يشكل اللاجئون السوريون ما يقرب من ربع سكان البلاد البالغ عددهم ستة ملايين نسمة، وهي أعلى نسبة في العالم.
يشكل اللاجئون السوريون ما يقرب من ربع سكان البلاد البالغ عددهم ستة ملايين نسمة، وهي أعلى نسبة في العالم.

لطالما تركت موجات النزوح التي حصلت على مر التاريخ تغييرات وعواقب أحيانا غير مقصودة تترجم في أغلب الأحيان بجودة الاندماج أو عدمه في المجتمع المضيف.

ويمثل لبنان أكثر النماذج وضوحا لهذا الوضع وهو الملاصق لسوريا التي تهزها منذ أكثر من عشر سنوات حرب دفعت بالملايين للهرب من الموت. فهل يبرهن الوجود السوري عن نوع من الاندماج أم أن هناك حسابات أخرى تدخل في هذا السياق وتعيقه؟ وهل استفاد اللاجئ من نوع من الانتقال أو السلس بين المجتمع السوري والمجتمع اللبناني بشكل يسمح له بالتماهي مع البيئة الجديدة وهي الأقرب لبيئته، لغة وثقافة وملبسا ومشربا، بشكل كبير مقارنة بالمجتمعات الغربية؟

لطالما عرف لبنان بأنه محطة اقتصادية وسياحية للسوريين نظرا للقرب الجغرافي. وكانت سوق العمل اللبنانية تتيح دائما الفرص للعمال من الجنسية السورية، وتحديدا أولئك الذين يعملون في مجال البنى التحتية. ولكن الحال تغيرت في السنوات العشر الماضية، حيث دخل السوريون إلى لبنان بأعداد كبيرة هربا من جحيم الحرب. كيف تفاعل المجتمعان اللبناني والسوري مع هذا الواقع الجديد وهل يمكن الكلام عن نوع من الدمج أو الاندماج للاجئ السوري في التركيبة اللبنانية في غياب خطط إعادة اللاجئين إلى بلادهم في سياق لم يتم فيه أي انتقال أو "ترانزيت" مدروس من المجتمع السوري وتحديدا الريفي إلى المجتمع اللبناني؟

بيروت.. تحولات المدينة الجريحة
على الساحل الشرقي للبحر الأبيض المتوسط، أبصرت بيروت النور قبل أكثر من أربعة آلاف عام، في منطقة ترافق ذكرها مع القداسة في الكتب الدينية، وبقي التاريخ شاهدا على هذا الحضور الأزلي من خلال الآثار والكتابات الهيروغليفية على ألواح الآجر. حضور متذبذب بين السلام والحرب وبين الغضب والسكينة، وبين التوازن والفوضى.

يطرح هذا السؤال بالتزامن مع تقديم أحد النواب اللبنانيين، هو فادي كرم، مشروع قانون، في نهاية يوليو 2022، يمنع "منعاً باتاً أي شكل من أشكال الدمج أو الاندماج الظاهر أو المقنّع للنازحين السوريين الموجودين في لبنان، جرّاء الثورة السورية، من أيّ نوع من الأنواع".

"ارفع صوتك" توجه لوزير الشؤون الاجتماعية، هكتور الحجار الذي شدد على التمييز بين وضعية النازح واللاجئ في لبنان الذي يضم زهاء 800 ألف لاجئ فلسطيني يحملون هذا التوصيف نظرا لاستعصاء عودتهم لأراضيهم. يشرح الحجار: "السوري نازح فتح له لبنان ذراعيه منذ بداية الأزمة ولا يزال، ويشهد لبنان الكثافة الأكبر لناحية إيوائه ما بين 650 و750 شخصا في الكلم الواحد بينما غيره من الدول استقبلت 60 شخصا في المساحة نفسها. ولا شك بأن هذه الكثافة تخلق مشاكل كبيرة على مستوى الموارد التي لا تكفي بالفعل لشعب واحد. فما بالك بتقسيمها على الشعب اللبناني وعلى 35% من شعب اضطر للنزوح من أراضيه؟ وهذا يؤكد أن لبنان ليس مستعدا ديموغرافيا وهو في الأصل ليس بحاجة لبقاء النازحين كما هو الحال بالنسبة لدول أخرى ككندا التي تحتاج وتوفر الكثير من الإمكانات والمساحات للطاقات والقدرات الشبابية".

وبدوره، أوضح طلال عتريسي، أستاذ علم الاجتماع ومدير معهد العلوم الاجتماعية في الجامعة اللبنانية، أن "واقع النازحين السوريين تغير منذ بداية الأزمة في سوريا وإلى اليوم، حيث اختلفت مواقف القوى السياسية المتعددة التي كانت تشجع دخول النازحين للبلاد لأسباب مختلفة بعضها سياسي وبعضها اجتماعي وبعضها إنساني، وبعضها معاد للنظام في سوريا. وأصبح هناك إجماع إلى حد كبير على أن النازحين تحولوا إلى عبء في ظل الانهيار الاقتصادي في البلاد وتراجع الخدمات ونقص مواد التموين والمحروقات والغذاء. وارتفعت الأصوات المطالبة بعودة النازحين".

ويضيف عتريسي: "وبالتالي، اختلف الوضع ما بين الترحيب في البداية وفتح الأبواب الإعلامية والسياسية والإنسانية وإقفال الأبواب اليوم بغياب أي إجراءات عملية لإعادتهم. لذلك يتحدث البعض بلغة عنصرية ويحمل السوري مسؤولية الانهيار متغاضيا عن الفساد والخلافات اللبنانية الداخلية".

 

لبنان ليس بالوطن البديل

 

في الشارع أو في ميدان العمل، قد تلتقي بالعديد من السوريين والسوريات في لبنان. تروي نهال التي تعمل كمساعدة منزلية أنها وجدت في لبنان الأمان وأنها كونت صداقات كثيرة واعتادت على نمط الحياة حتى باتت غير متحمسة للعودة إلى سوريا خصوصا "بغياب الضمانات الأمنية وبعد دمار بيتها". وعلى غرار نهال، يعبر كثر عن تمسكهم بالحياة في لبنان، الأمر الذي يطرح معضلة "الوطن البديل".

بالنسبة  للدكتور عتريسي، ليس من الصعب على النازح الاندماج في مجتمع تجمعه الكثير من القواسم مع مجتمعه الخاص، لناحية الثقافة واللغة. وهذا ينطبق على من اعتادوا زيارة لبنان قبل الأزمة السورية. عدا عن ذلك، "في لبنان اليوم، قسم كبير ممن ولدوا هنا أو ممن وصلوا في سن صغيرة واعتادوا خلال السنوات العشر الماضية والتي وجدوا خلالها أعمالا ووظائف، على نمط الحياة الذي يختلف إلى حد ما عن النمط في سوريا".

أما الوزير هكتور الحجار، فيحذر من أن "لبنان ليس بوطن بديل لا سياسيا ولا اقتصاديا ولا اجتماعيا ولا على مستوى المساحة ولأسباب عديدة. وسيبقى هذا الموقف ثابتا لاسباب عديدة، أهمها أن لا النازحين ولا المجتمع اللبناني مهيئان لعملية دمج.

يقول الوزير: "صحيح أن بعض العائلات السورية أقامت لفترة طويلة منذ ما قبل الثورة في لبنان وسمح لها وضعها الاقتصادي بالبقاء ولكن هذه ليست حال الجميع. وتجدر الإشارة إلى أنه من اللبنانيين من يعتبر أن الحضور السوري يصارعه على الرغيف والأرض والأوكسجين وعلى كل مفاصل الحياة بما فيها اليد العاملة. ولا شك بأن بعض السوريين يبذلون جهدا للاندماج لكن التجربة لا تنجح مع الجميع".

وينذر الحجار من ردة فعل الشارع اللبناني: "لقد بدأ اللبناني يخاف من سعي البعض لتطبيق استراتيجية الوطن البديل، ونحن نرفض كل محاولة تندرج في هذا السياق، ونوجه رسالة للجمعيات والمفوضيات العالمية أن لا تسول لأحد نفسه توطين السوري هنا وأي مسؤول يسعى لذلك غير مرحب به مهما علا شأنه. ولتنتبه الجمعيات التي تسعى لمشاريع الدمج من الحراك الشعبي اللبناني لأن طاقة لبنان على الاستقبال محدودة علما بأن صدره واسع جدا. ولا يتهمنا أحد لبنان بالعنصرية فقد رأينا بأم أعيننا كيف تعاطى الآخرون مع ملف النازحين حول العالم".

 

لبنان لم يعد يتحمل!

 

بغياب أي "ترانزيت" بين المجتمع السوري الذي دخل دوامة الحرب في السنين الماضية، والمجتمع اللبناني الذي يحاول النجاة في إطار اجتماعي واقتصادي وسياسي متشنج، يؤكد الوزير الحجار أن "النازحين يعيشون في لبنان أسوأ أزمة عرفتها البشرية وهم بحاجة للعودة الى بلادهم بشكل آمن وتحت حماية المجتمع الدولي. وهذه الأزمة تترجم على مستويات عدة، منها المستوى التعليمي والنفسي. إن وضع السوريين خصوصا في المخيمات ينذر بأجيال وأجيال تعاني من مشاكل تتفاقم وتتطلب تأهيلا سريعا من أجل العودة إلى الوطن، وإلا ستستمر القضايا غير المفهومة بالتطور ومن المشاكل تلك المرتبطة بالعلاقة بين الرجل والمرأة والتي انتهت بكثير من الطلاقات في الغرب مع إسقاط السلطة الذكورية، وحرمة العيش والخصوصية التي لا يصعب الحفاظ عليها داخل الخيم التي تتقاسمها العائلات أو التي يشهد فيها الطفل على إقامة والده مع أكثر من زوجة وعلى العنف الأسري والزواج المبكر الذي يخرق شرعات حقوق الإنسان".

بالنسبة للوزير، تضاعف خطورة هذا الوضع من تمسك الجانب اللبناني "بالعودة ورفض البقاء السوري بشكل دائم، مع التشديد على تنظيم وضع المقيمين هنا بعيدا عن المخيمات التي لا تشكل بيئة سليمة وتطرح علامات استفهام حول المواكبة النفسية للنازحين".

ونفى الحجار توفر معلومات دقيقة حول بعض التقارير التي تفيد بأن الإحصاءات حول الولادات في لبنان تظهر مولودا لبنانيا مقابل كل 5 مواليد سوريين، لكنه أكد أن "لبنان وسوريا دولتان شقيقتان وكل بلد يتمنى الحفاظ على طاقاته وقدراته واليوم في ظل الأزمة الشديدة التي تعصف بلبنان، تزداد التشنجات كما يقول المثل اللبناني "القلة بتجيب النقار" (بمعنى أن الشح في الموارد يزيد من المشاكل)".

الجانب الديموغرافي يسترعي الانتباه والقلق بالنسبة للدكتور عتريسي أيضا. من وجهة نظر علم الاجتماع، "هناك مستويات مختلفة من الإنجاب ما بين اللبنانيين والسوريين. والإنجاب من العادات لدى السوريين، حيث يحتاجون لليد العاملة في الأرياف. ولا شك بأن الأمر يصنع فارقا كبيرا على المستوى الديموغرافي في بلد بحجم لبنان وبتوازناته الطائفية الدقيقة. لذلك يعبر البعض عن مخاوف، حيث سيتغير الكثير في السنوات العشر المقبلة وسيصبح المليون والنصف نازح زهاء المليونين، وهذا من شأنه أن يغير واقع لبنان الديموغرافي الطائفي المسلم المسيحي. ولا شك بأن هذه الحسابات موجودة في أذهان الكثير من القوى والقيادات السياسية والدينية في لبنان وهي تؤكد التوجهات العدائية والعنصرية ضد النازحين، مع الإشارة إلى أن هؤلاء سينعمون بحياة كريمة وأفضل في بلادهم مهما ساءت الظروف مقارنة بحياتهم ههنا في الخيم ومواجهتهم الاتهامات والضغوط باستمرار".

 

على أعتاب أوروبا

 

وحذر الوزير من تفاقم أزمة اللاجئين التي تهدد أوروبا بأسرها، مذكرا بأن الوضع في البلاد لن يسمح ببقاء النازحين  لوقت طويل: "المئة دولار لا تشتري الصمت والمئات يستمرون بالذهاب بشكل غير شرعي ويوميا بحثا عن الأمل في الغرب. وقد يجد هذا الأخير نفسه مجبرا على مواجهة زهاء 12 مليونا يتدفقون من تركيا مرورا بسوريا وعبر لبنان. لذلك على العالم أن يعدل في ميزانه وأن يسرع من الخطوات التي تساهم بالعدالة والتي تكرم النازح والمضيف على حد سواء."

ويتقاطع كلام الوزير الحجار مع قراءة عتريسي الذي يشدد على ضرورة تسهيل التعايش، مع التذكير بالوجود "المؤقت" للنازح في لبنان. يقول: "خلال 10 سنوات، أمضى السوري حياة طبيعية تقريبا بفضل المساعدات التي تقدمها الأمم المتحدة. ومع ذلك، ليس الهدف هو وضع خطط لبقاء طويل الامد. وبالتالي، يجب السعي للعودة الآمنة والكريمة للسوريين بالتعاون مع النظام أو الأمم المتحدة حتى يتجاوز لبنان هذه الأزمة".

 

مواضيع ذات صلة:

قطار خاص بنقل السياح في محيط العاصمة السورية دمشق- أرشيف 2015
قطار خاص بنقل السياح في محيط العاصمة السورية دمشق- أرشيف 2015

في يناير من العام الجاري، أصدرت وزارة السياحة في حكومة النظام السوري، بياناً قالت فيه، إن أكثر من 2.17 مليون سائح من جنسيات عربية وأجنبية، زاروا المناطق الخاضعة لسيطرة النظام خلال عام 2023.

وهذه الأرقام بلغة المال، حققت نحو 125 مليار ليرة سورية، بنسبة ارتفاع وصلت إلى 120% عن عام 2022، بحسب بيان الوزارة.

والكثير من هؤلاء السياح، وفق مصادر إعلامية محلية وغربية، تستهويهم فكرة السفر إلى دول تعاني من الحروب والأزمات أو الدمار، بدافع الفضول وأحياناً محاولة كسر الصورة النمطية، التي تصم العديد من الدول بأنها "غير آمنة" و"خطرة جداً" أو يتم التحذير من السفر إليها تحت مختلف الظروف.

عام 2016، نشر موقع "ميدل إيست آي" تقريراً يشرح عن هذا النوع من السياحة، الذي أسماه بـ"السياحة المتطرّفة"، مشيراً إلى وجود رغبة لدى العديد من السيّاح الغربيين باستكشاف مغامرات جديد، عبر زيارة المواقع التي دمّرتها الحرب وحوّلتها إلى أنقاض.

وتناول سوريا كأحد النماذج، باعتبارها وجهة للكثير من السياح الغربيّين، الذين يدخلونها "تهريباً" عبر لبنان بمساعدة سائقين وأدلّاء، بهدف الوصول إلى أماكن طالتها الحرب وغيّرت معالمها، دون اللجوء إلى دخول البلاد بشكل قانوني.

وهناك شركة سياحية تروّج لزبائنها أنها ستقدم لهم "تجارب مختلفة من السفر والاستكشاف في مناطق ليست تقليدية للسياحة"، وتطرح إعلانات للسياحة في اليمن والصومال وسوريا والعراق وأفغانستان، تحت عنوان "السفر المُغامر"، لاجتذاب شريحة خاصة من عشاق وهواة هذه التجارب المثيرة للجدل.

"سياحة الدمار" صارت تمثل للراغبين في زيارة سوريا "بديلاً" عن زيارة المناطق الأثرية التقليدية التي كانت أكثر جذباً قبل اندلاع الحرب الأهلية، خصوصاً أن العديد منها تعرض لأضرار ودمار دون أن يتم ترميمه وإعماره وتهيئته لاستقبال السياح لاحقاً، كما أن الوصول لبعضها بات شبه مستحيل.

ترويج للنظام أم إدانة له؟

برأي الصحافي الاستقصائي السوري مختار الإبراهيم، فإن "مشاهدة مناظر الدمار ومواقع الخراب السوري بغرض السياحة، تعكس استخفافاً كبيراً بآلام الضحايا ومآسي ملايين السوريين الذين تضرّروا جرّاء الحرب".

ويقول لـ"ارفع صوتك": "زيارة سوريا بغرض السياحة بشكل عام تُقدّم خدمة كبيرة للنظام السوري من حيث الترويج لسرديات انتصاره في الحرب، وعودة سوريا إلى ما كانت عليه".

"فالنظام السوري مستعد أن يبذل الكثير في سبيل الترويج للسياحة في مناطقه، فما بالك أن يأتي السياح ويرفدوا خزينته على حساب كارثة عاشها ملايين السوريين!"، يتابع الإبراهيم.   

ويحمّل قسماً كبيراً من المسؤولية لبعض المؤثرين على "يوتيوب" و"تيك توك"، الذين "روّجوا خلال السنوات الماضية للسياحة في سوريا وإظهار أنها آمنة عبر عدسات كاميراتهم، لحصد المشاهدات" وفق تعبيره.

من جانبه، يقو الصحافي السوري أحمد المحمد: "على الرغم من أن سياحة الموت تخدم النظام من جهة ترويج أن مناطقه باتت آمنة لعودة السيّاح، إلا أنها تُدينه أيضاً". 

ويوضح لـ"ارفع صوتك" أن "مشاهدة مناظر الدمار بغرض السياحة يُمثّل توثيقاً حيادياً للتدمير الذي أحدثته آلة النظام العسكرية في البلاد".

وطالما تعرضت مصادر المعارضة السورية في توثيق الدمار للتشكيك من قبل النظام نفسه، بحسب المحمد، مردفاً "تم اتهامهم بالفبركة الإعلامية، بينما منع النظام خلال السنوات الماضية وسائل الإعلام الأجنبية من التغطية الحرّة لمجريات".

في النهاية، يتابع المحمد "مهما بذل النظام من جهود ترويجية حول عودة مناطقه آمنة، فإن واقع الحرب السوري أكبر من الترويج بكثير، لا سيما أننا في كل فترة قصيرة، نسمع عن حالات اختطاف لسيّاح قدموا للترفيه فوق معاناة السوريين".