مبنى وزارة السياحة والآثار في العراق- تعبيرية
مبنى وزارة السياحة والآثار في العراق- تعبيرية

خمس سنوات مرت على تخرج قاسم الطائي من كلية الآثار بجامعة سامراء العراقية، مع ذلك يعمل المتخصص بصيانة وترميم الآثار في بيع الفواكه والخضر عندما تكون الأمور متيسرة، أو حمالاً حين تعانده الظروف في بلد لا تخلو رقعة جغرافية فيه من موقع أثري.

ويتخرج من كليات الآثار وأقسامه المنتشرة وسط وجنوب العراق سنوياً مئات الطلبة، مع ذلك  "لا يجد أغلبهم فرص عمل تناسب تخصصاتهم، فيلجؤون إلى أعمال أخرى بعيدة كل البعد عن طموحاتهم وأحلامهم التي نسجوها خلال مراحل دراستهم الجامعية"، كما يقول قاسم لـ"ارفع صوتك".

 

خيبة أمل

يوضح قاسم: "تخصصت في صيانة وترميم الآثار وهو من الأقسام المهمة والقليلة في العراق، كون الكثير من المواقع الآثارية بحاجة له، وخلال بحث تخرجي صممت جهازاً لتعقيم المخطوطات. ما درسته في سنوات الجامعة وجميع الأبحاث التي كتبتها، كنت أنظر إليها على أنها بذرة أزرعها لأحصد ثمارها بعد التخرج، من خلال العمل في أحد المواقع الآثارية الكثيرة في العراق". 

"لكن، ذلك لم يحصل، وعوضاً عنه، أعمل اليوم في بيع الفواكه والخضر وأحياناً أعمل حمالاً إذا ما عاندتني الظروف"، يضيف قاسم بأسى...

ولم يتمكن فريق "ارفع صوتك" من الحصول على إحصاء بأعداد خريجي كليات وأقسام الآثار في العراق من التعليم العالي حتى كتابة هذا المقال، إلا أن أعدادهم تقدر بالآلاف.

وتخصص حيدر الميالي بالآثار العراقية القديمة بعد تخرجه من جامعة الكوفة عام 2015. ورغم بحثه "المضني" كما يصفه، عن فرصة عمل تتناسب مع تخصصه الأكاديمي، إلا إنه لم يتمكن من تحقيق حلمه، ويعمل حالياً كبائع متجول في محافظته لكسب لقمة العيش.

يقول لـ"ارفع صوتك" :" فرص تعيين خريجي كليات الآثار في العراق محدودة جداً، وتتعلق بوزارة الثقافة والسياحة والآثار التي لا تتعامل مع العقود والأجر اليومي، بل تعتمد على الحذف والاستحداث وبالنتيجة تفتح أبواب التعيين مرة كل أربع إلى خمس سنوات فقط، وبعدد محدود من الدرجات الوظيفية".

ويستدرك: "لا يتعلق الأمر بي كشخص فقط، ففي السنة التي تخرجت بها كنت واحداً من 320 طالبا محتفلا بانتهاء دراسته، ومستبشراً بوجود فرص عمل في مجال تخصصه في بلد لا تكاد تخلو منطقة فيه من معلم أثري". 

 

حلم الاكتشاف

ورغم بعد المسافة بين النجف حيث تخرج حيدر والموصل حيث أنهت مروة دوسكي دراستها بقسم الآثار في جامعة الموصل، إلا أن المعاناة واحدة.

تقول لـ"ارفع صوتك": "في ظل الوضع الاقتصادي الراهن نجد أنفسنا بعد تخرجنا من كلية الآثار على مفترق طرق صعب، فنحن غير قادرين على أن نكون جزءاً من النظام الوظيفي الحكومي؛ لمحدودية الجهات التي يمكنها القبول بتخصصنا من جهة، كما أننا لا نجد فرص عمل ضمن القطاع الخاص من جهة أخرى".

وتوضح: "هناك يأس وتوجه إلى أعمال حرة عديدة، لكن بالنسبة لي أنا أرغب بالعمل ضمن بعثات الآثار، فأنا منذ طفولتي أعيش في مدينة هي جزء من تراث عراقي عظيم، وأرغب أن أكون مع بعثات التنقيب التي نسمع بوجودها واكتشافاتها دون أن يتم منحنا فرصة لنكون جزءاً منها".

وفي قسم الآثار بجامعة بابل، تدرس الطالبة رحاب حسين الكتابة المسمارية، وتبدو في غاية الفخر بتخصصها بالكتابة المسمارية التي كان فك رموزها حلم طفولتها الذي بدأت بتحقيقيه بعد التحاقها بالجامعة.

مع ذلك يبدو حلمها مهدداً كما تقول لـ"ارفع صوتك"، "بالخوف من الالتحاق بمئات الخريجين الذين لم يتمكنوا من إيجاد فرص عمل في مجال تخصصهم".

ولذلك تسعى رحاب إلى "الحصول على أعلى الدرجات الممكنة لتكون ضمن الطلبة الأوائل المشمولين بفرص التعيين الحكومية".

وتتابع: أتمنى الحصول على الماجستير والدكتوراة، لأكون أهم قارئة كتابة مسمارية في العراق، لكن ذلك يبقى مرهوناً بقدرتنا على الاستمرار في ظل فرص العمل المحدودة".

عدم توفر فرص العمل أدى إلى تراجع أعداد المنتمين إلى كليات الآثار في العراق بشكل عام، في كلية الآداب حيث تدرس رحاب وفي جامعة الكوفة كما أبلغنا حيدر، والسبب في ذلك يعود إلى عدم توفر فرص العمل بعد التخرج.

 

عزوف الطلبة

عدم الحصول على فرص عمل بعد تخرج طلبة كليات الآثار وأقسامه أدى إلى "ضعف إقبال الشباب على الانخراط ضمن أقسام كلية الآثار في جامعة الموصل.

يؤكد خلف أحمد صالح مسؤول شعبة شؤون الطلبة في كلية الآثار بجامعة الموصل: "في الموسم الدراسي الماضي التحق بالكلية سبعة طلاب فقط واضطررنا إلى إغلاق المرحلة الأولى من قسم الحضارة لنوازن الأقسام الباقية".

ويضيف لـ"ارفع صوتك"، أن "عدد خريجي كلية الآثار منذ تأسيسها بعد أن كانت قسماً عام 2008 يبلغ 830 خريجاً للدراسات الأولية (55 طالبا سنوياً خلال 15 عاما)، و72 خريجا من الدراسات العليا أغلبهم لم يعمل ضمن اختصاصه".

وبحسب صالح، فإن إحدى مشكلات خريجي كليات وأقسام الآثار المتعلقة بالوظائف الحكومية، سببها "عدم قدرتهم على التقديم إلى أقسام التربية كتدريسيين ولا إلى فروع وزارتي الدفاع والداخلية، كونهم غير مدرجين ككليات ساندة".

ويضرب مثلاً بالأكاديمية العسكرية التي تطلب اختصاصات متعددة لتخريج دفعات من الضباط، باستثناء خريجي الآثار، على الرغم "من وجود حاجة ملحة لوجود قوات أمنية في المواقع الآثارية لديها وعي ومعرفة بأهمية تلك المناطق، ولا ينظرون إليها على أنها كومة من الأحجار فحسب".

ولا تقتصر شحة فرص العمل لخريجي الآثار على الجانب الوظيفي الحكومي، "بل يمتد إلى البعثات التنقيبية ومنظمات المجتمع المدني، الذين يكتفون بتخصص الآثار للمشرفين، فيما يستقدمون عمال بناء عاديين لأعمال الحفر مع أنها تسمح باكتساب الخبرة لخريجي الآثار في مجال التنقيب"، يقول صالح.

 

ماذا تقول الحكومة؟

طالبت وزارة الثقافة والسياحة العراقية كما يقول المتحدث باسمها أحمد العلياوي "في أكثر من مناسبة بإيجاد فرص عمل لخريجي كليات الآثار"، مردفاً" "أحياناً كنا نجد تجاوباً من قبل الحكومة كما حصل عام 2019، وهو أمر لا يتوفر بشكل سنوي ضمن مخصصات الوزارة في الموازنة العامة".

وكانت وزارة الثقافة والسياحة و الآثار أعلنت أواخر 2019 تعيين نحو 400 من خريجي وخريجات الآثار من مختلف أنحاء البلاد في الهيئة العامة للآثار والتراث، بعد حصولهم على تدريب مكثف في صيانة وتأهيل الآثار.

وفي العام الذي يليه، وجه وزير الثقافة الراحل عبد الأمير الحمداني طلباً رسمياً إلى وزارت المالية والدفاع والتربية والداخلية، لشمول خريجي أقسام الآثار في الجامعات العراقية بالتعيينات ضمن ملاك وزاراتهم.

يوضح العلياوي لـ"ارفع صوتك"، أن وزراته من المؤسسات "التي تعتبر ذات أجور محدودة لا تساعد الموظف على العيش براحة، وهذه إحدى المشاكل التي لا تساعد على جذب الخبراء في مجالاتها الثقافية المتنوعة، كما أنها تعاني من نقص كبير في عدد الموظفين ضمن الهيئات الثلاث التي تتكون منها الوزارة".

بالتالي، فإن الوزارة "غير قادرة على تحديد وظائف فقط لهيئة الآثار في حين يحتاج كل قسم منها إلى تخصيص عدد من الوظائف، في وقت لا يتوفر التعيين على العقود والأجور اليومية ضمن الموازنة ويكون الاعتماد على حركة المِلاك"، يتابع العلياوي.

ويشير إلى أنه في العام الحالي "تم تخصيص عدد كبير من الوظائف للأوائل وطلبة الدراسات العليا في الأقسام الثلاث للوزارة، إذ لا يمكن أن تتم عملية التوظيف في قسم دون آخر وهي من ضمن اهتمامات الوزارة".

ويؤكد العلياوي في ختام حديثه، أن الوزارة "تسعى في الوقت الحالي إلى زيادة التوظيف لسد النقص الكبير في الكوادر، نتيجة هجرة العديد من الخبراء فيها أو إحالتهم إلى التقاعد، بالإضافة إلى رفع سقف الأجور ليتناسب مع طبيعة العمل الذي يتم تقديمه والذي يحتاج إلى خبرة وتأهيل، خصوصاً العمل في المواقع الأثرية الذي يحتاج إلى دماء شابة جديدة".

المزيد من المقالات

مواضيع ذات صلة:

الحرب أدت إلى تدمير جزء كبير من البنية الأساسية في قطاع غزة بما في ذلك المراكز التعليمية
الحرب أدت إلى تدمير جزء كبير من البنية الأساسية في قطاع غزة بما في ذلك المراكز التعليمية

مع بدء السنة الدراسية الجديدة في معظم أنحاء الشرق الأوسط، يجد تلاميذ قطاع غزة أنفسهم للعام الثاني على التوالي دون مدارس ينهلون منها العلم والمعرفة، مما حدا برهط من المسؤولين والأهالي إلى إيجاد بعض الحلول الفردية، وفقا لتقرير نشرته صحيفة "وول ستريت جورنال" الأميركية.

وكان من المفترض أن يبدأ العام الدراسي الجديد رسميا هذا الأسبوع، في القطاع الذي يشهد حربا شرسة منذ أكثر من أحد 11 شهرا بين الجيش الإسرائيلي وحركة حماس، المصنفة "منظمة إرهابية" في الولايات المتحدة ودول أخرى.

وأدى القصف إلى تدمير جزء كبير من البنية الأساسية الحيوية في القطاع الفلسطيني، بما في ذلك المراكز التعليمية، التي كانت تستوعب نحو مليون تلميذ تحت سن 18 عاماً، وفقاً للأمم المتحدة.

وفي ظل صعوبة تأمين مساحة آمنة لتدريس الأطفال، قررت وفاء علي، التي كانت تدير مدرسة بمدينة غزة قبل الحرب، فتح فصلين دراسيين في منزلها شمالي القطاع، حيث يتجمع العشرات من الأطفال لتعلم العربية والإنكليزية بالإضافة إلى مادة الرياضيات.

وقالت علي: "أرادت الأسر أن يتعلم أطفالها القراءة والكتابة بدلاً من إضاعة الوقت في المنزل، خاصة أن الحرب لن تنتهي قريبا".

ولا يستطيع المعلمون الوصول إلا إلى نسبة صغيرة من الأطفال الذين حرموا من التعليم بسبب الحرب، التي بدأت بعد أن هاجمت حركة حماس إسرائيل في 7 أكتوبر، مما أسفر عن مقتل 1200 شخص، معظمهم من المدنيين، وبينهم نساء وأطفال، حسب بيانات رسمية.

وردًا على ذلك، شنت إسرائيل عملية عسكري أدت إلى مقتل أكثر من 41 ألف شخص، غالبيتهم من النساء والأطفال، وفقًا لوزارة الصحة في القطاع.

"نبذل قصارى جهدنا"

من جانبها، أوضحت آلاء جنينة، التي تعيش حاليا في خيمة بوسط قطاع غزة، أن طفلها البالغ من العمر 4 سنوات وابنتها ذات السبع سنوات، يتلقيان دروسًا في خيمة قريبة.

وقالت المراة البالغة من العمر 33 عاما، إنها زارت مؤخرا "مدرسة الخيام"، مضيفة: "لقد أحزنني ذلك. ليس لديهم ملابس أو حقائب أو أحذية. لكننا نبذل قصارى جهدنا".

وتقول وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "أونروا"، التي تدير عشرات المدارس بالقطاع، إن أكثر من ثلثي مدارسها دُمرت أو تضررت منذ بدء الحرب.

ووفقا للوكالة، فقد قُتل "مئات" الفلسطينيين الذين نزحوا إلى مرافق الأونروا، ومعظمها مدارس، بينما تؤكد إسرائيل
أن ضرباتها على المدارس وملاجئ الأونروا "تستهدف المسلحين الذين يستخدمون تلك المرافق"، وهو أمر تنفيه حركة حماس.

ورفضت هيئة تنسيق أعمال الحكومة في المناطق، وهي الهيئة العسكرية الإسرائيلية المسؤولة عن التنسيق مع جماعات الإغاثة، التعليق، كما لم يستجب مكتب رئيس الوزراء الإسرائيلي لطلب التعليق من الصحيفة الأميركية.

"بقع لليأس والجوع"

وقالت "الأونروا" إنها أطلقت برنامج العودة إلى التعلم، الذي سيجلب حوالي 28 ألف طفل إلى عشرات المدارس، لافتة إلى أن ذلك البرنامج سيركز على "الدعم النفسي والفنون والرياضة ومخاطر الذخائر المتفجرة، ثم سيتعمق أكثر في مواد القراءة والكتابة والرياضيات".

وفي هذا الصدد، قال المفوض العام للأونروا، فيليب لازاريني، الأربعاء، على وسائل التواصل الاجتماعي: "الكثير من المدارس لم تعد مكانًا للتعلم. لقد أصبحت بقعا لليأس والجوع والمرض والموت".

وتابع: "كلما طالت فترة بقاء الأطفال خارج المدرسة.. كلما زاد خطر تحولهم إلى جيل ضائع. وهذه وصفة للاستياء والتطرف في المستقبل".

من جانبه، أوضح الباحث في مركز دراسات النزاع والعمل الإنساني بقطر، معين رباني، أن قطاع غزة "كان لديه معدلات تعليم عالية نسبيًا، على الرغم من نسب الفقر الكبيرة التي تسوده".

وأضاف رباني أن الفلسطينيين "سعوا منذ فترة طويلة إلى التعليم للتقدم وسط ظروف اقتصادية صعبة، حيث وقد وفرت لهم الأمم المتحدة ومنظمات غير حكومية مختلفة فرصًا تعليمية جيدة".

ولفت في حديثه للصحيفة الأميركية، إلى أن العديد من الفلسطينيين في غزة "اعتادوا على فقدان أراضيهم ومنازلهم وممتلكاتهم، وبالتالي اهتموا بالتعليم، لأنه أمر يمكنك أن تأخذه معك أينما ذهبت".

وهناك ثمن نفسي للابتعاد عن المدرسة على الأطفال أيضًا، إذ قالت ليزلي أركامبولت، المديرة الإدارية للسياسة الإنسانية في منظمة إنقاذ الطفولة الأميركية، إن قضاء عام بعيدًا عن المدرسة والأصدقاء والملاعب والمنازل خلال صراع مسلح عنيف، "يمثل إزالة للركائز الأساسية للاستقرار والسلامة للأطفال".

وشددت على أن "عدم اليقين والتوتر وفقدان المجتمع، يمكن أن يؤدي إلى تحفيز أنظمة الاستجابة الطبيعية للتوتر في الجسم، والتي يمكن أن تكون ضارة بمرور الوقت".

واستطردت حديثها بالتأكيد على أن "تكرار هذه الأعراض أو استمرارها لفترات طويلة، قد يؤدي إلى مجموعة من النتائج السلبية على الصحة العقلية، التي لا يتعافى منها الأطفال بسهولة".

وكانت منظمة الأمم المتحدة للطفولة (اليونيسيف)، قد كشفت في وقت سابق هذا الشهر، أن الأطفال في قطاع غزة "هم الفئة الأكثر تضررًا" مما يحدث هناك، وهم بحاجة ماسة لدعم نفسي وتعليمي بشكل عاجل.

وقال الناطق باسم المنظمة، كاظم أبو خلف، في تصريحات نقلتها وكالة الأنباء الفلسطينية (وفا)، إن الوضع الحالي في غزة "يتطلب استجابة عاجلة لمساعدة الأطفال الذين يعانون من فقدان التعليم والأضرار النفسية الجسيمة التي يتعرضون لها".

وشدد على أن "جميع الأطفال في القطاع يحتاجون إلى دعم نفسي، حيث فقد ما لا يقل عن 625 ألف طفل عامًا دراسيًا منذ بدء الحرب.. وبعض الأطفال تعرضوا لبتر أطرافهم وهم بحاجة إلى الخروج من القطاع لتلقي العلاج، فيما يعاني العديد من الأطفال من الخوف والقلق بسبب الحرب".