في ظل طفرة الذكاء الاصطناعي والسباق المتسارع لدمجه في مختلف المجالات والتقنيات، يدور نقاش اليوم حول مساهمة التقنيات الجديدة في تعميق الفجوة بين المجتمعات، الأمر الذي قد يلحق الضرر بالفئات الأقل حظاً والمهمشة أساساً، وربما يخلق معه نوعاً جديداً من التهميش وهو عدم القدرة على الوصول للمعلومات والتقنيات المحدّثة باستمرار.
في يونيو الماضي، وقّع العشرات من قادة صناعة الذكاء الاصطناعي والأكاديميين وغيرهم على بيان دعا إلى "وضع التخفيف من خطر الانقراض من الذكاء الاصطناعي، كأولوية عالمية".
كما دعت النائبة في الكونغرس الأميركي أيانا بريسلي إلى معالجة ما اعتبرته "مخاطر الذكاء الاصطناعي" وتحديدا على المجتمعات المهمشة، محذرة من أن "خوارزميات الذكاء الاصطناعي المدربة على بيانات منحرفة أو غير دقيقة أو غير تمثيلية تؤدي إلى تضخيم التحيزات البشرية، وتؤدي إلى نتائج تمييزية".
بالتالي "يجب تحمّل مسؤولية بناء حماية موثوقة للجميع، خاصة المجتمعات المستضعفة"، وفق تعبير بريسلي.
يقول كريستوف الزغبي، وهو المؤسس والرئيس التنفيذي لشركة "ZAKA" التكنولوجية اللبنانية، إن "موضوع التزويد بالبيانات غاية في الأهمية، حيث تُعد مسألة التحيز في البيانات المستخدمة لتدريب نماذج الذكاء الاصطناعي مشكلة كبيرة تواجه العديد من القطاعات".
"وعندما تحتوي مجموعات البيانات على تحيزات، فإن النماذج المبنية عليها تميل إلى إعادة إنتاج التحيزات أو حتى تعميقها. وهذا يمكن أن يؤدي إلى نتائج غير عادلة في كيفية تقديم الخدمات أو اتخاذ القرارات، مما يؤثر سلباً على الأفراد والمجتمعات المتأثرة بهذا التحيّز"، يضيف الزغبي لـ"ارفع صوتك".
وتقع على عاتق هؤلاء المطورين مسؤولية ضمان التمثيل الشامل لكل المجتمعات وتحديدا المهمشة في البرمجة، يتابع الزغبي "يمكن للذكاء الاصطناعي أن يعمّق الهوة بين المجتمعات المهمشة وغيرها إذا لم يتم تطبيقه بطريقة شاملة وعادلة. فإذا كانت البيانات المستخدمة في تدريب نماذج الذكاء الاصطناعي متحيزة أو غير ممثلة بشكل كافٍ لهذه المجتمعات، فإن النتائج ستكون متحيزة أيضاً، ما يؤدي لتفاقم التمييز القائم. بالإضافة إلى ذلك، قد تكون هناك حواجز تقنية ومالية تحول دون وصول هذه المجتمعات إلى فوائد الذكاء الاصطناعي".
"عدم الأمان"
في السياق نفسه، يرى الدكتور محمد ضاهر، وهو أستاذ محاضر في جامعة "بيروت العربية" وباحث في مجال الذكاء الاصطناعي والأمن السيبراني، أن تأثير الذكاء الاصطناعي على المجتمعات المهمشة قد يكون "معقدًا"، إذ يرتبط ببُعدين رئيسيين، هما "الوصول إلى المعلومات وحماية البيانات".
يشرح ضاهر لـ"ارفع صوتك": "على مستوى محدودية الوصول إلى المعلومات، هناك فجوة رقمية كبيرة حيث تفتقر العديد من المجتمعات المهمشة للبنية التحتية اللازمة للوصول إلى الإنترنت وأجهزة الكمبيوتر، ناهيك عن المهارات الرقمية اللازمة لاستخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي، وهنا تبرز أهمية اللغة حيث قد لا تكون المعلومات المتاحة متوفرة بلغات يفهمها أفراد هذه المجتمعات، ما يُعيق قدرتهم على الاستفادة منها".
ولا ينكر الأكاديمي اللبناني ما يجري الحديث عنه من تحيّز الخوارزميات حتى على مستوى الوصول للمعلومات، مردفاً "قد تكون خوارزميات الذكاء الاصطناعي متحيّزة ضد بعض المجتمعات، ما يُؤدي إلى تقييد وصولهم للمعلومات ذات الصلة باحتياجاتهم".
أما على مستوى حماية البيانات، فيربط ضاهر الآثار بعملية جمع المعلومات واستغلال هذه الأخيرة وقلة التحكم بها، مضيفاً: "تُجمع كميات هائلة من البيانات عن الأفراد من خلال تقنيات الذكاء الاصطناعي، وهذا يُثير مخاوف بشأن الخصوصية، تحديداً بالنسبة للمجتمعات المهمشة التي قد تكون أكثر عرضة للمراقبة وإساءة استخدام البيانات. وقد تُستخدم بيانات المجتمعات المهمشة دون موافقتهم أو علمهم، الأمر الذي يعرضهم لخطر الاستغلال والتلاعب".
"بالإضافة إلى ذلك، قد تفتقر هذه المجتمعات إلى القدرة على التحكم في كيفية جمع بياناتها واستخدامها، ما يُؤدي إلى شعورها بعدم الأمان وفقدان السيطرة"، يتابع ضاهر.
كيف يمكن تفادي التهميش؟
يسطر الوضع الحالي ضرورة التحرك على أكثر من مستوى من أجل ضمان استفادة كل المجتمعات من الذكاء الاصطناعي بدلاً من تهميش المهمشين بشكل أكبر أو خلق مهمشين جدد.
يعلق د. ضاهر في هذا السياق مشددا على أهمية "التعاون بين الحكومات والمنظمات والمجتمعات المدنية، لضمان استخدام عادل لتقنيات الذكاء الاصطناعي يُسهم في تمكين هذه المجتمعات وتحسين حياتها".
ويطرح من ضمن الحلول التي قد تخفف من المخاطر وتعظّم الفوائد "ضمان الوصول الشامل؛ أي العمل على سد الفجوة الرقمية من خلال توفير البنية التحتية والتدريب اللازمين لأفراد المجتمعات المهمشة، وترجمة المحتوى والمعلومات والخدمات المتاحة بلغات يفهمها أفراد هذه المجتمعات، وتطوير خوارزميات ذكاء اصطناعي عادلة وغير متحيزة".
تضاف إلى ذلك "الشفافية والمساءلة في جمع البيانات واستخدامها مع إتاحة الوصول لهذه المعلومات للمجتمعات المهمشة ومنحها القدرة على التحكم في كيفية استخدام بياناتها. وأخيراً، تعزيز الحماية القانونية لبيانات المجتمعات المهمشة من الاستغلال وإساءة الاستخدام"، بحسب ضاهر.
من جهته، يقول كريستوف الزغبي إن "الوعي المستمر وجهود العلماء والمطورين ضرورية للغاية لمعالجة هذه القضايا وضمان أن تكون تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي أداة للتقدم الإيجابي لا أن تصبح مصدرًا لتعميق الانقسامات الاجتماعية".
يضيف "هذا يعني الاستخدام الأخلاقي والمدروس لتقنيات الذكاء الاصطناعي ووضع السياسات الحكومية والمؤسسية التي تضمن توزيع فوائد الذكاء الاصطناعي بشكل عادل وشامل في جميع القطاعات، والمبادرة بجهود تخفف من التهميش، مثل تخصيص الموارد التعليمية بناءً على احتياجات الطلاب الفردية، أو تحليل بيانات الصحة العامة لتحديد ومعالجة الأمراض بشكل استباقي في المجتمعات المحرومة".