صورة تعبيرية لأم مع طفلها تتحدث إلى أخصائي نفسي عبر الشاشة
صورة تعبيرية لأم مع طفلها تتحدث إلى أخصائي نفسي عبر الشاشة

"أنا ضهرك في الدنيا! ما فيش حاجة في الدنيا ممكن تكسرك!"، تأتي هذه العبارة على لسان أم مصرية لابنها في مسلسل "حدث بالفعل- تحت الحزام"، تلعب دورها الفنانة غادة عبد الرازق، لكن المفارقة أنها هي نفسها التي تتسبب بتدمير مستقبله.

وتمثل الأم في هذا العمل الدرامي نموذج العلاقات السامة بين الآباء وأبنائهم، التي تلقى عادة الكثير من الجدل إثر التعرّض لها؛ نظراً لأنها موجهة إلى مجتمعات بأغلبها تنظر للوالدين، والأم خصوصاً، بقدسية واحترام بالغ وطاعة عمياء مهما فعلوا بأبنائهم.

ولكن هذه المسألة ليست بجديدة وسبق أن طرحت منذ أكثر من نصف قرن في الأعمال الغربية كـ"ميلدرد بيرس" عام 1945 و"الحي الصيني" (1974) و"نقطة التحول" (1977). واليوم، تعود بقوة مع المؤثرين على مواقع التواصل الاجتماعي الذين شاركوا متابعيهم معاناتهم مع آبائهم وأمهاتهم.

من بين هؤلاء، د. إبراهيم المشرقي، المتخصص في الهندسة الوراثية وتطوير أنسجة وأطفال الأنابيب. حيث خصص حساباته لنشر التوعية حول مواضيع إنسانية مختلفة ومنها المعاناة التي قد تشوب العلاقة مع الأم المصابة باضطرابات.

 ومن خلال طرحه هذا الموضوع في تطبيق تك توك، شجع المشرقي الكثير من متابعيه على الاعتراف بوجود هذه المشكلة. يقول لـ"ارفع صوتك"، إن "خوض موضوع العلاقات النرجسية الضارة بين الأهل والأبناء ما زال يعتبر من التابوهات ويُرفض خوضه، خصوصاً في مجتمعاتنا الشرقية المحافظة".

"وهذا ما يعيق الأبناء ويمنعهم الإفصاح عما يجري معهم لأسباب عديدة، كالنظرة المجتمعية التي تصنفهم من المخطئين أو الميل لتحميل المرأة المسؤولية في حال تعرضت لتحرش من أحد الأبوين والخوف من التأثير سلبا على الأسرة وتفككها. وأخيرا، الفكر النمطي الذي يتبنى فكرة التبعية وواجب الطاعة في كل الأحوال"، يبين المشرقي.

ويرى أن "الأصل في الفطرة الإنسانية النظر لصورة الأم والأب كمصدر الأمان والحب والحنان والدعم والسند للأبناء، ولكن في بعض الحالات، إن لم تكن سائدة، يحدث النقيض تماماً فيصبح أحد الأبوين أو كلاهما مصدر ذعر للأبناء، ومصدر تهديد وكره ونرجسية. وقد يصل الاضطراب بدرجاته حد الأذى الجسدي والنفسي لهم".

 

تأثيرات الطفولة

بحسب علماء النفس، تلعب الطفولة دوراً أساسيا في تشكيل الأفراد والتأثير على حياتهم ومستقبلهم. يقول أخصائي علم النفس، الدكتور محمد جابر، إن العلاقة المستقبلية بين الأهل والأبناء هي نفسها من ردود الفعل على البدايات.

ويوضح لـ"ارفع صوتك": "تعتمد العلاقة بين الأهل والأبناء على مؤثرات عدة تعود للسنوات الأولى من مرحلة التربية، وهي مرتبطة بعقدة أوديب وعقدة ألكترا التي يمر بها الأطفال، ومن الممكن أن تؤثر على صورة الأب أو الأم الإيجابية أو السلبية. كما تلعب العديد من المعوقات دورا بارزا في تلك العلاقات من حيث إشباع الحاجات النفسية الـ28 التي ذكرها هنري موراي أو عدمه".

وتأتي الظروف العامة التي تمر بها الأسرة ودور الطفل بين إخوته، بحسب جابر، لتلعب دورا في هذه العلاقة، كما "لا يمكن إغفال دور المشاكل الأسرية بين الأم والأب وتأثير نظرة الطفل لأهله على تكوين صورة الذات والثقة في النفس".

يتابع: "بالتالي فإن التأثير العميق لعلاقة الأم بالأبناء على حياة هؤلاء ككل يسطر الرابط بين الأم وأطفالها والتكوين العام لصورة الأم المثالية أو الصالحة لدى أطفالها أو العكس، فأمي هي في الغالب أول كلمة ينطق بها الطفل، والأم هي بالنسبة إليه مصدر للحنان والحب".

هذا يعني، كما يقول جابر، أن "معاناة الأم في الأصل هي التي قد تنعكس على حياة الأولاد، فإن كانت تعاني أصلا من اضطرابات نفسية، سينعكس ذلك حتماً على تلك العلاقة مع أولادها من سوء معاملة وتعنيف، إما لجهل أو لعدم دراية".

في السياق ذاته، يقول إبراهيم المشرقي، إن الأمر "لا يتوقف على التأثير اللحظي في حياة الطفل وسلوكه، بل على كامل حياته ومنهجيته وفكره، ويتسبب بتشكيل عقد نفسية تلازمه طوال حياته إذا لم يتعالج منها، ويورثها لمن بعده".

 

مظاهر العلاقات السامة

تتعدد مظاهر العلاقات السامة أو السلبية بين الأم والأبناء، وتختلف من أسرة لأخرى ومن فرد لآخر نظرا لخصوصية كل حالة. يذكر المشرقي أهمها: "الجفاء العاطفي والعناد والتعنت والتشبث بالمواقف والعنف وسوء المعاملة والإساءة اللفظية والجسدية والإنكار وقلب المواقف والإسقاط وتحميل كل من الأولاد مسؤولية الفشل للآخر في كافة المواقف، وصولا لأن يعيش الأولاد دور الضحية".

ويحذر من ترجمات أخرى لعواقب هذه العلاقة، كأن نرى "في حالات كثيرة حدوث التحرش أو الاغتصاب أو السرقة أو النرجسية كغيرة الأم من بناتها وتحميلهن مسؤولية فشل زواجها واختياراتها، والتمييز في المعاملة بين الأبناء، و العديد من السلوكيات الأخرى ذات الأثر السلبي على الأبناء وعلى سلوكهم ومسيرة حياتهم".

ويستدعي ذلك "تدخلات سريعة لإيجاد الحلول المناسبة بأسرع وقت"، وفق المشرقي. ويقترح أن يبدأ العلاج بـ"تأهيل وتثقيف الزوجين حول مواضيع الزواج والإنجاب، ورفع مستوى الوعي والثقافة لدى الافراد والمجتمعات والتأكيد على أهمية التمكين والاستقلال الكامل عن الأهل سواء مادياً أو عاطفياً ليتمكنوا من التخطي، ثم خوض مراحل العلاج النفسي لتقبّل ما حصل، وتعزيز الثقافة الصحية والاجتماعية والخاصة بإمكانية استشارة الطبيب النفسي عند الحاجة، سواء للأهل أو الأبناء".

"لأن هذا الأمر نابع أساسا من خلل في التكوين النفسي للأفراد ولضمان التعافي وعدم ترك صدمات عالقة في نفسيتهم ستؤثر عليهم وعلى الأجيال القادمة من بعدهم بتكرار ذات المنهج والطريقة معهم"، يشرح المشرقي.

ويعتقد أن طرح الموضوع لا يعني "عقوق الوالدين بل إسماع صوت الضحية ووضع الحدود ومنع حدوث أي نوع من أنواع الأذى والاستغلال".

وبذلك، يقول المشرقي، "يضمن الأبناء حماية أنفسهم من تبعات هذه العلاقات ويبقى من الضروري التذكير بأن رحلة العلاج لا تعني القطيعة".

المزيد من المقالات

مواضيع ذات صلة:

الحرب أدت إلى تدمير جزء كبير من البنية الأساسية في قطاع غزة بما في ذلك المراكز التعليمية
الحرب أدت إلى تدمير جزء كبير من البنية الأساسية في قطاع غزة بما في ذلك المراكز التعليمية

مع بدء السنة الدراسية الجديدة في معظم أنحاء الشرق الأوسط، يجد تلاميذ قطاع غزة أنفسهم للعام الثاني على التوالي دون مدارس ينهلون منها العلم والمعرفة، مما حدا برهط من المسؤولين والأهالي إلى إيجاد بعض الحلول الفردية، وفقا لتقرير نشرته صحيفة "وول ستريت جورنال" الأميركية.

وكان من المفترض أن يبدأ العام الدراسي الجديد رسميا هذا الأسبوع، في القطاع الذي يشهد حربا شرسة منذ أكثر من أحد 11 شهرا بين الجيش الإسرائيلي وحركة حماس، المصنفة "منظمة إرهابية" في الولايات المتحدة ودول أخرى.

وأدى القصف إلى تدمير جزء كبير من البنية الأساسية الحيوية في القطاع الفلسطيني، بما في ذلك المراكز التعليمية، التي كانت تستوعب نحو مليون تلميذ تحت سن 18 عاماً، وفقاً للأمم المتحدة.

وفي ظل صعوبة تأمين مساحة آمنة لتدريس الأطفال، قررت وفاء علي، التي كانت تدير مدرسة بمدينة غزة قبل الحرب، فتح فصلين دراسيين في منزلها شمالي القطاع، حيث يتجمع العشرات من الأطفال لتعلم العربية والإنكليزية بالإضافة إلى مادة الرياضيات.

وقالت علي: "أرادت الأسر أن يتعلم أطفالها القراءة والكتابة بدلاً من إضاعة الوقت في المنزل، خاصة أن الحرب لن تنتهي قريبا".

ولا يستطيع المعلمون الوصول إلا إلى نسبة صغيرة من الأطفال الذين حرموا من التعليم بسبب الحرب، التي بدأت بعد أن هاجمت حركة حماس إسرائيل في 7 أكتوبر، مما أسفر عن مقتل 1200 شخص، معظمهم من المدنيين، وبينهم نساء وأطفال، حسب بيانات رسمية.

وردًا على ذلك، شنت إسرائيل عملية عسكري أدت إلى مقتل أكثر من 41 ألف شخص، غالبيتهم من النساء والأطفال، وفقًا لوزارة الصحة في القطاع.

"نبذل قصارى جهدنا"

من جانبها، أوضحت آلاء جنينة، التي تعيش حاليا في خيمة بوسط قطاع غزة، أن طفلها البالغ من العمر 4 سنوات وابنتها ذات السبع سنوات، يتلقيان دروسًا في خيمة قريبة.

وقالت المراة البالغة من العمر 33 عاما، إنها زارت مؤخرا "مدرسة الخيام"، مضيفة: "لقد أحزنني ذلك. ليس لديهم ملابس أو حقائب أو أحذية. لكننا نبذل قصارى جهدنا".

وتقول وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "أونروا"، التي تدير عشرات المدارس بالقطاع، إن أكثر من ثلثي مدارسها دُمرت أو تضررت منذ بدء الحرب.

ووفقا للوكالة، فقد قُتل "مئات" الفلسطينيين الذين نزحوا إلى مرافق الأونروا، ومعظمها مدارس، بينما تؤكد إسرائيل
أن ضرباتها على المدارس وملاجئ الأونروا "تستهدف المسلحين الذين يستخدمون تلك المرافق"، وهو أمر تنفيه حركة حماس.

ورفضت هيئة تنسيق أعمال الحكومة في المناطق، وهي الهيئة العسكرية الإسرائيلية المسؤولة عن التنسيق مع جماعات الإغاثة، التعليق، كما لم يستجب مكتب رئيس الوزراء الإسرائيلي لطلب التعليق من الصحيفة الأميركية.

"بقع لليأس والجوع"

وقالت "الأونروا" إنها أطلقت برنامج العودة إلى التعلم، الذي سيجلب حوالي 28 ألف طفل إلى عشرات المدارس، لافتة إلى أن ذلك البرنامج سيركز على "الدعم النفسي والفنون والرياضة ومخاطر الذخائر المتفجرة، ثم سيتعمق أكثر في مواد القراءة والكتابة والرياضيات".

وفي هذا الصدد، قال المفوض العام للأونروا، فيليب لازاريني، الأربعاء، على وسائل التواصل الاجتماعي: "الكثير من المدارس لم تعد مكانًا للتعلم. لقد أصبحت بقعا لليأس والجوع والمرض والموت".

وتابع: "كلما طالت فترة بقاء الأطفال خارج المدرسة.. كلما زاد خطر تحولهم إلى جيل ضائع. وهذه وصفة للاستياء والتطرف في المستقبل".

من جانبه، أوضح الباحث في مركز دراسات النزاع والعمل الإنساني بقطر، معين رباني، أن قطاع غزة "كان لديه معدلات تعليم عالية نسبيًا، على الرغم من نسب الفقر الكبيرة التي تسوده".

وأضاف رباني أن الفلسطينيين "سعوا منذ فترة طويلة إلى التعليم للتقدم وسط ظروف اقتصادية صعبة، حيث وقد وفرت لهم الأمم المتحدة ومنظمات غير حكومية مختلفة فرصًا تعليمية جيدة".

ولفت في حديثه للصحيفة الأميركية، إلى أن العديد من الفلسطينيين في غزة "اعتادوا على فقدان أراضيهم ومنازلهم وممتلكاتهم، وبالتالي اهتموا بالتعليم، لأنه أمر يمكنك أن تأخذه معك أينما ذهبت".

وهناك ثمن نفسي للابتعاد عن المدرسة على الأطفال أيضًا، إذ قالت ليزلي أركامبولت، المديرة الإدارية للسياسة الإنسانية في منظمة إنقاذ الطفولة الأميركية، إن قضاء عام بعيدًا عن المدرسة والأصدقاء والملاعب والمنازل خلال صراع مسلح عنيف، "يمثل إزالة للركائز الأساسية للاستقرار والسلامة للأطفال".

وشددت على أن "عدم اليقين والتوتر وفقدان المجتمع، يمكن أن يؤدي إلى تحفيز أنظمة الاستجابة الطبيعية للتوتر في الجسم، والتي يمكن أن تكون ضارة بمرور الوقت".

واستطردت حديثها بالتأكيد على أن "تكرار هذه الأعراض أو استمرارها لفترات طويلة، قد يؤدي إلى مجموعة من النتائج السلبية على الصحة العقلية، التي لا يتعافى منها الأطفال بسهولة".

وكانت منظمة الأمم المتحدة للطفولة (اليونيسيف)، قد كشفت في وقت سابق هذا الشهر، أن الأطفال في قطاع غزة "هم الفئة الأكثر تضررًا" مما يحدث هناك، وهم بحاجة ماسة لدعم نفسي وتعليمي بشكل عاجل.

وقال الناطق باسم المنظمة، كاظم أبو خلف، في تصريحات نقلتها وكالة الأنباء الفلسطينية (وفا)، إن الوضع الحالي في غزة "يتطلب استجابة عاجلة لمساعدة الأطفال الذين يعانون من فقدان التعليم والأضرار النفسية الجسيمة التي يتعرضون لها".

وشدد على أن "جميع الأطفال في القطاع يحتاجون إلى دعم نفسي، حيث فقد ما لا يقل عن 625 ألف طفل عامًا دراسيًا منذ بدء الحرب.. وبعض الأطفال تعرضوا لبتر أطرافهم وهم بحاجة إلى الخروج من القطاع لتلقي العلاج، فيما يعاني العديد من الأطفال من الخوف والقلق بسبب الحرب".