طبيب سوري أثناء فحص مختبري يتعلق بفيروس كورونا في إدلب- صورة تعبيرية
طبيب سوري أثناء فحص مختبري يتعلق بفيروس كورونا في إدلب- صورة تعبيرية

تضررت العديد من قطاعات الأعمال في سوريا نتيجة تراكم الأزمات التي خلفتها سنين الحرب وتداعياتها على قيمة العملة والرواتب والأجور، إلا أن أكثر القطاعات تضررا كان الطبي.

فالمقابل المادي الذي يجنيه الطبيب السوري حاليا هو الأسوأ بين باقي المهن، بعد أن كانت فئة الأطباء تنعم قبل الحرب برفاهية باعتبارها من نخبة المجتمع.

وبينما رفعت الحكومة رواتب مهن عدة، بقيت أجور معاينة المريض بحسب تسعيرة وزارة الصحة 5000 ليرة سورية (1.3 دولار تقريباً).

هذا الأمر، دفع الأطباء إلى الاحتجاج، فرواتبهم المتدنية لا تكفي لعيش حياة كريمة، خصوصا مع ارتفاع أسعار السلع والخدمات، داعين حكومة النظام لتصحيح بدل المعاينة.

 

"لا تكفي لحياة كريمة"

يقول الطبيب مؤيد، وهو اختصاصي بأمراض الأنف والأذن والحنجرة، إن "قلة قليلة من الأطباء ما زالت قادرة على الصمود تحت التدهور المعيشي وانخفاض الرواتب.

ويضيف لـ"ارفع صوتك": "بعد سنوات دراسة طويلة تتراوح بين 10و15 سنة، يأخذ الطبيب بدل معاينة 5000 ليرة فقط، في حين يأخذ المحامي على المخالعة مثلا 500 ألف، والمهندس على المخطط مبالغ تصل للملايين".

"أما نحن فعلينا التزام تسعيرة الوزارة، وإن رفعناها يتم وصفنا باللاإنسانيين وشتمنا"، يتابع الطبيب مؤيد.

ويبيّن: "دائما يُطالَب الطبيب أن يكون نزيهًا وأن تكون مهنته إنسانية وبنفس الوقت لا يتوفر له من مقومات الإنسانية ما يجعله يتعفف عن سلوك طرق ملتوية كي يعيش حياة كريمة". 

ويطالب الطبيب مؤيد نقابته برفع الأجور أسوة بباقي النقابات، مردفاً "كيف سيعيش الطبيب وعائلته في ظل هذا الدخل المتدني ولم عليه فقط أن يضحي؟ فالأطباء لا يستطيعون القيام بعمل مختلف عن عملهم الحالي، كي لا يصبحوا محل سخرية!". 

ويؤكد أن "جميع أصحاب المهن رفعوا أجورهم حسب تسعيرة الدولار الحقيقية عطفاً على التضخم الحاصل، فيما الطبيب الذي أمضى نصف حياته في الدراسة عليه التضحية بحجة أن مهنته إنسانية"، حسب تعبيره. 

أما الرقم الذي يقترحه الطبيب مؤيد للتسعيرة الجديدة فهو (30-35) ألف ليرة سورية للطبيب العام و(45- 50) ألفاً للطبيب المختص، تماشيا مع نسبة التضخم وارتفاع الأسعار.

وقبل الأزمة كانت تسعيرة المعاينة للطبيب العام في سوريا (300- 500) ليرة، أي (6- 10) دولارات، وللمختص (500- 700) ليرة، أي (10-12) دولاراً، كما يقول الطبيب مؤيد.

الطبيب سمير، وهو أخصائي أمراض داخلية، تقاعد مؤخراً، يقول لـ"ارفع صوتك" إنه أمضى أكثر من 35 عاماً في الخدمة، حصل في نهايتها على راتب تقاعدي بقيمة 40 ألف ليرة شهرياً (14 دولاراً تقريباً).

ويتساءل "أي طبيب في العالم يتقاضى هكذا راتب بعد خدمة جليلة لبلده وللناس؟ هل علينا أن نعيش العوز والحاجة براتب لا يكفي أياما؟"، مطالباً هو الآخر بتصحيح نظام الأجور "منعا لإذلال الأطباء". 

ويضيف الطبيب سمير: "الأطباء الشباب وحديثي التخرج اختاروا طريق الهجرة بحثاً عن فرصة أفضل، أما نحن كمتقاعدين فلا فرص أمامنا سوى الاتكال على أبنائنا في الخارج للبقاء والصمود". 

 

"الهجرة هي الحل" 

يتحضر الطبيب أحمد (30 عاماً) للهجرة إلى الصومال، بعد نيله عقد عمل براتب 2000 دولار شهريا.

يقول لـ"ارفع صوتك"، إن زميلاً له سبقه للسفر إلى هناك، وآخر وجد فرصة في العراق بأجر مرتفع أيضاً، ومعظم زملائه وخريجي دفعته يحاولون الهجرة نحو العراق وليبيا والصومال واليمن.

ورغم التحديات المرتبطة بمستوى الأمن والأمان في هذه البلاد، إلا أن الأطباء السوريين يحصلون على رواتب "ضخمة" مقارنة بالأطباء داخل سوريا، بحيث لا يتجاوز راتب الواحد 30 دولاراً، وفق الطبيب أحمد.

ويوضح: "خلال فترة مناوبتي في مشفى المجتهد في دمشق كطبيب مقيم، كنت أتقاضى 50 ألف ليرة (12 دولاراً) شهرياً بعد ستة أعوام من التدريب، وكانت لا تكفي ثمن طعام لأيام، بالتالي أعتمد على أهلي في المصاريف".

ويشير الطبيب أحمد إلى أن عدداً من زملائه التحق بوظائف لا تمت للطب بصلة، من أجل تدبير قوتهم اليومي، ولا يزال آخرون بانتظار أي فرصة للهجرة.

 

الحكومة والتعرفة الجديدة 

في أواخر العام الماضي، عُقدت اجتماعات مكثفة لوزارات عديدة، منها المالية والصحة والاقتصاد، إضافة إلى النقابة المركزية، بهدف إصدار تعرفة جديدة للأطباء تتناسب مع رواتب الموظفين. 

في حينه، قال رئيس فرع نقابة الأطباء في دمشق عماد سعادة، إن صدور التعرفة الجديدة للأطباء ليس بتلك السهولة، ومن المتوقع ألا تصدر قريباً.

وأضاف لوسائل إعلام محلية: "من الممكن أن تحمل التعرفة الجديدة ظلماً للأطباء، على اعتبار أن سعر أي سلعة زاد أكثر من 20 ضعفاً".

"ولكن جرت الدراسة لتكون التعرفة متناسبة مع المواطنين، وتمت زيادة رواتب الأطباء المتقاعدين لتصبح 40 ألفاً بدلاً من 25 ألفاً اعتباراً من بداية العام الحالي 2022"، وفق سعادة. 

وبشكل عام، تعاني المشافي في سوريا نقصاً في الكوادر الطبية، إذ تناقص عدد الأطباء تدريجياً منذ عام 2011، من 32 ألفاً قبلها إلى 20 ألفاً في عام 2021.

ومع بداية 2022 شهد مشفى التوليد في دمشق توقفاً عن قبول الحالات المرضية الإسعافية، نتيجة نقص أطباء التخدير.

وأفاد موقع "سماعة حكيم" المحلي أنه لا يوجد سوى طبيب تخدير وحيد في المشفى، كما لا يوجد أي طالب دراسات عليا متخصص، ويقتصر الأمر على وجود طلاب السنتين الأولى والثانية. 

وبعد توفقه عن استقبال الحالات، عُقد اجتماع استثنائي في التاسع من يناير الحالي بحضور مديرة المشافي وعميد كلية الطب ورئيسة قسم التخدير بجامعة دمشق ووزير التعليم، وتقرر رفد المشفى بستة أطباء تخدير من مشافي التعليم العالي. 

مواضيع ذات صلة:

قطار خاص بنقل السياح في محيط العاصمة السورية دمشق- أرشيف 2015
قطار خاص بنقل السياح في محيط العاصمة السورية دمشق- أرشيف 2015

في يناير من العام الجاري، أصدرت وزارة السياحة في حكومة النظام السوري، بياناً قالت فيه، إن أكثر من 2.17 مليون سائح من جنسيات عربية وأجنبية، زاروا المناطق الخاضعة لسيطرة النظام خلال عام 2023.

وهذه الأرقام بلغة المال، حققت نحو 125 مليار ليرة سورية، بنسبة ارتفاع وصلت إلى 120% عن عام 2022، بحسب بيان الوزارة.

والكثير من هؤلاء السياح، وفق مصادر إعلامية محلية وغربية، تستهويهم فكرة السفر إلى دول تعاني من الحروب والأزمات أو الدمار، بدافع الفضول وأحياناً محاولة كسر الصورة النمطية، التي تصم العديد من الدول بأنها "غير آمنة" و"خطرة جداً" أو يتم التحذير من السفر إليها تحت مختلف الظروف.

عام 2016، نشر موقع "ميدل إيست آي" تقريراً يشرح عن هذا النوع من السياحة، الذي أسماه بـ"السياحة المتطرّفة"، مشيراً إلى وجود رغبة لدى العديد من السيّاح الغربيين باستكشاف مغامرات جديد، عبر زيارة المواقع التي دمّرتها الحرب وحوّلتها إلى أنقاض.

وتناول سوريا كأحد النماذج، باعتبارها وجهة للكثير من السياح الغربيّين، الذين يدخلونها "تهريباً" عبر لبنان بمساعدة سائقين وأدلّاء، بهدف الوصول إلى أماكن طالتها الحرب وغيّرت معالمها، دون اللجوء إلى دخول البلاد بشكل قانوني.

وهناك شركة سياحية تروّج لزبائنها أنها ستقدم لهم "تجارب مختلفة من السفر والاستكشاف في مناطق ليست تقليدية للسياحة"، وتطرح إعلانات للسياحة في اليمن والصومال وسوريا والعراق وأفغانستان، تحت عنوان "السفر المُغامر"، لاجتذاب شريحة خاصة من عشاق وهواة هذه التجارب المثيرة للجدل.

"سياحة الدمار" صارت تمثل للراغبين في زيارة سوريا "بديلاً" عن زيارة المناطق الأثرية التقليدية التي كانت أكثر جذباً قبل اندلاع الحرب الأهلية، خصوصاً أن العديد منها تعرض لأضرار ودمار دون أن يتم ترميمه وإعماره وتهيئته لاستقبال السياح لاحقاً، كما أن الوصول لبعضها بات شبه مستحيل.

ترويج للنظام أم إدانة له؟

برأي الصحافي الاستقصائي السوري مختار الإبراهيم، فإن "مشاهدة مناظر الدمار ومواقع الخراب السوري بغرض السياحة، تعكس استخفافاً كبيراً بآلام الضحايا ومآسي ملايين السوريين الذين تضرّروا جرّاء الحرب".

ويقول لـ"ارفع صوتك": "زيارة سوريا بغرض السياحة بشكل عام تُقدّم خدمة كبيرة للنظام السوري من حيث الترويج لسرديات انتصاره في الحرب، وعودة سوريا إلى ما كانت عليه".

"فالنظام السوري مستعد أن يبذل الكثير في سبيل الترويج للسياحة في مناطقه، فما بالك أن يأتي السياح ويرفدوا خزينته على حساب كارثة عاشها ملايين السوريين!"، يتابع الإبراهيم.   

ويحمّل قسماً كبيراً من المسؤولية لبعض المؤثرين على "يوتيوب" و"تيك توك"، الذين "روّجوا خلال السنوات الماضية للسياحة في سوريا وإظهار أنها آمنة عبر عدسات كاميراتهم، لحصد المشاهدات" وفق تعبيره.

من جانبه، يقو الصحافي السوري أحمد المحمد: "على الرغم من أن سياحة الموت تخدم النظام من جهة ترويج أن مناطقه باتت آمنة لعودة السيّاح، إلا أنها تُدينه أيضاً". 

ويوضح لـ"ارفع صوتك" أن "مشاهدة مناظر الدمار بغرض السياحة يُمثّل توثيقاً حيادياً للتدمير الذي أحدثته آلة النظام العسكرية في البلاد".

وطالما تعرضت مصادر المعارضة السورية في توثيق الدمار للتشكيك من قبل النظام نفسه، بحسب المحمد، مردفاً "تم اتهامهم بالفبركة الإعلامية، بينما منع النظام خلال السنوات الماضية وسائل الإعلام الأجنبية من التغطية الحرّة لمجريات".

في النهاية، يتابع المحمد "مهما بذل النظام من جهود ترويجية حول عودة مناطقه آمنة، فإن واقع الحرب السوري أكبر من الترويج بكثير، لا سيما أننا في كل فترة قصيرة، نسمع عن حالات اختطاف لسيّاح قدموا للترفيه فوق معاناة السوريين".