يقف زمناكو محمد علي عند شاهد قبره في مقبرة مدينة حلبجة الكردية. اسمه مكتوب باللون الأخضر على الرخام، وقد "دفن" هناك "قبل أكثر من ثلاثين عاماً"، كما جاء في الوثائقي الذي عرض في المؤتمر الذي استضافته الجامعة الأميركية في واشنطن، في الذكرى السادسة والثلاثين لمجزرة حلبجة التي ارتكبها نظام صداّم حسين بأسلحة كيميائية عام 1988.
الوثائقي القصير يروي حكاية بعض ضحايا المجزرة من بينهم زمناكو، الذي ظنّته عائلته ميتاً مع عدد آخر من أفرادها الذين قضوا بالهجوم الكيميائي، وكان عمره شهوراً فقط. لكن الطفل نجا بأعجوبة ونقل إلى إيران لتتبناه عائلة وتهتم به، حتى كبر وعاد ليبحث عن أصوله، واكتشف بعد فحوص الحمض النووي هويته وعثر بين القبور على قبره.
بالأخضر، جرى تلوين الكتابة على شاهد القبر للدلالة إلى أنه حيّ، ولتحويل القبر إلى شاهد رمزي على المأساة التي طالت آلاف الأكراد في الجريمة المصنّفة رسمياً كـ"إبادة جماعية" من قبل القضاء العراقي منذ عام 2010.
شهد المؤتمر جلسة حوارية حول مفهوم "الإبادة الجماعية" وآليات محاسبة مرتكبيها، وكيفية تعويض الضحايا وذويهم، الذين لم يتلقوا حتى الآن أي تعويضات من الحكومة العراقية.
افتتح الجلسة يرفان سعيد، وهو أستاذ جامعي يعيش في أميركا ويشغل منصب مدير المبادرة الكردية للسلام في الجامعة الأميركية، والأهمّ أنه أحد الناجين من الهجوم الكيميائي على مدينة حلبجة وكان عمره آنذاك ثماني سنوات، بعد أن هرب مع عائلته ولجأوا إلى الكهوف في الجبال، قبل أن يفرّوا إلى إيران ليعيشوا في مخيمات لجوء.
ويحي العالم سنويا في ٣٠ نوفمبر/ تشرين الثاني اليوم العالمي لإحياء جميع ضحايا الحرب الكيميائية الذي حددته الدورة العشرين لمؤتمر الدول الأطراف في اتفاقية حظر الأسلحة الكيميائية
سعيد تحدث عن "أصدقاء الشعب الكردي" الذين وقفوا إلى جانب الضحايا وعملوا على توثيق ما حدث في حلبجة ومتابعة الملاحقة القانونية لمرتكبي المجزرة. وخصّ بالذكر السيناتور الأميركي الراحل كلايبورن بيل، الذي "كان من أوائل الذين رفعوا الصوت وحذّروا من تمادي نظام صدام حسين في إجرامه".
وتوفي بيل عام 2009؛ ولهذا قام سعيد مع زوجته بالبحث عن مكان دفنه عام 2013، وزارا القبر ووضعا الأزهار عليه كنوع من التحية إلى ذكرى الرجل الذي وقف إلى جانب ضحايا المجزرة الكيميائية و"عمل على إنقاذ آلاف الأرواح" بحسب سعيد.
"صديق آخر للشعب الكردي"، كما أسماه سعيد، هو السيناتور الأميركي كريس فان هولين، الذي كان من أوائل المسؤولين الأميركيين الرسميين الذين يزورون المناطق الكردية على الحدود التركية مع زميله بيتر غالبرايث، وقد شهد الفظاعات المرتكبة بحق الأكراد ووثق لها في 94 قرية كردية.
فان هولين شارك من خلال رسالة مصورة في المؤتمر، بعضاً من الشهادات التي سمعها خلال زيارته تلك إلى مخيمات اللاجئين الأكراد، وأكد على ضرورة التذكير دائماً بهذه المجازر ونقل شهادات الناجين، حتى لا تتكرر في المستقبل.
ممثلة حكومة إقليم كردستان لدى الولايات المتحدة تريفة عزيز، شدّدت بدورها على أهمية الجهود المبذولة من قبل حكومة الإقليم للحصول على اعتراف دولي بأن ما حصل في حلبجة هو "إبادة جماعية"، مشيرة إلى أن خمس دول حتى الآن هي كندا والنرويج وكوريا الجنوبية والسويد والمملكة المتحدة، قد اعترفت بالفعل بالـ"إبادة الجماعية" في حلبجة.
من جهته، قدّم ستيف بيتنر، مدير مكتب شؤون العراق في وزارة الخارجية الأميركية تعازيه نيابة عن الحكومة الأميركية، مؤكداً على أهمية إبقاء الذاكرة حيّة فيما يتعلق بالمأساة، لا لأجل الماضي فقط، بل من أجل الحاضر والمستقبل.
كما شهد المؤتمر جلسة حوارية بعنوان "36 عاماً من السعي وراء المساءلة والعدالة"، شارك فيها مايكل كيلي، وهو حقوقي أميركي صاحب كتاب "أشباح حلبجة: صدام حسين والإبادة الجماعية للأكراد"، بالإضافة إلى محمد إحسان، الوزير السابق لحقوق الإنسان في إقليم كردستان، الذي عمل محققاً دولياً في جرائم الإبادة الجماعية في العراق بين عاميّ 2001 و2005.
وشدد كيلي في مداخلته على ضرورة إجراء مساءلة في مسألة "الإبادة الجماعية"، خصوصاً أن الحكومة العراقية اعترفت بالإبادة، لكنها "فشلت في اتخاذ إجراءات فعالة، ولم تقم بالتعويض على الضحايا وتحمّل مسؤولياتها".
من جهته أعرب إحسان عن خشيته من أن الإبادة الجماعية بحق الأكراد يمكن أن تتكرر في المستقبل، معللاً تشاؤمه بما يشهده من خطاب كراهية وعنصرية على مواقع التواصل الاجتماعي بحق الأكراد، فضلاً عن تعامل الحكومة المركزية مع الإقليم، معرّجاً على أزمة الرواتب والنفط، معتبراً أن بعض الأطراف المسيطرة في العراق اليوم قد تكون "أسوأ من صدام حسين".