أعاد النقاش حول قانون الأحوال الشخصية في العراق إلى الواجهة، الظروف الاجتماعية والسياسية التي أدت إلى صدور القانون المعمول به حالياً في عام 1959، خصوصاً بعد المطالبة بتعديله من قبل نوّاب من كتل سنيّة وشيعية في البرلمان.
وجاء قانون الأحوال الشخصية حين إقراره في منتصف القرن الماضي "انعكاساً للروح الإصلاحية للطبقة الحاكمة بعد الإطاحة بالملكية، متوخياً إعطاء النساء حقوقهن القانونية والاستقلال العائلي"، كما يقول المستعرب والكاتب البريطاني المتخصص في القانون جايمس نورمان أندرسون، في ما كتبه حول العراق.
ويرى أندرسون أنه "مثّل تضحية كبرى بالمبادئ الطائفية على مذبح الوحدة الوطنية"، أي أن القانون كان هدفه الجمع بين العراقيين ومحاولة خلق توازن في علاقة القانون بجميع المكونات الطائفية والإثنية العراقية.
ويضع المؤرخ الأميركي وأستاذ التاريخ في جامعة بنسلفانيا جون روبرتسون في كتابه "تاريخ العراق" هذا التحول في خانة ترويج نظام عبد الكريم قاسم للأفكار اليسارية والعلمانية، وتقرّبه من الشيوعيين.
وقد أدى قانون الأحوال الشخصية الذي "صُمّم لتحسين الحقوق القانونية للمرأة وإعلاء وضعها الإجتماعي.." إلى "استياء المحافظين الدينيين وأبرزهم رجال الدين الشيعة"، بحسب روبرتسون.
ويشكّل موضوع حقوق المرأة معياراً أساسياً بحسب الباحثين، لتقييم قانون ما، إذا ما كان عصرياً أو رجعياً. فـ"الانتهاك الأساسي لمبدأ المساواة بين المرأة والرجل في العالم العربي، يبرز في مجال الأحوال الشخصية المستقاة من التشريعات الدينية"، كما يحاجج الباحث نائل جرجس في دراسته "حقوق المرأة المسيحية في دول المشرق العربي والصكوك الدولية لحقوق الإنسان".
ويتابع "تتعرّض المرأة بموجب منظومة الأحوال الشخصية، بما فيها الإسلامية والمسيحية، للعديد من أوجه التمييز مثل: إمكانية تعدد الزوجات عند المسلمين، وسهولة تطليق الرجل المسلم لزوجته، وعدم مساواتها في الميراث".
من هنا، كان قانون الأحوال الشخصية المعمول به حالياً في العراق، كما يتفق كثير من المؤرخين والباحثين "ثورياً" و"سابقاً لعصره".
بحسب المؤرخ وأستاذ العلوم السياسية في جامعة "ميامي" الأميركية عضيد داوشيه "كان هذا القانون ثورياً بالفعل، ليس فقط بالنسبة إلى العراق، بل إلى العالم الإسلامي ككل".
ويفنّد في كتابه "العراق: تاريخ سياسي من الاستقلال إلى الاحتلال"، الأسباب وراء ميزة هذا القانون. مما جاء فيه، أن القانون "جرّم زواج القاصرات وتعدّد الزوجات، وعزّز من حقوق الزوجة والحماية لها في حال الطلاق".
من عناصر اختلاف القانون عن الشريعة أيضاً "جعل شهادة المرأة في المحكمة مثل شهادة الرجل"، كما يقول داوشيه، مشيراً إلى أن هذا القانون "يجري على الشيعة والسنة".
ولا يستغرب أن يكون القانون قد لاقى معارضة شديدة في حينه بين أوساط رجال الدين المسلمين، خصوصاً رجال الدين الشيعة. وظلت هذه المعارضة حاضرة حتى زمن حزب البعث، ويبدو أنها مستمرة حتى اليوم.
في بداية حكم صدام حسين، اهتم باستمالة شيعة العراق فوعد بإعادة النظر في قانون الأحوال الشخصية بجعله خاضعاً لتفسير المحاكم المذهبية، كما يقول المؤرخ كمال ديب في كتابه "موجز تاريخ العراق".
لكن العلاقة بين صدّام والشيعة توتّرت، بعد أن اتهم قادة الشيعة النظام البعثي بأنه "يلهج بالعلمانية"، ولكن "ثلثيّ أعضاء مجلس قيادة الثورة كانوا من السنّة التكريتيين في بلد شكّل فيه الشيعة أغلبية السكان"، يضيف ديب.
يكمل "بدلاً من إلغاء قانون الأحوال الشخصية، قام صدّام باستفزاز الشيعة، عن طريق تقويته ومنح المرأة حقوقاً إضافية ومنع الرجال من تعدّد الزوجات".
من جهته، أورد الباحث حازم صاغية في كتابه "بعث العراق: سلطة صدّام قياماً وحطاماً"، أن هذه التغييرات قادها ونظّمها "الاتحاد النسائي البعثي تحت صورتيّ أحمد حسن البكر وصدّام حسين".
وبسبب هذه التغييرات "وُضعت المرأة العراقية بين التحديث الحديدي والأبوية الذكورية"، وفق تعبير صاغية، بينما كانت القاعدة التي يعتمدها حزب البعث في هذا المجال هي "إعطاء حريات مجتمعية مرهونة بسطوة سياسية صارمة، فيستطيع المجتمع أن يفعل ما عنّ له شريطة أن لا يمسّ الأمن والجيش والسياسة ولا يهمس من وراء ظهر الحاكم".
في كتابها "مدينة الأرامل: المرأة العراقية في مسيرة التحرير"، تبيّن هيفاء زنكنة أن مشاركة النساء في النضال الوطني في تلك الفترة أثمرت، و"منح قانون الأحوال الشخصية الصادر سنة 1959 المرأة حقوقاً مساوية على صعد عدة، ووضع مجموعة منسجمة من القوانين التي تحكم الأسرة والحياة الزوجية. وكان في هذا الشأن أكثر قوانين الأسرة تقدماً في المنطقة، حيث أنه منح المرأة حقوقاً أكبر في مجالات مثل الوراثة، وحدّ من تعدّد الزوجات".
في تلك الفترة أيضاً، كما تشير زنكنة، جرى تعيين نزيهة الديلمي (1923- 2007)، رئيسة رابطة الدفاع عن حقوق المرأة، وزيرة. فكانت أول وزيرة في تاريخ العراق الحديث. كما كان لها دور كبير في صياغة وإصدار قانون الأحوال الشخصية لعام 1959.
لكن وزارة الدليمي لم تدم طويلاً بعد أن وقع الخلاف بين عبد الكريم قاسم والشيوعيين، فأصبحت وزيرة بلا حقيبة.
إلا أن القانون الذي أُقرّ لإنصاف المرأة، صمد حتى أيامنا هذه، ليخضع العام الحالي 2024 لاحتمالات التعديل، وإعادة الزمن إلى ما قبل 1959.