل الأحوال والانتقال إلى الديمقراطية التي تم التعامل معها بفوضوية، جاءت الصراعات القومية والطائفية والإثنية".
"فالمتتبع للشأن العراقي، يجد أن البلاد ما بعد سقوط نظام صدام حسين، تغوص في خلافات واختلافات وصراعات في جوانب شتى بعض منها دينية وأخرى مذهبية، حتى أمست بنيوية بين الطائفة أو الحزب الواحد، ومن أمثلته الأزمة الحالية داخل البيت الشيعي"، يبيّن مرعي.
ويعتبر أن "الديمقراطية في العراق ضحية، جراء الخلافات العميقة والعقيمة بين أطراف القوى الفاعلة والمؤثرة سياسياً، ما دفعها للعيش والاستمرار في بيئة مضطربة ساخنة محملة بالممارسات الخاطئة"، على حد وصفه.
وإذا ما كانت البلاد قادرة على تجاوز أزماتها عبر تلك الآليات، يقول مرعي "مستقبل الديمقراطية لا يبشر بخير وهي أشبه بالمثل (الأيتام على طاولة اللئام)، بالتالي فإن جميع مخرجاتها ستكون غير ناجعة وعاجزة عن فهم ذلك الصراع".