لقطة من أغنية "عكل الجبهات" لأمير المعرّي
لقطة من أغنية "عكل الجبهات" لأمير المعرّي

كان أمير طفلاً في الثانية عشرة حين اندلعت الثورة السورية قبل ثماني سنوات.

اليوم هو في العشرين، مع أول أغنية راب مصوّرة يطلقها من قلب محافظة إدلب، وفيها مسقط رأسه ونشأته، معرّة النعمان.

ثماني سنوات من الحياة تحت الحرب أو ظروفها، تتلخص في عيني أمير المعرّي الداكنتين، ونظرته الغاضبة، وكلماته التي يوجهها سهاماً للتنظيمات الإرهابية والنظام وحلفائه وغيرهم ممّن يتحمّل مسؤولية استمرار معاناة السوريين.

تظهر البيوت المدمّرة في بعض أنحاء المحافظة في فيديو كليب "عكل الجبهات"، كما نرى 62 مدنياً من أهالي إدلب، بنظرات وتعبيرات تتفق مع كلمات أغنية الراب التي ألّفها أمير المعرّي.

وفي ظهور الناس رسائل تحدٍ من المناطق التي تشهد معارك النظام السوري وحلفائه ضد فصائل المعارضة المسلّحة، حيث نراهم طلبة في مدارسهم ورجالاً على رأس أعمالهم ونساءً خارج بيوتهن أو داخلها، وهنا رجل يعزف العود أو صديقان يلعبان الشطرنج، وآخر يسقي الزرع وغيرهم.

ولاقت الأغنية ردود فعل إيجابية في مواقع التواصل، يقول هذا المغرّد "فيديو راب مدهش صدر من داخل إدلب من قبل مغني الراب اسمه أمير المعري. يدين هيئة تحرير الشام والقاعدة والغزو التركي لعفرين والقصف الروسي. حتى أنه يظهر تضامنه مع مغني الراب الروس الذين اعتقلهم بوتين".

فيما تعلّق المغردة هنا "موسيقى الراب من إدلب، حيث 3 ملايين شخص محاصر وسط تهديد مستمر بالقنابل. أمير المعري ينتقد النظام ومؤيديه (روسيا وإيران) وكذلك المتطرفين دينياً".

"كسرت نمطية الخطر"

تمنحنا الأغنية فرصة لنظرة على إدلب، حيث صعّد النظام مع حليفه الرّوسي هجماتهما منذ قرابة أربعة شهور، أسفرت عن مقتل نحو 1000 مدني ونزوح نصف مليون من الأهالي (فرانس برس).

هذه الأوضاع مثلّت بالضرورة، تحدياً لأمير وفريق التصوير، علماً بأنه نزح مع عائلته خلال المعارك الأخيرة مدة 10 أيام، ثم عادوا لمعرّة النعمان (جنوب إدلب)، مشيراً إلى عودة الكثير من النازحين لإدلب.

ومن هناك، يحدثنا أمير عبر الهاتف "بعد المؤتمر خفّ القصف، لكن قبله شهدنا أسبوعاً بقصف شديد كان يتم في الليل"، ويقصد بالمؤتمر القمة الثلاثية بين روسيا وإيران وتركيا في أنقرة، ناقش فيها الرؤساء الثلاثة أوضاع سوريا.

ويؤكد أن القصف الجوي يقع دائماً على بيوت المدنيين والأسواق الشعبية، مضيفاً "في الليل نسمع أصوات الطائرات، وهي نوعان، الأول استطلاعي يقوم بتحديد نقاط الضربات، والثاني حربي، مهمته التنفيذ، وسواء كان الوقت نهاراً أو ليلاً، فإن الطائرات تعرف أهدافها، وأحياناً توجه مدافعها الرشاشة صوب أي شيء يتحرك"

ومتابعة لذلك، يروي أمير "قبل أيام فقط، تمّ قصف الكافيتيريا الوحيدة في بلدتنا بقذيفتين، وتم إغلاقها".

ومع اقتراب الشتاء، يصف الأوضاع بقوله "بسبب تعطّل الأعمال في الشهور الأخيرة، الناس لم تتمكن من دفع أجور السكن، كما ليس بإمكان الجميع تأمين الألبسة الشتوية لأبنائهم أو توفير التدفئة".

أما عن وسائل النقل، فقد تناقص استخدامها بشكل كبير، بسبب ارتفاع أسعار البنزين، وفق أمير.

وعن ظروف التصوير الذي تم بين أواخر آب/أغسطس الماضي وأوائل أيلول/سبتمبر الجاري، واختيار المشاركين الذين ظهروا في الأغنية، يقول أمير لـ"ارفع صوتك" إن خطة الفيديو جاهزة منذ سبعة شهور، لكن التحدّي التقني كان بإيجاد مصور ذي خبرة بالتصوير السينمائي ويملك المعدّات اللازمة، إذ أن غالبية الإعلاميين في إدلب اعتادوا على نمط الريبورتاجات التلفزيونية أو التصوير الفوتوغرافي.

ولم يكن من السهل إقناع الناس بالظهور، خاصة مع جرأة التعبير في الأغنية التي تصطدم بالجميع من المقاتلين على الأرض وتنتقد إغلاق الجامعات ورافعي الشعارات الدينية، والإعلام "المبرمج" والفنانين الـ"Fake" (مزيفين).

لذا كرر أمير الطلب، وأخذ يذهب ويتحدث مع الناس أكثر حول الأوضاع والأغنية، ليلاقي القبول أخيراً، وظهر المشاركون كما هم، فكل في مهنته وموقعه الحقيقي، حتى كان منهم الذي فضّل إخفاء وجهه، وتم التصوير أثناء القصف وفي أوقات توقفه. 

يقول أمير لـ"ارفع صوتك": "الحقيقة دائماً ملاحقة، وما دمت أعبر عن المدنيين في إدلب والأوضاع التي نعيشها بشفافية، والناس معي، لا شيء يخيفني. وأعتقد أنني بهذه الأغنية كسرتُ نمطيّة الخطر الموجود هنا".

وأشار إلى أن بعض أصدقائه قاطعوه بعد إصدار أغنية سابقة لـ"عكل الجبهات" اسمها "مراء"، خشية تعرّضه للملاحقة والمراقبة بسببها. ويركز في أغنيته على انتقاد المتطرفين دينياً والأشخاص الذين يتخذون من الإسلام عباءة لتحقيق غايات خاصة أو نفوذ في السلطة. 

في نفس الوقت، يعرب أمير عن سعادته بردود فعل الناس في إدلب، الذين شعروا أن أغنيته الأخيرة تعبّر عنهم وعن الظروف التي تحيطهم.

وتتوفر الأغنية بثلاث لغات: العربية (مغنّاة ومكتوبة) والإنجليزية والروسية، وتجري الترجمة إلى لغات أخرى مثل الألمانية، كما يقول أمير لـ"ارفع صوتك"، وهدفه أن تصل أغنيته لأكبر عدد ممكن من الناس وعلى نطاق واسع خارج حدود الدول العربية.

راب وموسيقى كلاسيكية

وعن رحلة أمير في غناء وتأليف الراب، يخبرنا عن انجذابه لأغاني الراب منذ طفولته، بالقول "بدأت الاستماع للراب منذ عام 2007، كانت تصلنا الأغاني الأجنبية الشهيرة، فانجذبت لهذا النوع، وصرت أستمع أكثر وتعرفت على أغاني الراب العربية، كما   أستمع بشكل متواصل للموسيقى الكلاسيكية".

بدأ بكتابة الأغاني، ثم بالكتابة وتلحينها، حتى أطلق أولى أغانيه مسجلة عبر موقع "يوتيوب" قبل نحو عام. 

وخلال السنوات الفائتة، شهد أمير الكثير من القصف والموت والنزوح ومحاولة اللجوء، ليستقر به الأمر في بلده، المعيل الوحيد لعائلته.

يقول أمير لـ"ارفع صوتك": "اعتقل عمي في سجون النظام عام 2014 وبعد شهور أخبرونا بموته في السجن. وفي أوائل 2018، قررنا اللجوء لتركيا، فذهبت إلى إسطنبول مكثت فيها نحو تسعة شهور، وانتظرت أخي ليأتيني ونستأجر بيتاً هناك معاً ثم نجهزه حتى تلحق العائلة بنا، لكنه قتل على الحدود التركية السوريّة، ليعود أمير للبلاد بشكل قانوني لكن مع توقيعه تعهداً بألا يدخل تركيا لمدة خمس سنوات تالية". 

حاول أخو أمير الدخول لتركيا عن طريق التهريب، وفُقدت آثاره ليلاً على أحد الجبال في منطقة الدانة الحدودية، وبعد أيام أعلنت العائلة عن فقده، ليأتيها خبر من الدفاع المدني السوري عثوره على جثة عند الجدار الحدودي، كانت جثة أخيه، واتضح من تقرير الطب الشرعي تعرّضه لرصاصة قنّاص تركي.

نجا أمير مرتين من تحت الأنقاض، كما نجت عائلته من قصف صاروخي بعد تعرضهم لإصابات، وتوقف عن الدراسة بعد إغلاق جامعته بأمر "الائتلاف الوطني"، لا يدري ماذا يمكن أن يحصل اليوم أو في المستقبل، لكنه غير متفائل بهما أيضاً، وهو ما نراه في أغانيه عامةً، لكنّه وإن لم يُبصر الأمل، فإنه يحاول صُنعه عبر موسيقى الراب، ما كان منها، وما يحلم به لاحقاً.

مواضيع ذات صلة:

قطار خاص بنقل السياح في محيط العاصمة السورية دمشق- أرشيف 2015
قطار خاص بنقل السياح في محيط العاصمة السورية دمشق- أرشيف 2015

في يناير من العام الجاري، أصدرت وزارة السياحة في حكومة النظام السوري، بياناً قالت فيه، إن أكثر من 2.17 مليون سائح من جنسيات عربية وأجنبية، زاروا المناطق الخاضعة لسيطرة النظام خلال عام 2023.

وهذه الأرقام بلغة المال، حققت نحو 125 مليار ليرة سورية، بنسبة ارتفاع وصلت إلى 120% عن عام 2022، بحسب بيان الوزارة.

والكثير من هؤلاء السياح، وفق مصادر إعلامية محلية وغربية، تستهويهم فكرة السفر إلى دول تعاني من الحروب والأزمات أو الدمار، بدافع الفضول وأحياناً محاولة كسر الصورة النمطية، التي تصم العديد من الدول بأنها "غير آمنة" و"خطرة جداً" أو يتم التحذير من السفر إليها تحت مختلف الظروف.

عام 2016، نشر موقع "ميدل إيست آي" تقريراً يشرح عن هذا النوع من السياحة، الذي أسماه بـ"السياحة المتطرّفة"، مشيراً إلى وجود رغبة لدى العديد من السيّاح الغربيين باستكشاف مغامرات جديد، عبر زيارة المواقع التي دمّرتها الحرب وحوّلتها إلى أنقاض.

وتناول سوريا كأحد النماذج، باعتبارها وجهة للكثير من السياح الغربيّين، الذين يدخلونها "تهريباً" عبر لبنان بمساعدة سائقين وأدلّاء، بهدف الوصول إلى أماكن طالتها الحرب وغيّرت معالمها، دون اللجوء إلى دخول البلاد بشكل قانوني.

وهناك شركة سياحية تروّج لزبائنها أنها ستقدم لهم "تجارب مختلفة من السفر والاستكشاف في مناطق ليست تقليدية للسياحة"، وتطرح إعلانات للسياحة في اليمن والصومال وسوريا والعراق وأفغانستان، تحت عنوان "السفر المُغامر"، لاجتذاب شريحة خاصة من عشاق وهواة هذه التجارب المثيرة للجدل.

"سياحة الدمار" صارت تمثل للراغبين في زيارة سوريا "بديلاً" عن زيارة المناطق الأثرية التقليدية التي كانت أكثر جذباً قبل اندلاع الحرب الأهلية، خصوصاً أن العديد منها تعرض لأضرار ودمار دون أن يتم ترميمه وإعماره وتهيئته لاستقبال السياح لاحقاً، كما أن الوصول لبعضها بات شبه مستحيل.

ترويج للنظام أم إدانة له؟

برأي الصحافي الاستقصائي السوري مختار الإبراهيم، فإن "مشاهدة مناظر الدمار ومواقع الخراب السوري بغرض السياحة، تعكس استخفافاً كبيراً بآلام الضحايا ومآسي ملايين السوريين الذين تضرّروا جرّاء الحرب".

ويقول لـ"ارفع صوتك": "زيارة سوريا بغرض السياحة بشكل عام تُقدّم خدمة كبيرة للنظام السوري من حيث الترويج لسرديات انتصاره في الحرب، وعودة سوريا إلى ما كانت عليه".

"فالنظام السوري مستعد أن يبذل الكثير في سبيل الترويج للسياحة في مناطقه، فما بالك أن يأتي السياح ويرفدوا خزينته على حساب كارثة عاشها ملايين السوريين!"، يتابع الإبراهيم.   

ويحمّل قسماً كبيراً من المسؤولية لبعض المؤثرين على "يوتيوب" و"تيك توك"، الذين "روّجوا خلال السنوات الماضية للسياحة في سوريا وإظهار أنها آمنة عبر عدسات كاميراتهم، لحصد المشاهدات" وفق تعبيره.

من جانبه، يقو الصحافي السوري أحمد المحمد: "على الرغم من أن سياحة الموت تخدم النظام من جهة ترويج أن مناطقه باتت آمنة لعودة السيّاح، إلا أنها تُدينه أيضاً". 

ويوضح لـ"ارفع صوتك" أن "مشاهدة مناظر الدمار بغرض السياحة يُمثّل توثيقاً حيادياً للتدمير الذي أحدثته آلة النظام العسكرية في البلاد".

وطالما تعرضت مصادر المعارضة السورية في توثيق الدمار للتشكيك من قبل النظام نفسه، بحسب المحمد، مردفاً "تم اتهامهم بالفبركة الإعلامية، بينما منع النظام خلال السنوات الماضية وسائل الإعلام الأجنبية من التغطية الحرّة لمجريات".

في النهاية، يتابع المحمد "مهما بذل النظام من جهود ترويجية حول عودة مناطقه آمنة، فإن واقع الحرب السوري أكبر من الترويج بكثير، لا سيما أننا في كل فترة قصيرة، نسمع عن حالات اختطاف لسيّاح قدموا للترفيه فوق معاناة السوريين".