عروض فنية خلال افتتاح المركز الثقافي الجديد بمدينة الرقة 1 أيار/مايو 2019
عروض فنية خلال افتتاح المركز الثقافي الجديد بمدينة الرقة 1 أيار/مايو 2019

"لم نكن نصدق بأن نعود في يوم من الأيام بعد كل الدمار الذي نكبت به المدينة ليكون لدينا مركزا ومكتبة ومسرحا وموسيقى"، يقول زياد الحمد معبرا عن فرحته بالمركز الذي يرأسه في مدينة الرقة.

وافتتحت مدينة الرقة في نيسان/أبريل مركزها الثقافي الجديد ليكون بديلا عن أكثر من 20 مركزا آخر كان تنظيم داعش قد دمرها أو أغلقها أثناء سيطرته على المدينة التي كانت تشكل معقله الأبرز في سوريا قبل طرده منها في تشرين الأول/أكتوبر العام 2017.

وكان أحد أكبر المراكز الثقافية في الرقة يحوي مكتبة ضخمة تضم أكثر من 60 ألف كتاب، إلا أن المتطرفين لم يتركوا منه سوى ركام بعد إحراق كافة محتوياته ثم تدميره.

يقول الحمد (64 عاما)، إن "الكتب التي ترونها اليوم أخرجناها من تحت ركام أماكن كثيرة، وبعض الأشخاص احتفظوا بالكتب في المراكز الثقافية في الريف وأخفوها بعيدا عن داعش، وأعادوها إلينا بعد تحرير المدينة".

وللمرة الأولى منذ العام 2014، يستطيع الفنانون عرض رسوماتهم أو منحوتاتهم من دون خوف من الاعتقال والملاحقة، ويستطيع محبو الفن التجول بين المعارض المختلفة في المركز الثقافي، حضور مسرحياته أو الاستعانة بمكتبه من دون خشية.

عروض فنية خلال افتتاح المركز الثقافي الجديد بمدينة الرقة 1 أيار/مايو 2019

​​​من الظلام إلى النور

تتجول فوزية الشيخ (30 عاما)، بين غرف المركز خلال مشاركتها في حفل افتتاحه. وتقول "إنه شعور بالسعادة لا يوصف".

وتقول "انتقلنا من الدمار، ولا ثقافة ولا فن إلى مركز سنسمع فيه الموسيقى والشهر، إننا ننتقل من الظلام إلى النور".

واختار مجلس الرقة المدني مبنى متضررا نسبيا وأعاد ترميمه ليكون مقرا لـ"مركز الرقة للثقافة والفنون". 

ويتألف المبنى من طابقين، الأول يضم قاعة المسرح وصالة معرض للرسومات والمنحونات ومكاتب مخصصة لأقسام أخرى، أمام الطابق الثاني فيضم المكتبة الكبيرة برفوفها المليئة بالكتب، وإن كان بعضها لا يزال ينتظر ملأه.

استعراض بعض الأعمال الفنية في المركز الثقافي الجديد بمدينة الرقة 1 أيار/مايو 2019

​​في المسرح، يختلط قرع الطبل وأنغام الربابة مع أصوات رجال يرددون الأغاني التقليدية الآتية من منطقة شرق الفرات، فيما يرقص أمامهم فتيان بعباءات رمادية مع فتيات يتألقنّ بعباءات تقليدية مزركشة باللون الذهبي.

في قاعة المعرض، منحوتة تظهر إمرأة ترضع طفلها وأخرى لرجل ينحني أرضا، فيما تتنوع اللوحات التي تملأ الجدران بين مشاهد طبيعية ملونة لبحر أزرق اللون أو جبل يغطيه الثلج أو آخر أخضر تماما، وأخرى باللونين الأبيض والأسود لفتاة مبتسمة أو إمرأة يتدلى شعرها فوق كتفيها، أو حتى لقدم تمشي.

"ولادة جديدة"

بعض هذه اللوحات موقعة باسم أمل العطار (37 عاما)، الفنانة التشكيلية التي اختارت العودة إلى الرقة بعد سنوات من اللجوء في لبنان. وتقول العطار لفرانس برس "بالنسبة لنا المركز هو عبارة عن ولادة جديدة في الرقة".

قد لا تنسى العطار ما عانته خلال فترة سيطرة التنظيم المتطرف على مدينتها، لكنها تبدو واثقة من قدرة المدينة على التعافي.

قبل سنوات، دخل المتطرفون إلى مرسم العطار الذي كانت تتشاركه مع فنانين آخرين، وأبلغوهم أن ما يقومون به "حرام" ويجب طلب التوبة، فما كان منها سوى أن جمعت أغراضها وغادرت المدينة.

أمل العطار أمام منحوتة خلال افتتاح المركز الثقافي الجديد بمدينة الرقة 1 أيار/مايو 2019

​​وتقول "كان لدي 50 عملا معظمهم يتعلق بتراث الرقة، وقد أحرقها داعش".

وفي 23 من آذار/مارس، أعلنت قوات سوريا الديمقراطية القضاء على "خلافة" تنظيم داعش بعد طرده بدعم من التحالف الدولي بقيادة أميركية من جيبه الأخير في بلدة الباغوز في أقصى الشرق السوري.

لكن خطر التنظيم المتطرف لم ينته، إذ لا يزال ينشط عبر خلايا نائمة تنتشر من دير الزور إلى الرقة، فضلا عن مقاتلين منتشرين في مناطق صحراوية نائية.

وشنّ التنظيم المتطرف اعتداءات عدة في مدينة الرقة بعد طرده منها، وهي التي لا تزال آثار المعارك العنيفة من دمار وفوضى تطغى عليها برغم عودة عشرات آلاف السكان إليها.

عروض فنية خلال افتتاح المركز الثقافي الجديد بمدينة الرقة 1 أيار/مايو 2019

​​برغم الذكريات السيئة التي طبعها المتطرفون في ذاكرته، ترتسم على وجه المغني الشعبي ملك اليتيم (60 عاما) ابتسامة واسعة وهو يتنقل بين كراسي مسرح مركز الرقة الثقافي الحمراء اللون.

ويقول اليتيم إن مقاتلي "داعش كسروا أجهزتي الموسيقية، ومنعوني من الغناء، كنا مثل البلبل في القفص، إذا قمنا بأي شيء، إما يقطعوا رؤوسنا أو يكون الجلد من نصيبنا".

ويضيف الرجل الذي وضع كوفية بيضاء على رأسه وارتدى عباءة غامقة اللون "الآن أشعر وكأني طير يحلق في السماء، والسما صافية والجو ربيع".

مواضيع ذات صلة:

قطار خاص بنقل السياح في محيط العاصمة السورية دمشق- أرشيف 2015
قطار خاص بنقل السياح في محيط العاصمة السورية دمشق- أرشيف 2015

في يناير من العام الجاري، أصدرت وزارة السياحة في حكومة النظام السوري، بياناً قالت فيه، إن أكثر من 2.17 مليون سائح من جنسيات عربية وأجنبية، زاروا المناطق الخاضعة لسيطرة النظام خلال عام 2023.

وهذه الأرقام بلغة المال، حققت نحو 125 مليار ليرة سورية، بنسبة ارتفاع وصلت إلى 120% عن عام 2022، بحسب بيان الوزارة.

والكثير من هؤلاء السياح، وفق مصادر إعلامية محلية وغربية، تستهويهم فكرة السفر إلى دول تعاني من الحروب والأزمات أو الدمار، بدافع الفضول وأحياناً محاولة كسر الصورة النمطية، التي تصم العديد من الدول بأنها "غير آمنة" و"خطرة جداً" أو يتم التحذير من السفر إليها تحت مختلف الظروف.

عام 2016، نشر موقع "ميدل إيست آي" تقريراً يشرح عن هذا النوع من السياحة، الذي أسماه بـ"السياحة المتطرّفة"، مشيراً إلى وجود رغبة لدى العديد من السيّاح الغربيين باستكشاف مغامرات جديد، عبر زيارة المواقع التي دمّرتها الحرب وحوّلتها إلى أنقاض.

وتناول سوريا كأحد النماذج، باعتبارها وجهة للكثير من السياح الغربيّين، الذين يدخلونها "تهريباً" عبر لبنان بمساعدة سائقين وأدلّاء، بهدف الوصول إلى أماكن طالتها الحرب وغيّرت معالمها، دون اللجوء إلى دخول البلاد بشكل قانوني.

وهناك شركة سياحية تروّج لزبائنها أنها ستقدم لهم "تجارب مختلفة من السفر والاستكشاف في مناطق ليست تقليدية للسياحة"، وتطرح إعلانات للسياحة في اليمن والصومال وسوريا والعراق وأفغانستان، تحت عنوان "السفر المُغامر"، لاجتذاب شريحة خاصة من عشاق وهواة هذه التجارب المثيرة للجدل.

"سياحة الدمار" صارت تمثل للراغبين في زيارة سوريا "بديلاً" عن زيارة المناطق الأثرية التقليدية التي كانت أكثر جذباً قبل اندلاع الحرب الأهلية، خصوصاً أن العديد منها تعرض لأضرار ودمار دون أن يتم ترميمه وإعماره وتهيئته لاستقبال السياح لاحقاً، كما أن الوصول لبعضها بات شبه مستحيل.

ترويج للنظام أم إدانة له؟

برأي الصحافي الاستقصائي السوري مختار الإبراهيم، فإن "مشاهدة مناظر الدمار ومواقع الخراب السوري بغرض السياحة، تعكس استخفافاً كبيراً بآلام الضحايا ومآسي ملايين السوريين الذين تضرّروا جرّاء الحرب".

ويقول لـ"ارفع صوتك": "زيارة سوريا بغرض السياحة بشكل عام تُقدّم خدمة كبيرة للنظام السوري من حيث الترويج لسرديات انتصاره في الحرب، وعودة سوريا إلى ما كانت عليه".

"فالنظام السوري مستعد أن يبذل الكثير في سبيل الترويج للسياحة في مناطقه، فما بالك أن يأتي السياح ويرفدوا خزينته على حساب كارثة عاشها ملايين السوريين!"، يتابع الإبراهيم.   

ويحمّل قسماً كبيراً من المسؤولية لبعض المؤثرين على "يوتيوب" و"تيك توك"، الذين "روّجوا خلال السنوات الماضية للسياحة في سوريا وإظهار أنها آمنة عبر عدسات كاميراتهم، لحصد المشاهدات" وفق تعبيره.

من جانبه، يقو الصحافي السوري أحمد المحمد: "على الرغم من أن سياحة الموت تخدم النظام من جهة ترويج أن مناطقه باتت آمنة لعودة السيّاح، إلا أنها تُدينه أيضاً". 

ويوضح لـ"ارفع صوتك" أن "مشاهدة مناظر الدمار بغرض السياحة يُمثّل توثيقاً حيادياً للتدمير الذي أحدثته آلة النظام العسكرية في البلاد".

وطالما تعرضت مصادر المعارضة السورية في توثيق الدمار للتشكيك من قبل النظام نفسه، بحسب المحمد، مردفاً "تم اتهامهم بالفبركة الإعلامية، بينما منع النظام خلال السنوات الماضية وسائل الإعلام الأجنبية من التغطية الحرّة لمجريات".

في النهاية، يتابع المحمد "مهما بذل النظام من جهود ترويجية حول عودة مناطقه آمنة، فإن واقع الحرب السوري أكبر من الترويج بكثير، لا سيما أننا في كل فترة قصيرة، نسمع عن حالات اختطاف لسيّاح قدموا للترفيه فوق معاناة السوريين".