أزمة وجود باتت تهدد القطاع الصحي في غزة، بسبب الحرب التي يخوضها الجيش الإسرائيلي ضد حركة حماس منذ 7 أكتوبر الجاري.
ونفّذت إسرائيل عمليات قصف مكثفة ضد أهدافٍ عديدة داخل القطاع تقول إنها تابعة لحماس.
خلّفت هذه العمليات خسائر ضخمة على القطاع الصحي في غزّة توشك أن تقوده إلى الهاوية، فيما تتهم إسرائيل حماس بأنها تخزّن الأسلحة في المستشفيات وداخل المنشآت الصحية.
ومنذ يومين، تعرّض محيط مستشفى القدس لقصف إسرائيلي عدة مرات متتالية.
وتسببت فاجعة المستشفى الأهلي المعمداني، مساء الثلاثاء الماضي، في مقتل 500 شخص، فيما تتبادل إسرائيل والفصائل الفلسطينية التهمة حول المسؤولية عنها.
وبحسب بيان لمنظمة الصحة العالمية، فإن إسرائيل وجّهت لـ20 مستشفى في غزة "أوامر إخلاء"، وهو ما وصفته المنظمة الأممية بأنه "حُكم بالإعدام".
ودعت إلى التراجع عن هذه القرارات وتوفير الحماية الفورية لمرافق الرعاية الصحية.
مستشفيات تحت القصف
وفقاً لتقرير تلالنغ موفوكينغ، المقررة الخاصة للأمم المتحدة المعنية بالحق في الصحة، فإن مقدمي الرعاية الصحية في غزة يعملون "في أوضاع مزرية".
ووثّقت الخبيرة الأممية تضرّر 24 مشفى في القطاع بسبب تعرّضها لهجومٍ مباشر، واستهداف 60 سيارة إسعاف ومقتل 12 فرداً على الأقل من العاملين في المجال الصحي.
بعض أطباء المستشفى المعمداني الأهلي كشفوا جانباً من "كواليس الرعب" التي تعرّضوا لها، من بينهم فضل نعيم، رئيس قسم جراحة العظام في المشفى، حيث سمع انفجاراً هائلاً فور انتهائه من إجراء عملية جراحية لأحد المرضى.
قال نعيم لـ"رويترز": "وجدتُ المستشفى ممتلئاً بالجثث المقطعة والجرحى، هرع الناس إلى القسم وهم يصرخون: ساعدونا!.. ساعدونا!".
وفي 13 أكتوبر، يقول أحمد مهنا مدير مستشفى العودة في تل الزعتر إنه تلقى اتصالاً من الجيش الإسرائيلي يخطره بضرورة إخلاء المبنى بالكامل خلال ساعتين، حسب ما نقلت صحيفة "لوموند" الفرنسية. "رفضت بالطبع، ما زلنا هنا نعالج مرضانا، لا يُمكننا التحرّك"، قال أحمد مهنا.
وكشف عن معاناته الشخصية في ظِل تدفق الضحايا على المستشفى، قائلاً: "خلال ثمانية أيام نمتُ 10 ساعات فقط".
هذه المعاناة لا تُقارن بما يتعرّض له المستشفى نفسه الذي يُعاني نقصاً حاداً في المستلزمات الطبية، كما تعرّضت عدة أجنحته لأضرارٍ بفعل القصف المستمر الذي تشهده المنطقة.
"نحتاج كل شيء"
نتيجة للعمليات العسكرية المتواصلة تدفّق الضحايا على مستشفيات غزة التي امتلأت ردهاتها بالجرحى بشكلٍ يفوق بكثير طاقتها وقُدرتها الاستيعابية والعلاجية.
ووفقاً لما نشرته وكالة "أسوشيتد برس"، فإن مشرحة مستشفى الشفاء امتلأت عن آخرها فاضطر العاملون بها إلى وضع جثث الضحايا في موقف سيارات بجوار مبنى المستشفى.
كثافة عدد المصابين لم تكن العبء الرئيسي على المستشفيات وإنما أيضاً قِلة المساعدات وانقطاع الماء والكهرباء والوقود، وهو وضع لو استمر على هذا النحو فستتحوّل الأزمة إلى "كارثة حقيقية"، على حد وصف منظمة الصحة العالمية.
في ظِل هذه الأوضاع، أعلن محمد أبو سليمة، مدير مستشفى الشفاء، أن بعض أطبائه أجروا عمليات على الأرض من دون تخدير لبعض الحالات الطارئة.
وأضاف: "نحتاج إلى معدات، إلى أدوية وإلى أسرة.. نحتاج إلى كل شيء"، كما حذّر من أن مولّدات المستشفى ستتوقف عن العمل لو لم يصلها وقود خلال ساعات ما قد يؤدي إلى إغلاق المؤسسة بالكامل.
وصرّح الدكتور محمد مطر، رئيس قسم الأشعة بذات المستشفى، أن "رائحة الدماء باتت في كل مكان"، قائلاً إن أحد زملائه الأطباء في المشفى تُوفي هو وعائلته جميعاً بعدما تعرضوا لقصفٍ إسرائيلي.
وشدّد أحمد المقدم، الذي يعمل في مستشفى الشفاء أيضاً، أن المنشأة تعاني من ندرة الدم الذي يحتاجون لاستخدامه في تعويض المصابين، كذلك قلة كميات "الشاش" التي يحتاجها لمداواة المرضى، ما اضطره لاستخدام كمياتٍ أقل من المطلوب وهو أمر قد يعرّض الجروح للتلوث.
إلياس الشوبكي، الممرض في مستشفى الشفاء أكّد أن موقف السيارات تحوّل إلى "مقبرة"، مضيفاً "أنا مرهق جسدياً ونفسياً، لا أستطيع منْع نفسي من التفكير في درجة التدهور التي سيصل لها الأمر".
الانهيار القادم من بعيد
لا تمتلك غزة قطاعاً صحياً قوياً قادراً على سد احتياجات سكانها. وبحسب تقرير حكومي نُشر في 2022، فإن القطاع يحوي 35 مستشفى فقط تستوعب 3400 سرير تقريباً، مخصصة لخدمة أكثر من مليوني مواطن يعيشون في غزة.
وأرجعت الدكتورة يارا عاصي، الأستاذة في قسم "المعرفة الصحافية" في جامعة "سنترال فلوريدا"، ذلك إلى "انعدام التمويل منذ نصف قرن".
وقالت إن "صعود حماس إلى السُلطة التي تصنّفها الولايات المتحدة وشركاؤها الغربيون كجماعة إرهابية ساهم في عزل القطاع عن المجتمع الدولي في ظِل الحصار البري والبحري الذي فُرض على القطاع من حينها، ما ساهم كثيراً في زيادة تدهور حالة القطاع الصحي داخل غزة".
وفي حديثه مع شبكة "سي إن إن"، قال الجراح الفلسطيني البريطاني غسان أبو ستة، إن القطاع الصحي في غزة "مثقل بالمشاكل قبل تنفيذ العملية العسكرية متأثراً بـ15 عاماً من الحصار الذي فرضته إسرائيل على القطاع".
وبحسب دراسة "أثر الحصار الإسرائيلي على الواقع الصحي في قطاع غزة" لفضل المزيني، فإن مستشفيات غزة تعاني عادةً من عجز قدره 30% من الأدوية المتداولة بسبب الحصار منها أدوية تُستخدم لعلاج أمراض خطيرة مثل السرطان والفشل الكلوي والصرع.
كذلك عانت مؤسسات غزة الصحية من نقصٍ كبير في الأجهزة الطبية التي حُظر استيراد قطع غيارٍ لها أو نسخٍ أكثر حداثة من الموجودة، وفي بعض الأحيان تعطّلت اللوحات الإلكترونية الرقمية لكثيرٍ من الأجهزة بسبب الانقطاع المتكرر للتيار الكهربائي.
وهو ذات ما أكّد عليه الطبيب الفلسطيني نضال عابد، المتخصص في جراحات العظام، كاشفاً أنه في الوقت الطبيعي الذي يخلو من عمليات عسكرية فإنهم يواجهون صعوبات كبيرة في تدبير حاجاتهم الأساسية لإسعاف المرضى، أما في ظِل الأزمة الحالية فإن "القطاع الصحي بأسره على وشك الانهيار".