صورة علوية لوسط مدينة دمشق يظهر فيها جانب من نهر بردا- أرشيف فرانس برس
صورة علوية لوسط مدينة دمشق يظهر فيها جانب من نهر بردى- تعبيرية

يشهد سوق العقارات في سوريا ارتفاعا هائلا في الأسعار، على الرغم من انخفاض الدخل والقوة الشرائية للمواطنين، ما تسبب باستحالة التملك للطبقات الوسطى والفقيرة، وحصرها بالطبقات المتنفذة وشديدة الثراء، خاصة في العاصمة السورية دمشق. 

وتصدرت دمشق، قائمة أغلى مدن العالم من حيث متوسط أسعار الشقق مقارنة بمتوسط الدخل السنوي، حسب ما أورده موقع "Numbeo"، المتخصص بقياس مؤشرات تكاليف المعيشة والسكن والعقارات ومستوى الدخل، وسواها من المؤشرات في مختلف البلدان والمدن حول العالم. 

وحسب الموقع، تصل كلفة إيجار غرفة واحدة تتسع لشخص واحد مدة شهر في مركز المدينة إلى أكثر من 300 دولار ويتراجع إلى 217 دولار خارج المركز، أما سعر المتر المربع لشقة في وسط دمشق فيبلغ 1727 دولار.

في المقابل، قدّر "Numbeo" متوسط الرواتب في دمشق بـ 46.23 دولار شهرياً. 

 

"مافيات وغسيل أموال"

يقول الصيدلاني علي الحاج (28 عاما)، لـ"ارفع صوتك"، إن التملّك أصبح "حكرا على طبقة الأثرياء وأمراء الحرب والمافيات، أما الطبقة الوسطى فمصيرها الإيجار فقط رغم ارتفاع الأسعار. إيجار البيوت يتراوح حسب الأحياء ويبدأ من 400 ألف ليرة سورية وصولاً للملايين". 

ويضيف: "مع هذه الأسعار والرواتب الحالية، يلزمك 25 سنة لتجمع كلفة شراء بيت دون أن تصرف من راتبك شيئا". 

ويبلغ متوسط الرواتب الشهري للموظفين في سوريا (في القطاع الخاص والعام) حوالي 149 ألف ليرة سورية (37 دولاراً أميركياً)، حسب موقع Salaryexplorer

من جهته، يسخر إبراهيم الحموي من تصنيف مدينة دمشق كأغلى مدينة في العالم من حيث العقارات، قائلاً إنها أساساً "تفتقد لأدنى مقومات الحياة كالكهرباء والوقود والمياه".

"كما تشهد تلوثاً وانعداماً الأمان، ولم يحدث فيها أي تطور عمراني منذ الستينيات، وتعاني من أكبر نسبة هجرة للعقول، وغالبية أبنائها من الطبقة المتوسطة" يضيف إبراهيم لـ"ارفع صوتك".

ويتابع: "هذا دليل على وجود المافيات التي تتحكم بالعقارات وتجارة الممنوعات وغسيل الأموال". 

 

عاجزون عن الشراء 

تقول الستينية أم يوسف وهي سورية مقيمة في إسطنبول، إنها قامت ببيع منزلها في حي المالكي الدمشقي مع بداية الأزمة، وجمعت مبلغا إضافيا من المال على أمل شراء منزل أصغر حجما في الحي ذاته بعد مدة، لتحدث المفاجأة.

توضح لـ"ارفع صوتك": "اليوم نعجز عن شراء غرفة واحدة في الحي الذي ولدتُ وترعرعت فيه، فسعر المتر المربع يعادل سعر شقة قبل الأزمة". 

وتعتبر أم يوسف ارتفاع الأسعار "غير مبرر" متفقة مع إبراهيم من ناحية أن دمشق تفتقد للخدمات والكهرباء والماء.

وتتساءل: "من سيشتري الشقق الجديدة المعروضة بهذه المبالغ؟ القسم الأكبر من السوريين غير قادر على الاستئجار بمتوسط دخل يبلغ مئة ألف ليرة، فكيف الحال بالنسبة لامتلاك منزل قيمته مئات الملايين؟". 

في السياق ذاته، يقول أدهم.ع، متحفظاً على اسمه الكامل، وهو وسيط عقاري، إن أسعار العقارات تختلف حسب المناطق والتصنيف، سواء كان البناء منظماً أو شبه منظم أو غير منظم.

وتتباين الأسعار بشدة باختلاف المنطقة الجغرافية وشكل الملكية (صك أخضر – إسكان – حكم محكمة – مخالفة – طابو زراعي – استملاك)، حسب أدهم.

ويضيف لـ"ارفع صوتك": "في دمشق مثلاً، تختلف أسعار العقارات بحسب الأحياء، وأغلاها حي المالكي وكفرسوسة، حيث يتراوح سعر المتر المربع الواحد بين 15 و18 مليون ليرة، بينما يتراوح متوسط سعر المتر المربع بين 6 و8 ملايين ليرة في مناطق أخرى كالشعلان والمهاجرين، أي أن أسعار الشقة بمساحة 100 متر مربع تتراوح بين 600 مليون و1.8 مليار ليرة". 

أحمد من دمشق أيضاً، يعتبر أن الارتفاع "مقصود لمنع المهجّرين من العودة، ودفعهم للبيع وإسكان آخرين في مناطقهم".

يقول لـ"ارفع صوتك": "ورثت منزلا عن جدي في منطقة القلمون، وقررت بيعه لأنه يقع في منطقة يحظر فيها إعادة الإعمار والترميم". 

"لأصدم بعدها من العروض التي انهالت للشراء، معظمها من متنفذين تابعين للنظام، وبعضهم تابع لأحد الأحزاب اللبنانية، رغم أن المنطقة غير مخدّمة ومدمرة، والمنزل يحتاج إلى ترميم بالكامل"، يبين أحمد. 

ويؤكد أنه "مرغم على البيع، إذ لا يُسمح له بالترميم أو إعادة البناء، ولا يستطيع الشراء لغلاء الأسعار الفاحش". 

 

قوانين "قديمة"

يعزو الخبير الاقتصادي يونس كريم في حديثه لـ"ارفع صوتك" سبب ارتفاع أسعار العقارات لعدة أسباب، أولها "محدودية الأراضي الصالحة للسكن والمخدّمة بالبنية التحتية الجيدة، بسبب الحرب التي قلصت المساحات القابلة للسكن، كذلك قلة المساحات التي يسمح البناء فيها مقارنة بالمساحة الإجمالية لسوريا". 

والسبب الثاني "خضوع العقارات لعدة أمور، منها القوانين القديمة لسوق العقار، وسيطرة أمراء الحرب على معظم العقارات، بالإضافة إلى وجود كتلة مالية ضخمة والحاجة لاستثمارها في مكان ما، فكان التوجه للاستثمار في العقارات، لأنه أحد أهم الطرق للحفاظ على الثروة".

"وذلك نتيجة منع التعامل في القطع الأجنبي في سوريا، وتوقف الحياة الاقتصادية والإنتاجية، وعدم الاستقرار الأمني، والخوف من التعامل في الذهب بسبب كثرة السرقات وعدم توافره بالكميات الكبيرة، وعدم استطاعة الكثير من المواطنين مغادرة سوريا"، يتابع كريم.

والسبب الثالث الذي أدى لرفع أسعار العقارات وفق كريم "قربها من مراكز رجالات النظام، إذ تستفيد من الميزات التي يتمتع بها هؤلاء، سواء توفر الكهرباء أو البنية التحتية والأمن والحماية والمياه". 

والرابع، أن "النظام السوري دأب على تسويق سوريا باعتبارها مركز العالم، وأن معظم المستثمرين العرب والأجانب يرغبون بالاستثمار فيها، وأراضيها الأغلى ثمناً، والأخصب نتيجة موقعها".

وعمل النظام على ذلك من خلال عدة تشريعات وقوانين، وقام بتأسيس الشركات وحصرها بأماكن محددة، ما رفع أسعار العقارات بشكل كبير أكبر من قيمتها الحقيقية. 

ويلفت كريم إلى أن عمليات "غسيل الأموال ساهمت في هذا الارتفاع، إذ تعتبر سوريا من أهم المراكز المخفية لعمليات غسيل الأموال، رغم أنها بدأت تتقلص نتيجة التشدد بتطبيق قانون قيصر". 

ويبيّن كريم: "كذلك تلعب تجارة المخدرات وتبييض الأموال دورا في بيع العقارات مع توفر البنى التحتية البنكية. نلاحظ أن قيمة الحوالات المالية التي تدخل وتخرج من سوريا ضخمة جدا مقارنة بعدد الشركات المتواجدة، وهذا دليل على وجود عمليات غسيل أموال ضخمة تتم في سوريا".

 

"سياسة تهجير" 

ويعتبر كريم ارتفاع أسعار العقارات شكلاً من أشكال "التغيير الديمغرافي"، موضحاً لـ "ارفع صوتك": "عندما ترتفع أسعار العقارات وترتفع أسعار البيوت الصالحة للإيجار، ويُمنع الناس من ترميم وتجديد البيوت المدمرة، سيمنع ذلك المعارضين من التفكير في العودة للبلاد، لأن دول الجوار أرخص من ناحية الإيجار مقارنة بالقدرة الشرائية المتوفرة".

"بالتالي هذه سياسة من سياسات التهجير غير المباشر التي يتبعها النظام السوري" يقول كريم. 

ماذا عن الحلول؟ يقول كريم، إنها تتمثل بـ"إعادة الإعمار والإعمار، وطرح مناقصات لإعادة تطوير وبناء البنية التحتية والإسكان".

لكن هذه الأمور "غير قابلة للتطبيق والدولة السورية غير قادرة عليا اليوم، كما أن الشركات لن تدخل إلى سوريا نتيجة انخفاض القدرة الشرائية للمواطنين وعدم الاستقرار السياسي"، حسب كريم. 

في نفس الوقت، يقول كريم إن هناك بعض الحلول المؤقتة، مثل "السماح للمواطنين بإعادة ترميم منازلهم، التي تحتوي تدميراً أقل من 50%، وهو أمر قام به النظام فعلا، رغم أنه لم يسمح به في كل المناطق، وإذا حدث ذلك سيزيد من الكلفة على النظام من حيث زيادة الطلب على الإسمنت، ما يعني زيادة الطلب على المحروقات وصرف المزيد من القطع الأجنبي غير المتوفر". 

بالتالي وبناء على كل ما سبق، "لا يوجد حلول قابلة للتطبيق حالياً إلا عبر  حل سياسي حقيقي في سوريا، كما يؤكد كريم.

مواضيع ذات صلة:

قطار خاص بنقل السياح في محيط العاصمة السورية دمشق- أرشيف 2015
قطار خاص بنقل السياح في محيط العاصمة السورية دمشق- أرشيف 2015

في يناير من العام الجاري، أصدرت وزارة السياحة في حكومة النظام السوري، بياناً قالت فيه، إن أكثر من 2.17 مليون سائح من جنسيات عربية وأجنبية، زاروا المناطق الخاضعة لسيطرة النظام خلال عام 2023.

وهذه الأرقام بلغة المال، حققت نحو 125 مليار ليرة سورية، بنسبة ارتفاع وصلت إلى 120% عن عام 2022، بحسب بيان الوزارة.

والكثير من هؤلاء السياح، وفق مصادر إعلامية محلية وغربية، تستهويهم فكرة السفر إلى دول تعاني من الحروب والأزمات أو الدمار، بدافع الفضول وأحياناً محاولة كسر الصورة النمطية، التي تصم العديد من الدول بأنها "غير آمنة" و"خطرة جداً" أو يتم التحذير من السفر إليها تحت مختلف الظروف.

عام 2016، نشر موقع "ميدل إيست آي" تقريراً يشرح عن هذا النوع من السياحة، الذي أسماه بـ"السياحة المتطرّفة"، مشيراً إلى وجود رغبة لدى العديد من السيّاح الغربيين باستكشاف مغامرات جديد، عبر زيارة المواقع التي دمّرتها الحرب وحوّلتها إلى أنقاض.

وتناول سوريا كأحد النماذج، باعتبارها وجهة للكثير من السياح الغربيّين، الذين يدخلونها "تهريباً" عبر لبنان بمساعدة سائقين وأدلّاء، بهدف الوصول إلى أماكن طالتها الحرب وغيّرت معالمها، دون اللجوء إلى دخول البلاد بشكل قانوني.

وهناك شركة سياحية تروّج لزبائنها أنها ستقدم لهم "تجارب مختلفة من السفر والاستكشاف في مناطق ليست تقليدية للسياحة"، وتطرح إعلانات للسياحة في اليمن والصومال وسوريا والعراق وأفغانستان، تحت عنوان "السفر المُغامر"، لاجتذاب شريحة خاصة من عشاق وهواة هذه التجارب المثيرة للجدل.

"سياحة الدمار" صارت تمثل للراغبين في زيارة سوريا "بديلاً" عن زيارة المناطق الأثرية التقليدية التي كانت أكثر جذباً قبل اندلاع الحرب الأهلية، خصوصاً أن العديد منها تعرض لأضرار ودمار دون أن يتم ترميمه وإعماره وتهيئته لاستقبال السياح لاحقاً، كما أن الوصول لبعضها بات شبه مستحيل.

ترويج للنظام أم إدانة له؟

برأي الصحافي الاستقصائي السوري مختار الإبراهيم، فإن "مشاهدة مناظر الدمار ومواقع الخراب السوري بغرض السياحة، تعكس استخفافاً كبيراً بآلام الضحايا ومآسي ملايين السوريين الذين تضرّروا جرّاء الحرب".

ويقول لـ"ارفع صوتك": "زيارة سوريا بغرض السياحة بشكل عام تُقدّم خدمة كبيرة للنظام السوري من حيث الترويج لسرديات انتصاره في الحرب، وعودة سوريا إلى ما كانت عليه".

"فالنظام السوري مستعد أن يبذل الكثير في سبيل الترويج للسياحة في مناطقه، فما بالك أن يأتي السياح ويرفدوا خزينته على حساب كارثة عاشها ملايين السوريين!"، يتابع الإبراهيم.   

ويحمّل قسماً كبيراً من المسؤولية لبعض المؤثرين على "يوتيوب" و"تيك توك"، الذين "روّجوا خلال السنوات الماضية للسياحة في سوريا وإظهار أنها آمنة عبر عدسات كاميراتهم، لحصد المشاهدات" وفق تعبيره.

من جانبه، يقو الصحافي السوري أحمد المحمد: "على الرغم من أن سياحة الموت تخدم النظام من جهة ترويج أن مناطقه باتت آمنة لعودة السيّاح، إلا أنها تُدينه أيضاً". 

ويوضح لـ"ارفع صوتك" أن "مشاهدة مناظر الدمار بغرض السياحة يُمثّل توثيقاً حيادياً للتدمير الذي أحدثته آلة النظام العسكرية في البلاد".

وطالما تعرضت مصادر المعارضة السورية في توثيق الدمار للتشكيك من قبل النظام نفسه، بحسب المحمد، مردفاً "تم اتهامهم بالفبركة الإعلامية، بينما منع النظام خلال السنوات الماضية وسائل الإعلام الأجنبية من التغطية الحرّة لمجريات".

في النهاية، يتابع المحمد "مهما بذل النظام من جهود ترويجية حول عودة مناطقه آمنة، فإن واقع الحرب السوري أكبر من الترويج بكثير، لا سيما أننا في كل فترة قصيرة، نسمع عن حالات اختطاف لسيّاح قدموا للترفيه فوق معاناة السوريين".