وجوه ذكورية متجهمة تتجمهر بانتظار الولادة، هي افتتاحية مسلسل "ع أمل" الذي يُعرض في موسم رمضان الحالي، ليعكس مكانة المرأة في بعض زوايا المجتمع اللبناني.
لا يبالي المترقبون على باب الغرفة بآلام المخاض بقدر رغبتهم بمعرفة جنس المولود، ثم تعلو وجوه السيدات في الداخل نظرة الخيبة مع صرخة المولود، ويدوي السؤال "إيش جابت صبي؟" لتخفت الأصوات مع إجابة "بنت".
هذا المشهد الذي قد يبدو صادما خصوصاً أنه يعكس بيئة من داخل لبنان المعروف بشكل عام في انفتاحه وبمكانة المرأة فيه على مختلف المستويات، يأتي ليعرّي جانباً من الواقع الأليم بأن هناك أيضاً نساء لبنانيات ما زلن أسيرات التمييز الجندري حتى في عام 2024.
يجمع المسلسل بين ممثلين لبنانيين وعرب،مظهراً شبكة علاقات معقدة بين الرجال والنساء، في واقع يشهد تزايداً في العنف ضد المرأة بأشكال متعددة، كجرائم القتل والتعنيف الجسدي واللفظي والتحرش الجنسي وغير ذلك.
يضاف إلى ذلك تحديداً للصحافيات، كما في المسلسل، حيث تلعب الفنانة اللبنانية ماغي بو غصن دور الإعلامية "يسار" التي تخصص برنامجها لتمكين المرأة ومساعدتها على حل مشاكلها، وتعرض لقضية مقتل إحدى السيدات على يد زوجها لأنها تجرأت على البوح بحقيقة تعرضها للأذى.
يعرض المسلسل ثلاثة صور للنساء بشكل عابر للأجيال: المرأة المعنفة (الدمية)، المرأة المنتفضة (صاحبة القناع) والمرأة المتحررة (الجيل الشاب).
المرأة المعنفة (الدمية)
يختزل وجود المرأة في المجتمعات الذكورية التي تلغيها على خلفية جنسها البيولوجي، بدور جندري نمطي يجعلها أقرب للدمية أو "صرماية ما منجيب سيرتها" (الحذاء الذي لا نرد على ذكره- كما ورد في الحلقة 8 من المسلسل) التي يتلاعب بها من يمتلكها.
يظهر هذا الشيء جليا في مسلسل "ع أمل" منذ التتر وفي الإعلان التشويقي للمسلسل حيث تقدم "يسار" بلباس الدمية بين دمى أخرى محطمة يتقاذفها الذكور بشكل يعكس تقاذف المسؤوليات والسلطة حسب المسؤول عنها وفقاً لتقسيم الأدوار.
ويظهر الرجال معدومي التعابير والمشاعر إزاء الألم الذي يلحق بها مع رميها على الأرض، فيشيحون برؤوسهم ويديرون ظهورهم ويتركونها مضرجة بالدماء.
تعيش هذه المرأة دوامة الرعب اللفظي والمعنوي بشكل كبير في المسلسل الدرامي الذي يخصص مشاهد للحظات حادة وعنيفة: تعرض الزوجة وضرّتها (شريكتها في الرجل) للضرب على حد سواء بالسوط من الزوج والأخ بالتناوب، بالتوازي مع التعنيف اللفظي ("يا صرامي" أي أحذية باللهجة الدارجة).
وتغرق المرأة في هذا المجتمع الذي يقتصر فيه دورها على خدمة الزوج والقيام بالواجبات المنزلية والإنجاب وإلا يصار إلى إحضار بديل عنها. يقوم سيف بالزواج ثلاث مرات (حتى الحلقة السابعة)، من أجل الظفر بمولود ذكر.
كما أن خصوصية المرأة تنتهك بشكل مرعب، حيث يقوم رجل في الحلقة الثانية بالكشف على منديل عليه بقع من الدماء للتأكد من فقدان عذرية ابنته أمام الجميع.
وتنضم المرأة نفسها لدوامة الانتهاك هذه حيث لا تتوانى عن التسبب بالأذى لابنة جنسها. فتغني مثلا إحداهن: "آويها ويلا اعطونا شرف العلامة"، بمعنى "أرونا علامة الدم التي تثبت شرفنا" (الحلقة 2)، وتأتي الزوجة الثالثة لتغيظ الزوجة الثانية لأنها لم تنجب إلا الإناث.
تفتقر المرأة في مثل هذا المجتمع للحرية ولا تقرر حتى هوية من تستطيع الزواج به، وهكذا يتزوج "سيف" الذي يؤدي دوره الفنان اللبناني عمار شلق، بمن كانت تتمنى الزواج بأخيه عملا بالعرف الذي يمنع الفتاة من الزواج قبل أختها الأكبر سناً، وتتكرر الحادثة مع ابنته التي تجبر بدورها على الزواج من ابن عمها علماً أن علاقة حب تربطه بأختها، أو في مشهد آخر بإجبار الفتاة الصغرى على البقاء عزباء من أجل "الاهتمام بأهلها عند الكبر".
المرأة المنتفضة (صاحبة القناع)
بينما ترضخ المرأة الدمية لواقعها، يمنح المسلسل المساحة الأكبر للمرأة المنتفضة (دور البطلة)، لكن هذه المرأة لا تتحرر تماما وتجبر على ارتداء قناع القوة على الرغم من أن الاضطرابات التي عاشتها في الماضي تؤرقها.
يتجلى ذلك في شخصية "يسار" التي تصنع قناعا جديدا فتتحول من الزوجة المطيعة إلى المذيعة "النموذج" التي ترفع صوت المرأة وتعدها بالمساعدة، كما تدين الممارسات الذكورية.
يسألها سيف في أحد المشاهد "لماذا تكرهين الرجال؟" فتجيب في مشهد آخر بأن "مشكلتها هي مع التصرفات وليس مع الجنس".
الصدمات التي تعيشها هذه المرأة لا تغادرها وهذا ما يسلط الضوء على تبعات العنف على المستوى النفسي. ففي المسلسل، تعرضت "يسار" لمحاولة قتل على يد أخيها لأنها لم تطع زوجها وتعرضت للتشويه وتم رميها من أعلى جرف، في تمثيل مرعب لجرائم القتل التي تتعرض لها النساء في لبنان (من خلال مثال حنان التي يقتلها زوجها والتي تصبح قضيتها قضية رأي عام في المسلسل).
وكانت جمعية "كفى" اللبنانية وثقت مقتل 6 نساء في لبنان خلال يناير وفبراير من العام الحالي، آخرهن زينب زعيتر.
وتترجم هذه الصدمة بمشهد متشنج حيث تحاول "يسار" في كابوس تراه، قتل ابنتها عن طريق خنقها بالمخدة لتوفر عليها حياة الشقاء، وتنتهي بتركها مجبرة، وتحاول في الحلقات التالية التصالح مع هذا الماضي ثم يأتي رجل حكيم يدعوها لتنتفض و"تخلصها" بعد 25 عاماً من الفراق.
ويفرق القناع في الدراما بين شخصيتي "سهاد" و"يسار" المتناقضتين، فالأولى هي التي تعرضت للاضطهاد وللقتل، والثانية هي القوية التي تخرج للضوء أمام ملايين المشاهدين داعيةً لتحرير المرأة.
ولكن في الصميم، يطرح السؤال حول القدرة على التصالح بين الشخصيتين، وهذا ما يسجن المرأة في دوامة الصراع ويحرمها من القدرة حتى على دخول علاقة سوية مع الآخر الداعم "جلال" الذي يؤدي دوره الفنان اللبناني بديع أبو شقرا.
في سياق متصل، يعيد الدور الذي تلعبه بطلة المسلسل إلى الأذهان قضية متفرعة هي العنف ضد الصحافيات في لبنان. فالبطلة هي صحافية تتوجه منذ الحلقة الأولى تعرضها للضغط وإدانة "ملكيتها" للمنتج أو لصاحب المحطة، للدرجة التي لا تمتلك فيها الحق بالاستقالة عندما تشعر أن عملها تصادم مع قناعاتها.
يتقاطع ذلك مع النتائج الصاعقة التي توصلت إليها دراسة أجراها فريق مؤسسة سمير قصير، في يناير الماضي وخلصت إلى أنه "على الرغم من الجهود المبذولة لمعالجة مسائل مثل التحرّش الجنسي والمعاملة غير المتساوية، لا يزال هناك نقص واسع النطاق في آليات المساءلة والدعم وعقبات مثل قدرة الصحافيات المحدودة والافتقار إلى سُبل انتصاف فعّالة لمعالجة التحرّش وإساءة استخدام السلطة".
المرأة المتحررة (الجيل الشاب)
أما الصورة الثالثة للمرأة فهي المرأة المتحررة بشكل واضح من خلال منحها الصوت، فهي التي تؤمن بالعلم كخشبة للخلاص من السلطة الأبوية الصارمة ومن السجن الكبير الذي تمثله القرية.
وفي المسلسل، كانت هذه المرأة هي المغنية الشابة التي تقف على المنبر ولا يثنيها ماضي والدتها أو إرث عائلتها عن إدانة الذكورية المفرطة بشكل ساخر، تلعب دورها المغنية ماريلين نعمان.
تتناول الفنانة في قالب كوميدي مأساة تحجيم المرأة وإخضاع كيانها للتقييم الذي يمنحه الرجل، في أحد المشاهد تقول "لما تفضالنا تبقى اعطينا رأيك وتقييمك فينا.. إن شاء الله كل شي ع ذوقك والخدمة سريعة". ويرتبط تقييم الرجل "للزوجة الصالحة والمطيعة" بمهام "مصيرية" كـ"جلي الصحون وكي القميص وترتيب السرير".
أخيرا، تتردد في كل حلقة عبارة "أنت الحياة شاء من شاء وأبى من أبى"، أحيانا أكثر من مرة على لسان "يسار" تارة بإصرار وأخرى بطريقة روتينية، لتؤكد على أن المشكلة لم تحل بعد وعلى أن النضال مستمر.