أهتم شخصياً بألّا يتزامن موعد التخييم في أي متنزّه طبيعي أميركي مع موعد دورتي الشهرية، رغم أن أقصى مدة تخييم قضيتها كانت أربع ليالٍ، بينما المتفرقات ليلة واحدة، ورغم وجود حمامات ثابتة نظيفة غير مختلطة بين الذكور والإناث، في مواقع التخييم، لا تنقصها الإضاءة أو وسائل النظافة مثل الماء والصابون والمناديل الورقية.
لكن فاطمة (14 عاماً) تعيش هذه التجربة كلّ شهر منذ عامين، وهي التي قضت سنوات عديدة في مخيم متنقل، عشوائي، قرب الحدود السورية- الأردنية، مع عائلتها.
وتروي فاطمة وهي لاجئة سورية، الأثر الصعب لهذه الأيام المعدودة من كل شهر في حياتها داخل المخيّم، كما لا تنسى وجع صديقاتها العاملات معها في أحد المشاتل الأردنية.
"أكره ما عليّ الشغلة هاي، بتكرّه الواحد عيشته.. عيب وحرام وبتخجلي" تقول فاطمة عن الدورة الشهرية، خصوصاً إذا أتتها أثناء العمل، وتتذكر ابنة عمّها حين فاجأتها الدورة في العمل وخافت كثيراً إذا تقاعست أن تتعرض للضرب، وهو ما يحدث للفتيات عادة إذا لم يؤدين عملهن وفق المطلوب.
وتضيف "الدخول للحمام صعب، الحمام في سوريا له قفل ومفتاح، الحمام هنا له ستار فقط.. المشكلة هوني في شباب، هناك بناخد راحتنا فيه".
"بنضل قويين بس عم نتعب"
صوت فاطمة هادئ جداً، ببحّة خفيفة، ربما تشعر كمشاهد للفيلم الذي يعرض حكايتها واسمه باسمها، أن أقصى تعبيرٍ عن غضبها وقسوة الحياة التي تعيشها، هو مجرّد قوله، وبطريقتها.
تذكّرني ببطلة فيلم "روما" كلوي، التي كان تخفي خلف طواعيتها وصمتها وإذعانها للواقع والصخب الذي يحيطها، غضباً ووجعاً شديداً، وهو ما جعلها تستمتع بأبسط الأشياء، مثل أن تستلقي على ظهرها وتنظر للسماء لدقائق معدودة متظاهرة بالموت.
وفاطمة ترى المخيم "جميلاً" لأن لها فيه صديقات. لكنها تحنّ لسوريا التي تعتبرها ضيعتها (قريتها)، إذ عاشت فيها طفولتها المبكّرة، وهي مرتبطة بأمها التي توفيت هناك، لتصبح هي الأم في المخيم، تعمل وتنظف وتطبخ وتهتم بإخوتها الصغار.
أسوأ سيناريو لدى فاطمة "الفراق"، فهي تصبر على حياتها وتطيع الأوامر وتتكيّف مع الواقع، لأن حلمها أن تبقى مع عائلتها.
تهشّ فاطمة الذباب عن وجهها، وتقول في بداية الفيلم "إذا ما طلعنا على الشغل بطالعونا غصبن عنا.. بنشتغل غصب عنّا.. ضروري نحترم كلمة الأب".
ينتهي الفيلم (مدته 10 دقائق) بعبارة فاطمة "بنضل قويين بس عم نتعب" كأنها تلخص حكاية اللاجئين السوريين المستمرة منذ عام 2011، إذ نحتفي دوماً بقوة ونجاح وصمود وتكيّف اللاجئين مع الحياة الجديدة، وإذا كان كلّ ذلك مبنياً على شيء، فهو التعب.
القصّة تسافر.. فاطمة في الخيمة
فيلم فاطمة (إنتاج 2018) سافر إلى دول عديدة، وعرض في مهرجانات عربية وغربية، كما نال العديد من الجوائز.
"عُرض الفيلم في 30 مهرجاناً داخل الولايات المتحدة، ورومانيا وبريطانيا وإيطاليا والنمسا وهنغاريا والعراق والأردن وفلسطين وتونس وغيرها من الدول" يقول مخرج الفيلم الشاب الفلسطيني العشريني عمر رمّال.
كما حاز الفيلم على خمس جوائز، أربع منها دولية.
لماذا اخترت فاطمة؟ يقول رمّال لـ(ارفع صوتك) إنه تعرّف على فاطمة خلال عمله التطوعي في المخيم، ولاحظ فرحة الأطفال بأبسط الأشياء التي قد تكون في بيوتنا ملقاة هنا وهناك ونضيّعها ونفقدها بسهولة مثل "ربطات الشعر وطلاء الأظافر". ورأى في فاطمة نموذجاً للأطفال الذين كبروا في المخيم وشهد المخيم دخولهم مرحلة المراهقة والنضج السريع بسبب التكيّف مع الظروف الصعبة حولهم.
ولم يكن من السهل إقناع فاطمة بأن تتحدث في موضوع يعتبر حساساً جداً بالنسبة لبيئتها المحافظة، كما يقول رمّال. ويضيف "أردت تسليط الضوء على تأثير المخيم على تشكيل هويّة هذه الطفلة ونضجها وتعاملها مع جسدها، خصوصاً أنها عاشت طيلة سنوات اللجوء داخل خيمة واحدة تتشاركها مع 9 أشخاص".
ولاقت فاطمة الدعم بتقديم مساعدات لها ولعائلتها بعد عرض الفيلم، لكن برأي رمّال هذا "غير كافٍ" مضيفاً "أنا حزين لأجلها ولأجل جميع الأطفال الذين يكبرون وسط هذه الظروف الصعبة في المخيمات. الأفلام تلفت النظر لكنها قد لا تصنع التغيير الكبير".
ويعتبر رمّال أن جدّة ما يطرحه في فيلمه مقارنة بعشرات الأفلام عن اللجوء، تسليط الضوء على الحياة الشخصية للمراهقين في المخيّمات.
وهذا الفيلم هو أول عمل لرمّال، وهو بالأساس مشروع جامعي قدمّه للكلية الأسترالية للإعلام في الأردن، وهذه الأيام يعمل على إخراج فيلم جديد، والمكان هذه المرة فلسطين.