أسفرت الحرب المشتعلة بين إسرائيل وفصائل فلسطينية مسلحة في قطاع غزة، عن مقتل أكثر من 11 ألف شخص، من بينهم آباء وأمهات، صار من تبقى من أبنائهم على قيد الحياة، يتيماً.
ويصعب تحديد رقم دقيق لعدد الأيتام في غزة حالياً، إلا أن وسائل إعلامية قدّرت بأنه تجاوز 33 ألف طفل على الأقل.
وقال "المرصد الأورومتوسطي" في تقرير، إن عدد أيتام غزة حتى الآن، بين 17 و18 ألف طفل فلسطيني، قُتل أحد والديهم أو الوالدان معاً.
ومهما اختلفت هذه الأرقام، فهي تزيد عن جميع الإحصائيات التي وثّقت الضحايا من الأيتام نتيجة العمليات الإسرائيلية السابقة ضد القطاع. عملية "الرصاص المصبوب" 2009، مثلاً، أسفرت عن 1089 يتيماً، بينما خلّفت عملية "عمود السحاب" في 2012، 224 يتيماً.
وفي 2014، بلغ عدد الأيتام بفِعل عملية "الجرف الصامد"، أكثر من 2000، وفقاً لما أعلنته وزارة الشؤون الاجتماعية في غزة. وبحسب تقرير سابق نشره "المرصد الأورومتوسطي"، فإن عملية "حارس الأسوار" التي نفذتها إسرائيل ضد القطاع في 2021، خلّفت قرابة 241 يتيماً.
وعن إجمالي عدد الأيتام داخل القطاع، شهد تفاوتاً حاداً في تقديرات المنظمات الاجتماعية. ففي 2011 توقّعت جمعيات خيرية إسلامية أن عدد الأيتام ممن هم دون سن الخامسة يزيد عن 25 ألفاً، وفي 2016 أعلنت وزارة الشوؤن الاجتماعية في غزة، أن عددهم حوالي 20 ألفاً.
وحدّدت منظمة "وقف فلسطين" الخيرية عددهم، بأنه لا يزيد عن 11.5 ألف يتيم، في عام 2023.
مؤسسات رعاية الأيتام في غزة
يضمُّ القطاع خمس مؤسسات رئيسة لرعاية الأيتام، حدّدها محمد عودة في رسالة الدكتوراة الخاصة به عن "دور المرشدين في مؤسسات كفالة الأيتام بمحافظات غزة"، هي: "معهد الأمل للأيتام، جمعية الصلاح الإسلامية، وقرية الأطفال لرعاية الأيتام S.O.S، وجمعية مبرة الرحمة، والجمعية الإسلامية الخيرية".
بحسب الباحث، تأسس "معهد الأمل" عام 1949، على أثر وقائع "النكبة"، ويعيش فيه الأطفال من سن خمس سنوات حتى 18 سنة، حياةً كاملة، إلا من الأوقات التي يُسمح لهم فيها بالخروج إلى المدارس. وفي 2014، بلغ عدد شاغليه 102 يتيم منهم 72 ذكرا و33 أنثى، يرعاهم 40 موظفاً و12 مشرفاً.
وأنشئت "قرية الأطفال" في مدينة رفح سنة 2000، وتتبّع نظاماً تربوياً مغلقاً، إذ أنها قائمة على إنشاء بيوت تأوي 7-9 أطفال يخضعون لإشراف مربية تحمل لقب "الأم البديلة". ولا يحتاج الطفل للخروج من القرية لتلقي دروسه، ويخضع حتى سن 12 عاماً لإشراف المعلمة.
في 2014، بلغ عدد قاطني القرية 110 أطفال يقوم على رعايتهم عدد كبير من الموظفين بلغ قرابة 80 فرداً.
وتأسست "مبرة الرحمة"، عام 1993. وهي المؤسسة الوحيدة التي تُعنى برعاية الأطفال اللقطاء والأيتام الصغار حتى سن خمس سنوات، ويكبر الطفل تحت رعايتها، وبعدها يُسمح للأسر بتبني أيٍّ من الأطفال بحسب شروطٍ معينة.
وفي عام 1976، أنشئت "الجمعية الإسلامية الخيرية"، بهدف رعاية الأيتام وكفالتهم وتقديم الخدمات لهم، تلاها بعد عامين تأسيس "جمعية الصلاح الإسلامية" التي أقامت مدارس نموذجية خاصة بالأيتام، بدأت نشاطها عام 2000، واستوعبت 540 طالباً في 18 صفاً دراسياً زادوا إلى 1250 طفلاً، بحسب دراسة "دور مؤسسات رعاية الأيتام بمحافظات غزة في تعزيز سمات الشخصية الإيجابية"، للباحثة ابتسام علي.
وتحدثت عن منشأة سادسة ترعى الأيتام في غزة، هي "جمعية الرحمعة العالمية"، التي تأسست بدعمٍ كويتي في 2013 بهدف رعاية أيتام غزة، وبلغ عدد الأطفال الذين ترعاهم 8 آلاف تقريباً.
بشكلٍ عام، سواءً في القطاع أو في الضفة الغربية، نظرت السُلطة الفلسطينية إلى الأطفال الذين تيتموا في الحروب باعتبارهم "مشكلة كبيرة يجب حلها"؛ لذا تبنّت عدة برامج لتخفيف معاناتهم مثل برامج "الأسرة الحاضنة (البديلة)"، عبر محاولات إدماج الطفل داخل أسرٍ فلسطينية تمنحهم شكلاً مختلفاً من الرعاية التي لا يجدونها في دور الأيتام.
وأيضأ برنامج "الأم البديلة" التي وفّرت بموجبها الدور، مرشدات يحاولن القيام بالدور البديل للأم المفقودة، عبر تخصيص مشرفات يركزن اهتماماً مباشرة على مجموعة محددة وصغيرة من الأطفال لضمان رعايتهم دراسياً وتربوياً على النحو الأمثل.
كما جرى تبنّي مشروع "الأخ الأكبر" الذي تضمّن استمرار رعاية الأيتام حتى مراحل سنية متقدمة من حيواتهم عبر سداد ديونهم ومصاريفهم الدراسية ومنحهم دورات تدريبية تعينهم على الحصول على عمل.
في بعض الأحيان تلقى أيتام غزة دعماً من دولٍ عربية، كما فعلت إحدى المنظمات الخيرية في قطر، التي كفلت 11 ألف طفل يتيم، وجمعيات أخرى في دول الخليج نفذت برامج متنوعة لرعاية أيتام غزة.
خلال حرب 2021، تعرض أغلب دور الأيتام في غزة لأضرارٍ جسيمة، ورغم ذلك، اعتبرها أهل غزة وجهة آمنة نسبياً تقيهم خطر الغارات الإسرائيلية التي تقصف منازلهم، فلجأوا إليها فور اندلاع هذه الحرب. وهو ما شكّل تحدياً كبيراً أمام الدور التي لا تستوعب إلا 2800 فردٍ بحدِّ أقصى، بالتالي ازدادت صعوبة تقديم الخدمات للأطفال الأيتام القاطنين بداخلها.
أثر الصدمات في حياتهم
بحسب دراسة "أثر الصدمات الناجمة عن الحرب على قطاع غزة على الأطفال الأيتام" التي أعدّها عبد العزيز ثابت في 2018، أكدت أن نصفهم تقريباً يعانون من اضطراب ما بعد الصدمة بسبب ظروف الحرب وخسارتهم لأهلهم فيها، وأكدت أن ما يزيد عن 78% زاد إيمانهم بالله وأقبلوا على ممارسة الشعائر الدينية بسبب هذه المعاناة.
وفي بحثه "المشكلات الإدارية والسلوكية لدى الطلبة الأيتام في المدارس الإسلامية الخاصة"، وثّق سليمان المزين، في 2011، أن 71% من الأطفال الأيتام -عينة الدراسة- احتاجوا إلى مجهودٍ أكثر من معلميهم للاستجابة لهم، لأنهم أقل تجاوباً مع العملية التدريسية من بقية الأطفال.
وكان 57% من الأطفال الأيتام أكثر ضعفاً في التحصيل الدراسي، و52% أقل انخراطاً في البرامج التثقيفية والتنشيطية، بينما لجأ 52% منهم إلى التشاجر مع الآخرين بدافع رغبتهم في التعويض وتقدير الذات المفقود بسبب خسارة الأهل، بحسب المزين.
وبيّنت ابتسال الداية في أطروحتها "المشكلات النفسية والاجتماعية لدى أبناء الشهداء والشهيدات وعلاقتها بالحرمان العاطفي"، التي أجرتها في 2016 على 2220 طالباً في مدرسة تابعة لـ"جمعية النور الخيرية"، أن 65% من الأطفال الأيتام عانوا نسبة قلق مرتفعة، و70% يعانون من الحرمان العاطفي، إضافة إلى الأنانية والميول العدوانية والخجل بنسبٍ متفرقة.
بعض أيتام غزة لم يروا ذويهم القتلى في الحروب، حيث احتجزت إسرائيل جثامين آبائهم وأمهاتهم في ما يُعرف بـ"مقابر الأرقام"، كوسيلة تفاوض فيها حركة حماس لاحقاً.
هذا الأمر، وثّقه عز الدين دوابشة في بحثه "الضغوط النفسية وإستراتيجيات التعامل معها لدى أسر الشهداء المحتجزة جثامينهم لدى سُلطات الاحتلال الإسرائيلي" (2016)، معتمداً على عينة تعدادها 382 شخصاً، بينهم 59 ابناً وابنة أيتام.
ووفقاً لدوابشة، فإن هؤلاء الأيتام مرّوا بضغوطٍ "مرتفعة جداً" على جميع الأصعدة النفسية والأسرية الاجتماعية، لذا لجأت عديدٌ من الأسر الفلسطينية إلى اتباع عددٍ من الأساليب الروحية لتخفيف هذه الضغوط عليهم ومساعدتهم على الصبر والتماسك لحين عودة جثث ضحاياهم في أي صفقة تبادل أسرى تجري بين الطرفين.
وهي نتيجة مشباهة لما أورده دكتور محمد عليان، في بحثه "أساليب مواجهة ال ضغوط وعلاقتها بالحزن لدى أبناء شهداء الحرب على غزة"، حين التقى بـ260 طفلاً من الأيتام، تبيّن أن 72% منهم يعيشون "درجة عالية من الحزن"، وأن 86% منهم لجأوا إلى الدين للتغلب على هذه الأحزان بينما اعترف 48% فقط منهم بنجاحهم في التكيّف مع ما جرى لهم.